الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فهذه الأخبار والآثار تعرفك خطر الأمر بسبب دقائق النفاق والشرك الخفي وأنه لا يؤمن منه حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل حذيفة عن نفسه وأنه هل ذكر في المنافقين وقال أبو سليمان الداراني سمعت من بعض الأمراء شيئا فأردت أن أنكره فخفت أن يأمر بقتلي ، ولم أخف من الموت ولكن خشيت أن يعرض لقلبي التزين للخلق عند خروج روحي فكففت .

وهذا من النفاق الذي يضاد حقيقة الإيمان وصدقه وكماله وصفاءه لا أصله .

فالنفاق نفاقان :

أحدهما يخرج من الدين ويلحق بالكافرين ، ويسلك في زمرة المخلدين في النار .

والثاني يفضي بصاحبه إلى النار مدة أو ينقص من درجات عليين ويحط من رتبة الصديقين وذلك مشكوك فيه ولذلك حسن الاستثناء فيه .

وأصل هذا النفاق تفاوت بين السر والعلانية والأمن من مكر الله والعجب وأمور أخر لا يخلو عنها إلا الصديقون .

التالي السابق


(وهذه الأخبار) التي تلوناها لك، (والآثار) التي عرفناك بها (تعرفك) أي: تنبهك على معرفة (خطر) هذا (الأمر) وعظمه (بسبب دقائق النفاق) المهلكة، (و) نوابغ (الشرك الخفي) من الرياء والتصنع والتزين ومخالفة الظاهر الباطن، (وأنه لا يؤمن منه) أي: لا سبيل إلى الأمن منه والحفظ عنه (حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه) مع جلالة قدره وشهرة فضله وأنهأحد المشهود لهم بالجنة، (يسأل حذيفة) بن اليمان -رضي الله عنه- (عن نفسه وأنه هل ذكر في المنافقين) ، وذلك لأن حذيفة كان اختصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم المنافقين، وتقدم أن عمر ما كان يصلي على جنازة حتى يحضرها حذيفة، فإذا حضرها قال: صلوا على صاحبكم، وفي كتاب السنة لللالكائي: أخبرنا الحسن بن عثمان، أخبرنا أحمد، حدثنا بشر بن موسى، حدثنا معاوية، حدثنا أبو إسحاق، قال: سألت الأوزاعي عن أشياء، فأجاب عنها، قال الأوزاعي، وقد خاف عمر بن الخطاب على نفسه النفاق، قلت: إنهم يقولون: لم يخف أن يكون يومئذ منافقا، حين سأل حذيفة، ولكن خاف أن يبتلى بذلك قبل أن يموت، قال: هذا قول أهل البدع .

(وقال أبو سليمان الداراني) تقدمت ترجمته، في كتاب العلم (سمعت من بعض الأمراء شيئا) ، ونص القوت: سمعت قائلا يقول يعني: بعض الأمراء يتكلم على المنبر بما لا ينبغي، (فأردت أن أنكر) عليه، (فخفت) ونص القوت: فخشيت (أن يأمر بقتلي، ولم أخف من الموت) ، ونص القوت: فلم يكن لي خيفة الموت، (ولكن خشيت أن يعرض لقلبي التزين للخلق عند خروج روحي فكففت) عن ذلك .

(وهذا) الذي ذكرناه (من النفاق الذي يضاد حقيقة الإيمان وصدقه وكماله وصفته) ويطفئ نوره ويحرم مزيده، ويحبط الأعمال، ويوجب المقت، والإعراض، وهو الرياء والمداهنة، والتصنع للخلق (لا أصله) الذي هو التصديق الجازم بالقلب. (فالنفاق) إذا (نفاقان: أحدهما) الذي (يخرج عن الدين ويلحق بالكافرين، ويسلك في زمرة المخلدين في النار) ، وهو الشك في دين الله عز وجل، والرد لشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

(والثاني) الذي (يفضي بصاحبه إلى النار إلى مدة) معلومة (أو يفض) ، وفي بعض النسخ، أو ينقص (من درجات عليين ويحط عن رتبة الصديقين) ، وهو اختلاف القلوب وائتلاف الألسن، ومخالفة ما ينهى عنه، وزيادة الظواهر على السرائر، وكان سهيل يقول: المرائي حقا هو [ ص: 274 ] الذي يحسن ظاهره حتى لا تنكر العامة عليه ولا العلماء من ظاهره شيئا، وباطنه خراب، وقال عمر مولى غفرة: أقرب الناس إلى النفاق من إذا زكي بما ليس فيه ارتاح لذلك قلبه، وأبعد الناس منه من يتخوف أن لا ينجيه مما هو فيه، وهذا المعنى من النفاق هو الذي خافه السلف، وكانوا منه على إشفاق، (وذلك مشكوك فيه) بالقلة والكثرة، (فلذلك حسن الاستثناء) .

ثم قال: (وأصل النفاق) من النفق محركه سرب في الأرض يكون له مخرج من موضع آخر، ونافق اليربوع، إذا أتى النافقاء، ومنه قيل: نافق الرجل إذا أظهر الإسلام لأهله، وأضمر غير الإسلام، وأتاه مع أهله أيضا، فقد خرج منه بذلك، ثم استعمل في معنى (تفاوت بين السر والعلانية) ، كما نقل ذلك عن الحسن البصري. ومنهم من عبره بتفاوت بين القول والعمل، وهو قريب، (و) قال بعضهم: هو (الأمن من مكر الله تعالى) . وحقيقة المكر معنيان: أحدهما أن يظهر شيئا ويخفي ضده، والثاني أن يكشف ما كان ستره ويفشي ما كان أسره بعد الطمأنينة والغرة، وقد قال سيدنا إبراهيم عليه السلام في أحد الوجهين من تفسير قوله: ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي ، ومثله قال شعيب عليه السلام وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ، ثم عللا جميعا بسعة العلم، وسبقه لقصور علمهما عن علمه، بعد خوف المشيئة فلم يأمنا أن يكون في سعة علم الله تعالى، وفي خفي مشيئته ضد ما ظهر لهما من حكمته، فيدركهما ما سبق في علمه، وأنه لا مشيئة لهما في مشيئته، وهذا هو خوف المكر فالأنبياء عليهم السلام مع فضلهم ومكانتهم يستثنون في الكفر خيفة المكر ولا يستثني الضيف الجاهل في الإيمان. (و) قيل: أصل النفاق (العجب) ، وهو تصور استحقاق الشخص رتبة لا يكون مستحقا لها، (وأمور أخر) هي دقائق لا يعرفها إلا العارفون، (ولا يخلو عنها إلا الصديقون) ومن شاء الله من أرباب الكمال من الواصلين حشرنا الله في زمرتهم بمنه وكرمه .



(تنبيه)

قد بقي على المصنف في هذا الوجه ما يحسن إيراده، فمن ذلك ما أورده البخاري معلقا في كتاب الإيمان، فقال: وقال إبراهيم التميمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا، وقد وصله البخاري نفسه في تاريخه، عن أبي نعيم، وأحمد في الزهد، عن ابن مهدي، كلاهما عن سفيان الثوري، عن أبي حيان التميمي عنه، قال البخاري أيضا ويذكر عن الحسن قال: ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق، وقال الفريابي: حدثنا قتيبة، حدثنا جعفر بن سليمان، عن المعلى بن زياد، قال: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو، ما مضى مؤمن قط، ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن .

وأخرجه أحمد بلفظ: والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق، ولا أمنه إلا منافق، وقيل لأحمد بن حنبل: ما معنى الاستثناء في الإيمان؟ قال: أليس الإيمان قول وعمل؟ قيل: نعم، قال: فالتصديق بالقول والاستثناء في العمل، ونقش بعض أولاد التابعين على خاتمة فلان: لا يشرك بالله شيئا، فقال أبوه: هذا أقبح من الشرك، والله أعلم .




الخدمات العلمية