الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          مناسبة هذه السورة لما قبلها :

                          من نظر ترتيب السور كلها في المصحف يرى أنه قد روعي في ترتيبها الطول والتوسط والقصر في الجملة ، ومن حكمته أن في ذلك عونا على تلاوته وحفظه ، فالناس يبدءون بقراءته من أوله فيكون الانتقال من السبع الطوال إلى المئين فالمثاني فالمفصل أنفى للملل وأدعى إلى النشاط ، ويبدءون بحفظه من آخره لأن ذلك أسهل على الأطفال ، ولكن في كل قسم من الطوال والمئين والمفصل تقديما لسور قصيرة على سور أطول منها ، ومن حكمة ذلك إنه قد روعي التناسب في معاني السور ، مع التناسب في الصور ، أي مقدار الطول والقصر .

                          وقد تقدم هذه السورة أربع السور الطولى ، وهي بعد الفاتحة التي لا يراعى مناسبتها لما بعدها وحده; إذ هي فاتحة القرآن كله ، وهذه السور الأربع مدنية وبينها من التناسب في الترتيب ما بيناه . وقد جاء بعدهن سورتا الأنعام والأعراف المكيتان ، وبعدهما سورتا الأنفال والتوبة المدنيتان ، ويقعان في أوائل الربع الثاني من القرآن ، وما بعدهما من سور النصف الأول من القرآن كله مكي ، وسور الربع الثالث كلها مكية أيضا إلا سورة النور فإنها مدنية ، وإلا سورة الحج فهي مختلف فيها والتحقيق إنها مختلطة ، وأما الربع الرابع فهو مختلط وأكثره سور المفصل التي تقرأ كثيرا في الصلاة ، فينبغي بيان مناسبة جعل سورتي الأنعام والأعراف بعد الأربع المدنية الأولى وقبل السورتين المدنيتين اللتين بعدهما ثم مناسبة الأنعام للمائدة خاصة .

                          سورة البقرة أجمع سور القرآن لأصول الإسلام وفروعه ، ففيها بيان التوحيد والبعث والرسالة العامة والخاصة وأركان الإسلام العملية ، وبيان الخلق والتكوين وبيان أحوال أهل الكتاب والمشركين والمنافقين في دعوة القرآن ، ومحاجة الجميع وبيان أحكام المعاملات [ ص: 241 ] المالية والقتال والزوجية ، والسور الطوال التي بعدها متممة لما فيها ، فالثلاث الأولى منها مفصلة لكل ما يتعلق بأهل الكتاب ، ولكن البقرة أطالت في محاجة اليهود خاصة ، وسورة آل عمران أطالت في محاجة النصارى في نصفها الأول ، وسورة النساء حاجتهم في أواخرها ، واشتملت في أثنائها على بيان شئون المنافقين مما أجمل في سورة البقرة ، ثم أتمت سورة المائدة محاجة اليهود والنصارى فيما يشتركان فيه وفيما ينفرد كل منهما به . ولما كان أمر العقائد هو الأهم المقدم في الدين ، وكان شأن أهل الكتاب فيه أعظم من شأن المشركين ، قدمت السور المشتملة على محاجتهم بالتفصيل ، وناسب أن يجيء بعدها ما فيه محاجة المشركين بالتفصيل وتلك سورة الأنعام لم تستوف ذلك سورة مثلها ، فهي متممة لشرح ما في سورة البقرة مما يتعلق بالعقائد ، وجاءت سورة الأعراف بعدها متممة لما فيها ومبينة لسنن الله تعالى في الأنبياء المرسلين وشئون أممهم معهم وهي حجة على المشركين وأهل الكتاب جميعا ، ولكن سورة الأنعام فصلت الكلام في إبراهيم الذي ينتمي إليه العرب وأهل الكتاب في النسب والدين ، وسورة الأعراف فصلت الكلام في موسى الذي ينتمي إليه أهل الكتاب ويتبع شريعته جميع أنبيائهم حتى عيسى المسيح عليهم الصلاة والسلام .

                          ولما تم بهذه الصورة تفصيل ما أجمل في سورة البقرة من العقائد في الإلهيات والنبوات والبعث ، ناسب أن يذكر بعدها ما يتم ما أجمل بها من الأحكام ولا سيما أحكام القتال والمنافقين ، وكان قد فصل بعض التفصيل في سورة النساء ، فكانت سورتا الأنفال والتوبة هما المفصلتين لذلك وبهما يتم ثلث القرآن .

                          وقد علم بما شرحناه أن ركن المناسبة الأعظم بين سورتي المائدة والأنعام أن المائدة معظمها في محاجة أهل الكتاب ، والأنعام معظمها بل كلها في محاجة المشركين ، ومن التناسب بينهما في الأحكام أن سورة الأنعام قد ذكرت أحكام الأطعمة المحرمة في دين الله والذبائح بالإجمال ، وسورة المائدة ذكرت ذلك بالتفصيل وهي قد أنزلت أخيرا كما هو معلوم ومن التفصيل في هذه المسألة ما في سورة الأنعام من الكلام على محرمات الطعام عند المشركين ، وما في المائدة من الكلام على طعام أهل الكتاب .

                          هذا ما أراه من وجوه التناسب في الكليات بين هذه السورة التي شرعت في تفسيرها وبين ما قبلها مباشرة ، وما قبلها وما بعدها مطلقا . ثم رجعت إلى ما ذكر في كتب التفسير من ذلك دون تصفح آيات السورة فرأيت في روح المعاني ما نصه :

                          " ووجه مناسبتها لآخر المائدة على ما قاله بعض الفضلاء أنها افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وهما متلازمان كما قال سبحانه : ( وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ) ( 39 : 75 ) وقال الجلال السيوطي في وجه المناسبة : أنه تعالى لما ذكر في آخر . [ ص: 242 ] المائدة ( لله ملك السماوات والأرض وما فيهن ) على سبيل الإجمال ، افتتح جل شأنه هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله ، فبدأ سبحانه بذكر خلق السماوات والأرض ، وضم تعالى إليه أنه جعل الظلمات والنور وهو بعض ما تضمنه ما فيهن ، ثم ذكر عز اسمه أنه خلق النوع الإنساني وقضى له أجلا وجعل له أجلا آخر للبعث ، وأنه جل جلاله منشئ القرون قرنا بعد قرن ، ثم قال تعالى : ( قل لمن ما في السماوات والأرض ) إلخ . فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان ، ثم قال عز من قائل : ( وله ما سكن في الليل والنهار ) فأثبت أنه جل وعلا ملك جميع المظروفات لظرف الزمان ، ثم ذكر سبحانه خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ، ثم خلق النوم واليقظة والموت ، ثم ذكر عز وجل في أثناء السورة من الإنشاء والخلق لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح وفلق الحب والنوى وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن .

                          " وذكر عليه الرحمة وجها آخر في المناسبة أيضا ، وهو أنه سبحانه لما ذكر في سورة المائدة ( ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) ( 5 : 87 ) إلخ . وذكر جل شأنه بعده ( ما جعل الله من بحيرة ) إلخ . فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله تعالى افتراء على الله عز شأنه ، وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا من ذلك فيشابهوا الكفار في صنعهم ، وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز ساق جل جلاله هذه السورة لبيان حال الكفار في صنعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ، ثم جادلهم فيه وأقام الدلائل على بطلانه وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة ، فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته تلك السورة من ذلك على سبيل الإجمال وتفصيلا وبسطا وإتماما وإطنابا ، وافتتحت بذكر الخلق والملك; لأن الخالق المالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعا وتحريما وتحليلا ، فيجب ألا يعترض عليه سبحانه بالتصرف في ملكه .

                          " ولهذه السورة أيضا اعتلاق من وجه بالفاتحة لشرحها إجمال قوله تعالى : ( رب العالمين ) وبالبقرة لشرحها إجمال قوله سبحانه ( الذي خلقكم والذين من قبلكم ) ( 2 : 21 ) وقوله عز اسمه : ( الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) ( 2 : 29 ) وبآل عمران من جهة تفصيلها لقوله جل وعلا : ( والأنعام والحرث ) ( 3 : 14 ) وقوله تعالى : ( كل نفس ذائقة الموت ) ( 3 : 185 ) إلخ . وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات ، وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها .

                          " وقد يقال : إنه لما كان قطب هذه السورة دائرا على إثبات الصانع ودلائل التوحيد حتى قال أبو إسحاق الإسفراييني : إن في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد ناسبت تلك [ ص: 243 ] السورة من حيث إن فيها إبطال ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد وافترائهم الباطل .

                          " وهذا ـ ثم إنه لما كانت نعمه سبحانه وتعالى مما تفوت الحصر ، ولا يحيط بها نطاق العد ، إلا أنها ترجع إجمالا إلى إيجاد وإبقاء في النشأة الأولى ، وإيجاد وإبقاء في النشأة الآخرة وأشير في الفاتحة التي هي أم الكتاب إلى الجميع ، وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول ، وفي الكهف إلى الإبقاء الأول ، وفي سبأ إلى الإيجاد الثاني ، وفي فاطر إلى الإبقاء الثاني ابتدئت هذه الخمس بالتحميد ، ومن اللطائف أنه سبحانه وتعالى جعل في كل ربع من كتابه الكريم المجيد سورة مفتتحة بالتحميد " انتهى وستعلم ما فيه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية