الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 144 ] 24 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله عليه السلام مما كان أمر به عمر بن أبي سلمة من الأكل مما يليه من الطعام دون ما سواه منه وما يدخل في هذا المعنى سواه

151 - حدثنا محمد بن عمرو بن يونس الكوفي ، أبو جعفر المعروف بالسوسي ، حدثنا أبو معاوية الضرير ، عن هشام بن عروة ، عن أبي وجزة ، عن رجل من مزينة ، عن عمر بن أبي سلمة ، قال : { دخلت على النبي عليه السلام ، وهو يأكل في بيت أمي فقال : اجلس يا بني ، سم الله تعالى ، وكل بيمينك ، وكل مما يليك ، قال : فما زالت إكلتي بعد } .

[ ص: 145 ]

152 - حدثنا فهد بن سليمان ، حدثنا هشام بن عبد الواحد ، حدثنا يزيد بن عبد العزيز ، عن هشام ، عن أبي وجزة ، عن جار لعمر بن أبي سلمة ، عن عمر بن أبي سلمة ، ثم ذكر مثله .

قال أبو جعفر : فكان هذا الحديث عندنا فاسد الإسناد ، إذ كان من رواية جار عمر بن أبي سلمة الذي لم يسم لنا فيه ، ولم نعرفه ، فطلبناه من رواية غير أبي معاوية ، وغير يزيد بن عبد العزيز ، عن هشام .

153 - فوجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا قال : حدثنا عبد الله بن الصباح بن عبد الله قال : حدثنا عبد الأعلى ، يعني : ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معمر ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عمر بن أبي سلمة ، { أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده طعام ، فقال : ادنه يا بني ، فسم الله عز وجل ، وكل بيمينك ، وكل مما يليك } .

قال أبو جعفر : فكان ظاهر هذا الحديث لولا ما قد عارضه بما قد رويناه قبله مستقيم الإسناد ، ولكن لما عارضه في إسناد ما رويناه قبله كافأه ، ووجب تنافيه وإياه لذلك ، ثم طلبناه من غير حديث هشام .

154 - فوجدنا أبا أمية قد حدثنا قال : حدثنا خالد بن مخلد القطواني ، قال : حدثنا مالك ، عن أبي نعيم وهب بن كيسان ، [ ص: 146 ] عن عمر بن أبي سلمة أن النبي عليه السلام قال له : { سم الله ، وكل مما يليك } .

155 - ووجدنا إبراهيم بن أبي داود ، قد حدثنا قال : حدثنا يحيى بن صالح الوحاظي ، حدثنا مالك ، عن وهب بن كيسان ، عن عمر بن أبي سلمة ، { أن النبي عليه السلام قال له : ادن فسم الله ، وكل بيمينك ، وكل مما يليك } .

فكان هذا الحديث حسن الإسناد ، غير أنا قد وجدناه من رواية ابن وهب ، عن مالك في " موطئه " ، عن وهب بن كيسان موقوفا .

156 - كما حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب أن مالكا حدثه عن وهب بن كيسان أنه قال : { أتي رسول الله عليه السلام بطعام ، ومعه ربيبه عمر بن أبي سلمة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : سم الله ، وكل مما يليك } .

ثم طلبناه من غير حديث مالك عن وهب .

157 - فوجدنا روح بن الفرج أبا الزنباع ، قد حدثنا قال : حدثنا [ ص: 147 ] حامد بن يحيى البلخي ، حدثنا ابن عيينة ، حدثنا الوليد بن كثير المديني أنه سمع وهب بن كيسان قال : سمعت عمر بن أبي سلمة يقول : { كنت غلاما يتيما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأكلت معه ، فكانت يدي تطيش في الصحفة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا غلام ، إذا أكلت فسم الله ، وإذا أكلت فكل بيمينك ، وإذا أكلت فكل مما يليك . قال : فما زالت تلك طعمتي بعد } .

158 - ووجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا قال : حدثنا محمد بن منصور الجواز ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا الوليد بن كثير قال : سمعت وهب بن كيسان قال : سمعت عمر بن أبي سلمة يقول : { كنت غلاما في حجر رسول الله عليه السلام ، وكانت يدي تطيش في الصحفة ، فقال لي النبي عليه السلام : يا غلام ، سم الله ، وكل بيمينك ، وكل مما يليك } .

فاستقام لنا إسناد هذا الحديث من هذه الجهة ، ثم تأملنا بعد ذلك [ ص: 148 ] حديثا روي عن رسول الله عليه السلام مما يدخل هذا المعنى .

159 - وهو ما قد حدثنا أبو أمية ، حدثنا قبيصة بن عقبة ، عن سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله عليه السلام : { إن البركة وسط القصعة ، فكلوا من نواحيها ، ولا تأكلوا من رأسها } .

160 - ووجدنا محمد بن خزيمة قد حدثنا قال : حدثنا حجاج بن منهال قال : حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، - ولم يذكر ابن عباس - أن رسول الله عليه السلام قال : { كلوا من أسفل الصحفة ، فإن البركة تنزل أعلاها } .

فاختلف الثوري وحماد بن سلمة على عطاء ، وكلاهما حجة فيه في إسناد هذا الحديث ، فوصله الثوري ، ووقفه حماد على ابن جبير .

[ ص: 149 ]

161 - ووجدنا محمد بن خزيمة قد حدثنا قال : حدثنا حجاج بن منهال قال : حدثنا همام بن يحيى ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { كلوا من حافات القصعة ، فإن البركة تنزل من وسطها } .

قال أبو جعفر : وإنما أدخلنا في هذا الباب ما رواه همام ، عن عطاء ، وإن كان الذين يعدونهم الحجة في عطاء بن السائب أهل العلم بالإسناد إنما هم أربعة دون من سواهم : شعبة ، والثوري ، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ؛ لأن سماع همام من عطاء إنما كان بالبصرة لما قدمها عليهم ، وقد كان أيوب السختياني لما قدمها عليهم عطاء قال للناس : إيتوه وسلوه عن حديثه ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو في التسبيح في دبر الصلاة .

كما قد حدثنا محمد بن علي بن داود ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا حماد بن زيد قال : قدم علينا عطاء بن السائب البصرة فقال لنا أيوب : إيتوه فاسألوه عن حديث التسبيح . قال القواريري : يعني حديث أبيه ، عن عبد الله بن عمرو .

[ ص: 150 ] قال أبو جعفر : فقوي في قلوبنا سماع همام منه إذ كان بالبصرة ؛ لأنه إنما كان اختلاطه بعد رجوعه إلى الكوفة .

وتأملنا حديث ابن عباس هذا هل ضاد حديث عمر بن أبي سلمة الذي رويناه عنه ؟ إذ كان في حديث ابن عباس { كلوا من نواحي الصحفة } ، فلم يوجد في ذلك ما يوجب تضاد حديث عمر ، إذ كان قد يحتمل قوله عليه السلام : { كلوا من نواحي الصحفة } أي : يأكل كل واحد منكم مما يليه من نواحيها ، لا يخرج عنه إلى ما سواه من نواحيها .

وقد يحتمل أيضا أن يكون ما في حديث ابن عباس هذا يراد به الأكل وحده ، لا الأكل مع غيره ، إذ كان تعديه في أكله مع غيره إلى غير ما يليه من القصعة التي يأكل معه فيها سوء أدب عليه ، وإذا كان يأكل وحده لم يكن في أكله من حيث أكل من الصحفة سوى وسطها سوء أدب على أحد .

ثم تأملنا ما روي عن رسول الله عليه السلام في هذا الباب غير هذين الحديثين : هل فيه ما يدل على شيء مما طلبناه في حديث ابن عباس منهما . ؟

162 - فوجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا قال : حدثنا قتيبة بن سعيد ، عن مالك بن أنس ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة : أنه سمع أنس بن مالك يقول : { إن خياطا دعا رسول الله عليه السلام لطعام صنعه . قال أنس : فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام ، فقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزا من شعير ، وقديدا فيه دباء . قال أنس : فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع [ ص: 151 ] الدباء من حول الصحفة ، فلم أزل أحب الدباء من يومئذ } .

فكان في هذا الحديث ذكر { أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير ما كان يليه من القصعة التي كان يأكل فيها ذلك الطعام } . فعقلنا بذلك أن ما في حديث عمر بن أبي سلمة مما { نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه عن الأكل من غير ما يليه من القصعة التي كان يأكل معه فيها } ، إنما كان لأكله مع غيره ، وأن ما في حديث أنس بن مالك من أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير ما يليه من القصعة التي كان يأكل فيها إنما كان لأكله وحده ، فخرج بذلك جميع ما رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب عن التضاد ، وعقلنا أنه على معنيين كل واحد منهما خلاف المعنى الآخر ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية