الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 270 ] 324 - باب بيان مشكل قول الله عز وجل ما ننسخ من آية أو ننسأها الآية بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يستدل به على ذلك

قال أبو جعفر : قال أهل العلم بالتأويل إن النسخ وجهان .

أحدهما : نسخ العمل بما في الآي المنسوخة وإن كانت الآي المنسوخة قرآنا كما هي .

والآخر : إخراجها من القرآن وهي محفوظة في القلوب أو خارجة من القلوب غير محفوظة ، وهذان الوجهان موجودان في الآثار المروية في هذا الباب .

فأما المنسوخ من القرآن مما نسخ العمل به وبقي قرآنا هو ، فمثل [ ص: 271 ] قول الله عز وجل في سورة الأنفال : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا ، ثم نسخ الله ذلك بقوله : الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ومثل ذلك قوله عز وجل في سورة المزمل : يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ، ثم نسخ ذلك بقوله : علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه ، فهذا المنسوخ العمل به الباقي قرآنا كما كان قبل ذلك .

وأما المنسوخ الذي يخرج من القرآن فينقسم قسمين .

أحدهما : يخرج من قلوب المؤمنين حتى لا يبقى فيها منه شيء ، ومن ذلك ما قد

2034 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال :

حدثني أبو أمامة بن سهل ونحن في مجلس سعيد بن المسيب لا ينكر ذلك أن رجلا كانت معه سورة فقام من الليل فقرأ بها فلم يقدر عليها ، وقام الآخر فقرأ بها فلم يقدر عليها ، وقام الآخر فقرأ بها فلم يقدر عليها فأصبحوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا عنده فقال بعضهم : يا رسول الله قمت البارحة لأقرأ سورة كذا وكذا فلم أقدر [ ص: 272 ] عليها ، وقال الآخر : ما جئت إلا لذلك ، وقال الآخر : وأنا يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها نسخت البارحة ، هكذا حدثنا يونس بهذا الحديث فلم يتجاوز به أبا أمامة ، وأصحاب الحديث يدخلون هذا في المسند ؛ لأن أبا أمامة ممن ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ويقول أهله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سماه أسعد باسم أبي أمامة أسعد بن زرارة .

وقد روى هذا الحديث شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري فأدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي أمامة رهطا من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

2035 - كما حدثنا فهد بن سليمان والليث بن عبدة قالا : حدثنا أبو اليمان ، قال : حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، قال : حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أن رهطا من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه أنه قام رجل منهم في جوف الليل يريد أن يفتتح سورة قد كان وعاها فلم يقدر منها على شيء إلا بسم الله الرحمن الرحيم فأتى باب النبي صلى الله عليه وسلم حين أصبح يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ثم جاء آخر ، وآخر حتى اجتمعوا فسأل بعضهم بعضا ما جمعهم ؟ فأخبر بعضهم بعضا بشأن تلك السورة ثم أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبرهم وسألوه عن السورة فسكت ساعة لا يرجع إليهم شيئا ثم [ ص: 273 ] قال : نسخت البارحة فنسخت من صدورهم ومن كل شيء كانت فيه .

والقسم الآخر أن يخرج من القرآن ويبقى في صدور المؤمنين على أنه غير قرآن .

ومن ذلك ما قد حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد ، قال : حدثنا نافع بن عمر الجمحي ، عن ابن أبي مليكة ، عن المسور بن مخرمة ، قال : قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه لعبد الرحمن بن عوف : ألم نجد فيما أنزل الله علينا : جاهدوا كما جاهدتم أول مرة ؟ قال بلى ، قال فإنا لا نجدها ، قال أسقطت فيما أسقط من القرآن ، قال أتخشى أن يرجع الناس كفارا ؟ قال ما شاء الله ، قال لئن رجع الناس كفارا ليكونن أمراؤهم بني فلان ووزراؤهم بني فلان .

وما قد حدثنا يوسف ، قال : حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا سفيان ، [ ص: 274 ] عن عمرو ، عن ابن أبي مليكة ، عن المسور بن مخرمة ، قال : قال عمر لعبد الرحمن ثم ذكر مثله إلا أنه قال ليكونن أمراؤهم بني أمية ووزراؤهم بني المغيرة .

ومن ذلك ما قد حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا أحمد بن إسحاق الحضرمي ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا داود يعني ابن أبي هند ، عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي ، عن أبيه ، عن أبي موسى الأشعري ، قال نزلت سورة فرفعت وحفظ منها : لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى إليهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب .

[ ص: 275 ] حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عفان بن مسلم ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا علي بن زيد ، عن أبي حرب بن أبي الأسود ، عن أبيه ، عن أبي موسى ، قال : نزلت كأنه يعني سورة مثل براءة ثم رفعت فحفظ منها إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ولو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى إليهما ثالثا ثم ذكر بقية الحديث الأول .

وما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا عفان ثم ذكر بإسناده مثله .

وما قد حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا آدم بن أبي إياس ، قال : أخبرنا حماد بن سلمة ثم ذكر بإسناده مثله .

حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا فروة بن أبي المغراء ، قال : حدثنا علي بن مسهر ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي ، عن أبيه ، قال :

بعث أبو موسى إلى قراء البصرة فدخل عليه منهم ثلاث مائة قد قرؤوا القرآن ، قال : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاقرؤوه ولا [ ص: 276 ] يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم ، وإنا كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيناها غير أني قد حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيناها غير أني قد حفظت منها يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة .

2036 - وما قد حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا عمرو بن سعيد الثقفي البصري ، قال : حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي ، عن أبي العلاء ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة لو أن لابن آدم واديا من ذهب لتمنى واديا ثانيا ولو أعطي ثانيا لتمنى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب .

[ ص: 277 ] وما قد حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا آدم بن أبي إياس ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن أبي بن كعب ، قال كنا نرى أن هذا الحرف من القرآن لو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ثم يتوب الله على من تاب ثم نزلت هذه السورة ألهاكم التكاثر إلى آخرها .

[ ص: 278 ]

2037 - وما قد حدثنا فهد ، قال : حدثنا القعنبي ، قال قرأت على مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس ، قال دعا نبي الله صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين غداة يدعو على رعل وذكوان ، وعصية عصت الله ورسوله ، قال أنس أنزل الله عز وجل في الذين قتلوا أصحاب بئر معونة قرآنا نسخ بعد : بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه .

وما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا عمر بن يونس ، قال : حدثنا عكرمة بن عمار ، قال : حدثنا إسحاق يعني ابن عبد الله بن أبي طلحة ، قال : حدثني أنس بن مالك أن الله أنزل فيهم يعني أهل بئر معونة قرآنا : بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ثم نسخت فرفعت بعدما قرأناه زمانا وأنزل الله : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون .

[ ص: 279 ] قال أبو جعفر : فهذا هو المنسوخ من كتاب الله عز وجل ينقسم على الأقسام التي ذكرنا انقسامه عليها في هذا الباب وفيما ذكرنا من ذلك ما قد حقق ما ذكرنا في الباب الذي قبل هذا الباب من احتمال قول علي رضي الله عنه إن المجوس كانوا أهل كتاب أن يكون ذلك الكتاب رفع فأخرج من كتب الله عز وجل كما أخرجت الآي المذكورات في هذه الآثار التي رويناها في هذا الباب من القرآن فصارت كما لم تكن قرآنا قط ، والله سبحانه وتعالى نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية