الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 371 ] 588 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان منه في قبر أبي رغال ، وفي إخباره الناس أنه من ثمود ، وأن الحرم منعه من ما نزل بسائر ثمود سواه حتى خرج منه فأدركته النقمة فأهلك

3753 - حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا أمية بن بسطام ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن روح بن القاسم ، عن إسماعيل بن أمية ، عن بجير بن أبي بجير ، عن عبد الله بن عمرو أنه سمعه يقول : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فمروا بقبر أبي رغال ، فقال : هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف ، وكان امرأ من ثمود ، وكان منزله بالحرم ، فلما أهلك الله عز وجل قومه بما أهلكهم به ، منعه لمكانه من الحرم ، وأنه خرج حتى إذا بلغ هاهنا مات ، فدفن معه غصن من ذهب فابتدرناه فاستخرجناه .

[ ص: 372 ] قال أبو جعفر : وقد كنت أنا بعد سماعي هذا الحديث من ابن أبي داود نظرت في كتابي ، فلم أجد فيه لإسماعيل بن أمية ذكرا ، فدخل قلبي منه شيء ، فذكرته لأحمد بن شعيب النسائي ، فقال لي : هو كما حفظت ، فقلت له : فعن من أخذته أنت ؟ فقال : عن أبي حفص - يعني : عمرو بن علي - ، عن الرياحي ، قلت له : عمرو بن عبد الوهاب ، فقال : نعم ، عن يزيد .

3754 - حدثنا عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن زبالة المديني أبو الحسن ، ومحمد بن علي بن زيد المكي ، قالا : حدثنا يحيى بن معين ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا أبي ، قال : سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن إسماعيل بن أمية ، عن بجير بن أبي بجير ، قال : [ ص: 373 ] سمعت عبد الله بن عمرو يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : حين خرجنا إلى الطائف فمررنا بقبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا قبر أبي رغال ، وهو أبو ثقيف ، وكان من ثمود ، وكان بهذا الحرم يدفع عنه ، فلما خرج أصابته النقمة بهذا المكان ، ودفن فيه ، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه ، أصبتموه معه . فابتدره الناس ، فاستخرجوا معه الغصن .

قال أبو جعفر : فتأملنا هذا الحديث فوجدنا فيه إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بأن أبا رغال كان من ثمود ، وأنه ممن منعه حرم الله عز وجل مما أصاب به غيره من ثمود من النقمة ، وقد عقلنا أن منازل ثمود لم تكن في الحرم ، وأنها كانت فيما سواه من ما ذكر في البابين اللذين ذكرناهما قبل هذا الباب ، واحتمل أن يكون لجأ إلى الحرم ، فدخله ، فمنعه مما نزل بغيره من ثمود .

فقال قائل : ففي حديث ابن أبي داود من الحديثين اللذين رويناهما في هذا الباب أن مسكنه كان في الحرم .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أنه يحتمل أن يكون مسكنه في الحرم ، وكان مع ثمود في المواضع التي كانت فيه على ما كانت عليه من معاصي الله عز وجل والخروج عن أمره ، فلما جاءهم الوعيد من الله عز وجل ، وخاف أن يلحقه ذلك بالمكان الذي هو به ، لجأ إلى مسكنه في الحرم ، فدخل من أجل ذلك الحرم فمنعه ، وقد روي عن جابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة [ ص: 374 ] أبي رغال أيضا ما يوافق ما في حديث ابن أبي داود مما ذكرنا .

3755 - كما حدثنا إسماعيل بن إسحاق الكوفي ، قال : حدثنا زكريا بن عدي ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن خثيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر ، فقال : لا تسألوا الآيات ، فإن قوم صالح سألوا ، فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج - يعني الناقة - ، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها ، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما ، فأخذتهم صاعقة أهمدت من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله ، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه ، قالوا : يا رسول الله من هو ؟ قال : أبو رغال ، فدفن هاهنا .

[ ص: 375 ]

3756 - وكما حدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا عبد الأعلى بن حماد ، قال : حدثنا مسلم بن خالد ، قال : حدثنا ابن خثيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معناه ، غير أنه قال : إلا رجلا كان في حرم الله ، فمنعه حرم الله عز وجل من عذاب الله .

3757 - وكما حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، قال : حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد ، قال : حدثني داود بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عثمان ، عن ابن سابط ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في الحجر : هؤلاء قوم صالح أهلكهم الله عز وجل إلا رجلا كان في حرم الله عز وجل منعه الله من عذاب الله ، قيل : يا رسول الله من هو ؟ قال : أبو رغال .

[ ص: 376 ] قال أبو جعفر : فإذا كان الحرم يمنع في الجاهلية من العقوبات التي معها تلف الأنفس ، كان في الإسلام ممن مثل ذلك أمنع ، وشد ذلك ما روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما فيمن أصاب حدا في غير الحرم ، ثم لجأ إلى الحرم .

كما قد حدثنا بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه قال : من أصاب حدا في الحرم ، أقيم عليه ، وإن أصابه خارج الحرم ، ثم دخل الحرم ، لم يكلم ولم يجالس ولم يبايع حتى يخرج من الحرم ، فيقام عليه الحد .

[ ص: 377 ] وكما حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله .

وكما حدثنا محمد ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس مثله .

وكما حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء ، عن ابن عباس فيمن أحدث حدثا في غير الحرم ، ثم لجأ إلى الحرم : لم يكلم ، ولم يبايع ، ولم يؤذ ، حتى يخرج من الحرم ، فإذا خرج من الحرم ، أخذ وأقيم عليه ما عليه ، وما أحدث في الحرم ، أقيم [ ص: 378 ] عليه ما أحدث فيه من شيء .

كما حدثنا أحمد بن داود بن موسى ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل المنقري ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثني عطاء ، أن ابن عمر وابن عباس قالا في قول الله عز وجل : ومن دخله كان آمنا : الرجل يصيب الحد ، ثم يدخله ، فلا يبايع ، ولا يجالس ، ولا يؤوى ، ولا يكلم ، حتى يخرج منه ، فيتبع ، فيؤخذ ، فيقام عليه الحد .

قال : وقال لي عطاء : إن قذف فيه ، أو سرق ، أقيم عليه الحد ، وإذا صنع ذلك في غيره ، ثم لجأ - يعني إليه - لم يقم عليه .

وكما حدثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال : حدثني سعيد بن منصور ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا الحجاج ، عن عطاء ، [ ص: 379 ] عن ابن عمر ، قال : لو وجدت قاتل عمر رضي الله عنه في الحرم ما هجته .

فإن قال قائل : فقد خالفهما عبد الله بن الزبير في ذلك ، وكان منه .

فذكر ما قد حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا حجاج بن إبراهيم ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، قال : كان سعيد مولى معاوية وأصحاب له في الطائف متحصنين في قلعة ، فاستنزلوا منها ، فانطلق به إلى عبد الله بن الزبير ، وهو بمكة ، فأرسل إلى عبد الله بن عباس ، فقال : ما ترى في هؤلاء النفر ؟ فقال : أرى أن تخلي سبيلهم ، فإنهم قد آمنوا إذ أدخلتهم الحرم ، فقال : لا ، نخرجهم من الحرم ، ثم نقتلهم ، قال : فهلا قبل أن تدخلهم ، فأخرجهم ابن الزبير ، فصلبهم ، فقال ابن عباس : لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن ابن الزبير [ ص: 380 ] لم يكن منه في ذلك خلاف لابن عباس في أن الحرم قد أجار القوم الذين أدخلوه مما كان عليهم من العقوبة ، ولكنه لم يمنع أن يخرجوا منه ، فيقام عليهم في غيره ، فكان بمذهبه أن لا يقام عليهم وهم فيه موافقا لابن عباس ، وكان في قوله إنهم يخرجون منه إلى غيره مخالفا له في ذلك ، وكان ما قال ابن عباس في ذلك أولى عندنا ، لأن الآية توجب ذلك وهي قول الله عز وجل : ومن دخله كان آمنا . وكان أولئك النفر قد دخلوه فأمنوا بدخولهم إياه ، وقد يحتمل أن يكون ابن الزبير لم يجعل رجوعهم الحرم أمانا لهم ، لأنهم لم يكن دخولهم إياه باختيارهم لذلك وإنما كان بفعل غيرهم إياه بهم ، لأن دخولهم إياه باختيارهم طلبا للأمان به مما كانوا يخافونه ، وإدخال غيرهم إياهم إياه ليس فيه طلب منهم للأمان به مما كانوا يخافونه ، فلم يؤمنهم ذلك الدخول مما كانوا يخافونه ، فيعود معنى ما كان الخلاف في ذلك إلى ما لا خلاف فيه ، لما كان من ابن عمر وابن عباس فيه .

فقال قائل : إنما كان قوله عز وجل : ومن دخله كان آمنا . على الصيد لا على ما سواه ، فكان جوابنا له في ذلك أن قوله هذا جهل شديد منه باللغة ، لأنه لو كان الأمر في ذلك كما ذكر ، لكانت : وما دخله كان آمنا ، لأن « من » لا يكون إلا لبني آدم ، ويكون لمن سواهم مكانها « ما » كما قال عز وجل : وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب . في أمثال لهذا في القرآن يطول ذكرها ، وكانت « من » مستعملة في بني آدم كقوله عز وجل : ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار . وكقوله : ومن يفعل ذلك يلق أثاما . وكقوله : من يأت منكن بفاحشة مبينة . [ ص: 381 ] وأشباه لهذا كثيرة إلا أنه ربما جاء في بني آدم استعمال « ما » مكان « من » من ذلك قوله عز وجل : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم . ومن ذلك قوله تعالى : ووالد وما ولد . في معنى : ووالد ومن ولد ، فكانت « ما » قد تستعمل في بني آدم مكان « من » ، وإن كان ذلك مما يقل استعمالهم إياه ، ولم يكونوا يستعملون في غير بني آدم « من » مكان « ما » في حال من الأحوال ، فلما كانت « من » لبني آدم دون من سواهم ، كان قوله عز وجل : ومن دخله كان آمنا . على بني آدم دون من سواهم ، وكان هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس وابن عمر قد قال به بعدهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر .

كما حدثنا محمد بن العباس ، قال : حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا محمد بن الحسن ، قال : أخبرنا يعقوب ، عن أبي حنيفة بذلك ، ولم يحك فيه خلافا .

وحدثنا يحيى بن سليمان الجعفي ، عن الحسن بن زياد ، عن زفر بمثل ذلك ، قال : وقال أبو يوسف : لا يجير الحرم ظالما .

وكان القول عندنا في ذلك ما قاله أبو حنيفة وزفر ومحمد مما وافقهم أبو يوسف عليه في رواية محمد ، لما قد تقدمهم في ذلك مما ذكرناه عن عبد الله بن عباس ، وعن عبد الله بن عمر ، ومما وافقهما فيه عبد الله بن الزبير على ما وافقهما فيه منه ، ولا نعلم عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك خلافا لهم ، والقرآن نزل بلغتهم ، وهم العالمون بما خوطبوا به فيه ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية