الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 214 ] 680 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان منه في بريرة لما سأل أهلها عائشة أن يكون ولاؤها لهم بأدائها مكاتبتها إليهم ، أو بابتياعها إياها ، أو إعتاقها بعد ذلك

قال أبو جعفر : وقد ذكرنا فيما تقدم منا في كتابنا هذا حديث مالك بن أنس ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة لما أبى أهل بريرة أن يبيعوها إلا أن يكون ولاؤها لهم : " خذيها واشترطي لهم الولاء ، فإنما الولاء لمن أعتق " .

فتأملنا هذا الحديث ، فوجدنا فيه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة في بريرة : " خذيها واشترطي لهم الولاء " ، يعني لأهلها ، " فإنما الولاء لمن أعتق " .

فقال قائل : فكيف تقبلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم إطلاقه لعائشة اشتراطا في ولاء بريرة إياها لأهلها ، وذلك مما لا يصح لهم ; إذ كانت شريعته تمنع من ذلك ، وترد ولاء من أعتق إلى من أعتقه ، وهو عليه [ ص: 215 ] السلام لا يقول إلا حقا ، ولا يأمر أحدا باشتراط ما لا يجب للمشترط له ؟

فكان جوابنا له في ذلك أن الذي نفاه من ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سبقناه إليه ، فنفيناه عنه في غير هذا الموضع ، وكان هذا المعنى في حديث عائشة هذا لم نجده إلا في حديث هشام هذا ، ولم نجده في حديث هشام إلا من رواية مالك عنه ، فأما من سواه وهو عمرو بن الحارث والليث بن سعد فقد رويا ، عن هشام بن عروة ، فخالفا مالكا فيه ، وهو أنهما روياه على أن السؤال لولاء بريرة إنما كان من عائشة لأهلها بأدائها عنها مكاتبتها إليهم ، فكان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك قوله لعائشة : " لا يمنعك ذلك منها ، ابتاعي وأعتقي ، فإنما الولاء لمن أعتق " ، فكان ذلك دلالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها على الموضع الذي يكون به ولاء بريرة لها وهو ابتياعها إياها وإعتاقها لها بعد ذلك ، وهذا خلاف ما في حديث مالك عن هشام بن عروة الذي ذكرناه ، وإن كان حديث مالك عن هشام بن عروة الذي ذكرنا قد روي عنها بخلاف اللفظ الذي ذكرناه .

4393 - وهو ما قد حدثنا المزني ، حدثنا الشافعي ، عن مالك بن [ ص: 216 ] أنس ، عن هشام بن عروة ، ثم ذكر مثل حديث ابن وهب عن مالك ، عن هشام بن عروة الذي ذكرناه في باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يدل على مراد الله عز وجل بقوله في آية المكاتبين : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم فيما تقدم منا في كتابنا هذا ، غير أنه قال : " خذيها وأشرطي ، فإنما الولاء لمن أعتق " ، فكان ذلك خلاف ما في حديث ابن وهب عن مالك ، عن هشام : " خذيها واشترطي الولاء لهم " ، لأن معنى : " وأشرطي " قد يحتمل أن يكون أراد به : وأظهري ، لأن الإشراط في كلام العرب هو الإظهار ، وأنشد قول أوس بن حجر :


فأشرط فيها نفسه وهو معصم وألقى بأسباب له وتوكلا

[ ص: 217 ] أي : أظهر نفسه ، وكان منه بعد ذلك ما كان .

فمثل ذلك مما قد يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم أراد بقوله : " وأشرطي " أي : أشرطي لهم الولاء الذي يوجبه عتاقك أنه يكون على ما توجبه الشريعة فيه لمن يكون ذلك العتاق منه دون من سواه .

وقد كان بعض الناس يذهب إلى معنى قوله : " واشترطي لهم الولاء " على ما في حديث ابن وهب عن مالك ، عن هشام إنما هو : واشترطي عليهم الولاء ، فممن قال ذلك : عبد الملك بن هشام النحوي ، كما حدثني محمد بن العباس قال : سألت عبد الملك بن هشام عن قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في بريرة : " واشترطي الولاء لهم " ؟ قال : معناه : واشترطي الولاء عليهم ، قال : فقلت له : فهل من دليل على ذلك ؟ قال : نعم ، قول الله عز وجل : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ، بمعنى : فعليها .

[ ص: 218 ] فذكرت ذلك لأحمد بن أبي عمران ، فقال لي : قد كان محمد بن شجاع يحمل ذلك على معنى آخر ، وهو الوعيد الذي ظاهره الأمر وباطنه النهي ، ومنه قول الله عز وجل : واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ، وقوله عز وجل : اعملوا ما شئتم ليس ذلك على إطلاقه ذلك لهم ، ولكن على وعيده إياهم إن عملوا ذلك ما أوعد أمثالهم على خلافهم أمره ، وقال : ألا تراه صلى الله عليه وسلم قد أتبع ذلك صعوده المنبر وخطبته على الناس بقوله لهم : " ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى - وكتاب الله تعالى أحكامه - كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط " ، ثم أتبع ذلك بقوله : " فإنما الولاء لمن أعتق " .

قال أبو جعفر : وإذا كان مالك قد روى هذا الحديث عن هشام بن عروة كما ذكرناه عنه ، وخالفه فيه عن هشام عمرو والليث ، كان اثنان [ ص: 219 ] أولى بالحفظ من واحد . وقد روي حديث عائشة هذا من غير هذا الوجه ، فممن رواه على خلاف ذلك عبد الله بن عمر ، فبعضهم يجعله عن ابن عمر ، عن عائشة ، وبعضهم يجعله عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة عائشة .

4394 - كما قد حدثنا يونس ، أنبأنا ابن وهب أن مالكا أخبره عن نافع ، عن ابن عمر أن عائشة رضي الله عنها أرادت أن تشتري بريرة فتعتقها ، فقال أهلها : نبيعكها على أن الولاء لنا . فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا يمنعك ذلك ، فإنما الولاء لمن أعتق .

4395 - وكما حدثنا المزني ، حدثنا الشافعي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عائشة ، ثم ذكر هذا الحديث .

فاختلف ابن وهب والشافعي على مالك في إسناد هذا الحديث [ ص: 220 ] على ما ذكرناه من اختلافهما عنه فيه ، فنظرنا ، هل نجده من رواية غير مالك عن نافع ، فيقوى في قلوبنا على أنه كما رواه الذي يوافق ذلك من ابن وهب ، ومن الشافعي عن مالك ؟

4396 - فوجدنا يزيد بن سنان قد حدثنا قال : حدثنا محمد بن كثير العبدي ، أنبأنا همام بن يحيى ، عن نافع ، عن ابن عمر أن عائشة رضي الله عنها ساومت ببريرة ، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم قالت : إنهم أبوا أن يبيعوني إلا أن يشترطوا الولاء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما الولاء لمن أعتق .

فقوي في قلوبنا أن يكون حديث مالك كما رواه عنه ابن وهب ، لا كما رواه الشافعي ، وقد روى حديث عائشة هذا عنها الأسود بن يزيد ، فرواه أربعة عن إبراهيم عنه ، فاختلفوا عليه فيه

منهم : الحكم بن عتيبة .

4397 - كما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا بشر بن عمر الزهراني ، حدثنا شعبة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة أنها أرادت أن تشتري بريرة فتعتقها ، واشترط مواليها ولاءها ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : اشتري ، فأعتقيها ، فإنما الولاء لمن أعتق ، وخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على زوجها ، وأتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم ، فقيل له : هذا لحم تصدق به على بريرة ، فقال : " هو لها [ ص: 221 ] صدقة ، ولنا هدية .

ومنهم : منصور بن المعتمر .

4398 - كما حدثنا الربيع المرادي ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا أبو عوانة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة أنها اشترت بريرة لتعتقها ، فاشترط أهلها ولاءها ، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إني اشتريت ، أو أردت أن أشتري بريرة لأعتقها ، واشترط أهلها ولاءها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعتقيها ، فإنما الولاء لمن أعطى الورق " ، أو قال : " لمن ولي النعمة ، فاشترتها فأعتقتها ، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : لو أعطيت كذا وكذا ما كنت معه - تعني زوجها - قال : وقال الأسود : كان زوجها حرا .

[ ص: 222 ]

4399 - وكما حدثنا أبو أمية ، حدثنا قبيصة ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : اشتريت جارية يقال لها : بريرة ، واشترط مواليها أن الولاء لهم ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : اشتريها ، فإنما الولاء لمن ولي النعمة ، من أعطى الثمن .

وقد ذكرنا فيما تقدم منا في هذه الأبواب هذا الحديث أيضا من حديث أبي المحياة عن منصور .

ومنهم : الأعمش .

4400 - كما حدثنا عبد الملك بن مروان الرقي ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : وأراد أهلها - يعني بريرة - أن يبيعوها ، ويشترطوا لهم الولاء ، قالت عائشة : فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : اشتريها وأعتقيها " فإنما الولاء لمن أعتق .

[ ص: 223 ] ومنهم : حماد بن أبي سليمان .

4401 - حدثنا أبو أمية ، حدثنا أحمد بن إسحاق الحضرمي ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة أنها اشترت بريرة فأعتقتها ، واشترطت لأهلها أن الولاء لهم ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما الولاء لمن أعتق ، وقال لها : " يا بريرة ، اختاري ، فالأمر إليك ; إن شئت عند زوجك ، وإن شئت فارقتيه " ، فقالت : الأمر إلى الله ، قال لها : " اتق الله ، فإنه أبو ولدك " ، فاختارت نفسها ، وتصدق عليها بصدقة ، فأهدتها للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : إنها صدقة تصدق بها عليها . قال : " هي لها صدقة ، ولنا هدية " ، قال إبراهيم : وكان زوجها حرا .

فكان حديث الأسود هذا مختلفا في حديث الحكم أنها أرادت أن تشتري بريرة فتعتقها ، واشترط مواليها ولاءها ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة بعد ذلك : " اشتريها فأعتقيها ، فإنما الولاء لمن أعتق " . وفي حديث منصور أنها اشترت بريرة لتعتقها ، فاشترط أهلها ولاءها ، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إني اشتريت أو أردت أن أشتري بريرة لأعتقها ، واشترط أهلها ولاءها ، وكان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان بعد ذلك ، وفي حديث الأعمش أن أهل بريرة أرادوا أن يبيعوها ويشترطوا [ ص: 224 ] الولاء ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة بعد ذلك : " اشتريها وأعتقيها ، فإنما الولاء لمن أعتق " . وفي حديث حماد أنها اشترت بريرة وأعتقتها ، واشترطت لأهلها الولاء ، وأن الذي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : " إن الولاء لمن أعتق " كان بعد ذلك كله . وهذا اختلاف شديد ، غير أنه لا شيء فيه من إطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل بريرة ما كان منهم من اشتراط الولاء ولا إطلاقه لعائشة ذلك لهم .

وممن رواه عنها أيضا : القاسم بن محمد .

4402 - كما حدثنا أبو أمية ، حدثنا محمد بن سابق ، حدثنا زائدة ، عن سماك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة أنها اشترت بريرة من ناس من الأنصار ، واشترطوا الولاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولاء لمن ولي النعمة ، وخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان زوجها عبدا ، وأهدت إلى عائشة لحما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو صنعتم لنا من هذا اللحم شيئا " ، فقالت عائشة : تصدق به على بريرة ، قال : " هو عليها صدقة ، وهو لنا هدية .

ففي هذا الحديث تقدم شراء عائشة بريرة واشتراط أهلها ولاءها ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الولاء لمن ولي النعمة " .

[ ص: 225 ] ومنهم : عمرة بنت عبد الرحمن ، فروته عن عائشة رضي الله عنها .

4403 - كما حدثنا يونس ، أنبأنا ابن وهب أن مالكا أخبره عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة بنت عبد الرحمن أن بريرة جاءت تستعين عائشة أم المؤمنين ، فقالت لها عائشة : إن أحب أهلك أن أصب لهم ثمنك صبة واحدة وأعتقك فعلت ، فذكرت بريرة ذلك لأهلها ، فقالوا : إلا أن يكون ولاؤك لنا ، قال مالك : قال يحيى : فزعمت عمرة أن عائشة ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : اشتريها فأعتقيها ، فإنما الولاء لمن أعتق .

ففي هذا الحديث أيضا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بشراء بريرة لا [ ص: 226 ] يشترط في شرائها إياها في ولائها .

ومنهم أيضا : أيمن أبو عبد الواحد بن أيمن .

4404 - كما حدثنا فهد ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عبد الواحد بن أيمن ، حدثني أبي قال : دخلت على عائشة ، فقالت : دخلت علي بريرة وهي مكاتبة ، فقالت : اشتريني فأعتقيني ، فقلت : نعم ، فقالت : إن أهلي لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي ، فقلت لها : لا حاجة لنا بذلك ، فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو بلغه ، فذكر ذلك لعائشة ، فذكرت عائشة ما قالت لها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اشتريها فأعتقيها ، ودعيهم فليشترطوا ما شاؤوا " ، فاشترتها عائشة فأعتقتها ، واشترط أهلها الولاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولاء لمن أعتق ، وإن اشترطوا مائة شرط .

فكان الذي في حديث أيمن هذا خلاف ما حكاه فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : " دعيهم فليشترطوا ما شاؤوا " على الوعيد ، وهو خلاف ما [ ص: 227 ] في أحاديث من سواه من رواة هذا الحديث الذين قد ذكرناهم في هذا الباب ، وما رواه الجماعة في ذلك مما يخالف أيمن فيه أولى بعائشة مما رواه أيمن عنها فيه .

وقد وجدنا هذا الحديث أيضا من حديث إسماعيل بن جعفر عن ربيعة ، عن القاسم بما معناه معنى الوعيد أيضا .

4405 - كما حدثنا يوسف بن يزيد ، حدثنا سعيد بن منصور ، أنبأنا إسماعيل بن جعفر ، عن ربيعة أنه سمع القاسم يقول : كان في بريرة ثلاث سنن ; أرادت عائشة أن تشتريها وتعتقها ، فقال أهلها : ولنا الولاء ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لو شئت شرطتيه لهم ، فإنما الولاء لمن أعتق ، ثم قام بعد الظهر أو قبلها ، فقال : " ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ، الولاء لمن أعتق " ، وأعتقت بريرة ، فخيرت أن تقيم تحت زوجها أو تفارقه ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بيت عائشة وعلى النار برمة تفور ، فدعا بغداء فأتي بخبز وأدم من أدم البيت ، فقال : " ألم أر في البيت لحما ؟ " قالوا : بلى ، ولكنه لحم تصدق به على بريرة ، فأهدته لنا ، قال : " هو صدقة عليها ، ولنا هدية " .

[ ص: 228 ] وكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة في هذا الحديث : " اشترطيه لهم " يعني الولاء الذي سألوه على الوعيد ، لا على إطلاقه ذلك لها أن تشترطه لهم .

وفي جملة ما ذكرنا سوى حديث مالك عن هشام بن عروة ليس فيه إطلاق من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة في شرائها بريرة اشتراط ولائها بعد إعتاقها إياها لأهلها .

فبان بحمد الله تعالى انتفاء ما قد نفيناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه من إطلاقه لعائشة اشتراط ولاء بريرة في عتاقها إياها لأهلها مع ما احتمله حديث مالك ذلك ، عن هشام في التأويلين اللذين ذكرناهما فيه .

ومما يدل أيضا على أن الأمر في ذلك على ما قد ذكرناه من انتفائه به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابن عمر قد وقف على ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة ، وعلى ما كان قد جرى أمر بريرة عليه في ذلك ، ثم قال بعد النبي صلى الله عليه وسلم .

ما قد حدثنا فهد ، حدثنا أبو غسان ، حدثنا زهير بن معاوية ، عن [ ص: 229 ] عبيد الله بن عمر ، حدثني نافع ، عن ابن عمر قال : لا يحل فرج إلا فرج إن شاء صاحبه باعه ، وإن شاء وهبه ، لا شرط فيه .

[ ص: 230 ]

وما قد حدثنا محمد بن النعمان السقطي ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا هشيم ، أنبأنا يونس بن عبيد ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان يكره أن يشتري الرجل الأمة على أن لا يبيع ولا يهب .

ففي حديثي ابن عمر هذين كراهة الشراء على الشرط المشروط فيه ، وفي ذلك ما قد دل على أن أمر بريرة لم يجر على خلاف ذلك ، وأن عقد البيع كان فيها بين عائشة وبين أهلها مما قال لها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال لم يكن بإيجاب شرط لأهلها عليها في ابتياعها لها منهم من ولاء ، ولا مما سواه .

قال أبو جعفر : وقد ذكرنا في هذا الباب في حديث هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : " اشترطي الولاء لهم " يعني أهلها ، وذكرنا أنا لم نجد هذا المعنى في حديث هشام هذا إلا في حديث مالك إياه به عنه ، ثم وجدنا بعد ذلك جرير بن عبد الحميد قد وافق مالكا على ذلك ، فذكر هذا المعنى في حديث هشام بن عروة هذا ، كما ذكره مالك في حديثه عنه .

4406 - كما حدثنا أحمد بن شعيب ، أنبأنا إسحاق بن إبراهيم ، عن جرير بن عبد الحميد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، [ ص: 231 ] عن عائشة قالت : كاتبت بريرة على نفسها بتسع أواق ; في كل عام أوقية ، ثم ذكر الحديث بمعنى ما ذكره مالك في حديثه عن هشام ، وقال فيه : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابتاعيها ، واشترطي لهم الولاء ، فإن الولاء لمن أعتق ، ثم ذكر بعد ذلك بقية ما في حديث مالك عن هشام .

قال أبو جعفر : والكلام بعد ذلك في رواية جرير عن هشام إياه كذلك ، كالكلام الذي ذكرناه في رواية مالك إياه عن هشام فيما تقدم منا في هذا الباب ، ووجدناه أيضا في رواية يزيد بن رومان عن عروة كذلك ، إلا أنه لم يذكره عن عائشة ، ولكنه ذكره عن بريرة .

4407 - كما حدثنا أحمد بن شعيب ، أنبأنا عمرو بن علي ، عن الثقفي ، حدثنا عبيد الله بن عمر مذ ستين سنة ، عن يزيد بن رومان ، عن عروة ، عن بريرة أنها قالت : كان في ثلاث من السنة ; تصدق علي بلحم فأهديته لعائشة رضي الله عنها ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " ما هذا [ ص: 232 ] اللحم ؟ " فقالت : لحم تصدق به على بريرة ، فأهدته لنا ، فقال : " هو على بريرة صدقة ، وهو لنا هدية " ، وكاتبت على تسع أواق ، فقالت عائشة : إن شاء مواليك عددت ثمنك عدة واحدة ، فقالت : إنهم يقولون : إلا أن تشترطي لهم الولاء ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : اشتريها ، واشترطي لهم ، فإنما الولاء لمن أعتق ، قالت : وأعتقتني ، فكان لي الخيار .

قال أبو جعفر : فالكلام في هذا كالكلام فيما ذكرنا في حديث هشام في ذلك المعنى في هذا الباب . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية