الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب اختيار ذات الدين.

                                                                            قال الله سبحانه وتعالى: ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ) .

                                                                            2240 - أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، نا محمد بن إسماعيل، نا مسدد، نا يحيى، عن عبيد الله، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، [ ص: 8 ] عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك ".

                                                                            هذا حديث متفق على صحته، أخرجه مسلم، عن زهير بن حرب، وغيره، عن يحيى بن سعيد.

                                                                            قوله : لحسبها .

                                                                            قيل : الحسب : الفعال الحسن للرجل ، وآبائه ، مأخوذ من الحساب ، وذلك أنهم إذا تفاخروا ، عد كل واحد منهم مناقبه ، ومآثر آبائه ، وحسبها ، فالحسب بالجزم ، العد ، والمعدود " حسب" بالنصب كالعد والعدد ، وقيل : الحسب : عدد ذوي قرابته .

                                                                            وقوله : " تربت يداك" ، معناه : الحث والتحريض ، وأصله الدعاء بالافتقار ، ويقال : ترب الرجل : إذا افتقر ، وأترب : إذا أيسر ولم يكن قصده به وقوع الأمر ، بل هي كلمة جارية على ألسنة العرب ، كقولهم : لا أرض لك ، ولا أم لك ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصفية حين حاضت : " عقرى حلقى أحابستنا هي" .

                                                                            معناه : عقر الله جسدها ، وأصابها وجع الحلق ، ولم يرد به وقوع الأمر ، وقيل : قصد به وقوع الأمر ، لأنه رأى فيه أن الفقر خير له من الغنى ، وقيل : أراد وقوع الأمر لتعديه ذوات الدين إلى ذوات الجمال والمال ، معناه : تربت يداك إن لم تفعل ما أمرتك به ، والأول أولى . [ ص: 9 ] .

                                                                            وفيه من الفقه مراعاة الكفاءة في المناكح ، وأن الدين أولى ما اعتبر منها .

                                                                            واختلف العلماء في تحديد الكفاءة ، فذهب أكثرهم إلى أنها بأربعة أشياء : الدين ، والحرية ، والنسب ، والصنعة ، والمراد بالدين : الإسلام والعدالة ، فلا يكون الفاسق كفئا للعفيفة ، كما لا يكون الكافر كفئا للمسلمة ، ولا العبد للحرة ، ولا المعتق للحرة الأصلية ، ولا دنيء الحرفة لمن فوقه .

                                                                            ومنهم من اعتبر فيها السلامة من العيوب : وهي الجنون ، والجذام ، والبرص ، والجب ، وإن كان في الرجل أحد هذه العيوب ، فلا يكون كفئا للمرأة البريئة منها ، ومنهم من يعتبر اليسار أيضا ، فيكون جماعها ست خصال .

                                                                            فإذا زوجت امرأة دون رضاها ممن لا يكون كفئا لها ، لا يصح النكاح ، سواء كان المزوج أبا أو غيره ، وسواء كانت المرأة بالغة أو صغيرة ، وإن زوجها وليها برضاها ، صح النكاح إلا أن تزوج مسلمة من كافر ، فلا يصح بحال .

                                                                            أما الرجل إذا نكح امرأة دونه في الكفاءة ، فيصح ، وإن كان صغيرا ، فقبل له الأب نكاح أمة ، لا يصح ، وكذلك لو قبل له نكاح معيبة بجنون ، أو جذام ، أو برص ، أو رتق ، لا يصح ، وإن قبل له نكاح كتابية ، أو دنيئة في النسب ، فقد اختلف فيه أصحاب الشافعي .

                                                                            وذهب مالك إلى أن الكفاءة في الدين وحده ، وأهل الإسلام كلهم بعضهم أكفاء لبعض ، ويروى معناه عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود ، وبه قال محمد بن سيرين ، وعبيد بن عمير ، وعمر بن عبد العزيز ، وابن عون ، وحماد بن أبي سليمان ، وقال سفيان الثوري : الكفاءة في الدين والنسب ، وكان يقول : إذا نكح المولى عربية يفرق بينهما ، وهو قول أحمد ، ويروى عن ابن عباس ، وسلمان ، أن المولى لا يكون [ ص: 10 ] كفئا للعربية ، وذهب قوم إلى أن قريشا بعضهم أكفاء بعض ، والعرب بعضهم أكفاء بعض ، ومن كان من الموالي له أبوان ، أو ثلاثة في الإسلام ، فبعضهم أكفاء بعض ، فأما من كان عبدا فعتق ، أو ذميا فأسلم ، فلا يكون كفئا لامرأة من الموالي لها أبوان ، أو ثلاثة في الإسلام ، وهو قول أصحاب الرأي .

                                                                            ويحتج من يعتبر مجرد الدين بما روي عن أبي حاتم المزني ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد" ، قالوا : يا رسول الله وإن كان فيه! قال : " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه" ثلاث مرات .

                                                                            وأبو حاتم المزني له صحبة ، ولا يعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية