الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المسألة الأولى

          اختلفوا في الواحد العدل . إذا أخبر بخبر ، هل يفيد خبره العلم ، [1] فذهب قوم إلى أنه يفيد العلم ثم اختلف هؤلاء .

          فمنهم من قال : إنه يفيد العلم بمعنى الظن لا بمعنى اليقين ، فإن العلم قد يطلق ويراد به الظن كما في قوله تعالى : ( فإن علمتموهن مؤمنات ) أي : ظننتموهن .

          ومنهم من قال : إنه يفيد العلم اليقيني من غير قرينة ، لكن من هؤلاء من قال ذلك مطرد في خبر كل واحد ، كبعض أهل الظاهر وهو مذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه .

          ومنهم من قال : إنما يوجد ذلك في بعض أخبار الآحاد لا في الكل ، وإليه ذهب بعض أصحاب الحديث .

          ومنهم من قال : إنه يفيد العلم ، إذا اقترنت به قرينة ، كالنظام ، ومن تابعه في مقالته .

          وذهب الباقون إلى أنه لا يفيد العلم اليقيني مطلقا ، لا بقرينة ولا بغير قرينة .

          والمختار حصول العلم بخبره ، إذا احتفت به القرائن .

          ويمتنع ذلك عادة دون القرائن ، وإن كان لا يمتنع خرق العادة بأن يخلق الله تعالى لنا العلم بخبره من غير قرينة .

          أما أنه لا يفيد العلم بمجرده ، فقد احتج القائلون بذلك بحجج واهية لا بد من التنبيه عليها ، والإشارة بعد ذلك إلى ما هو المعتمد في ذلك .

          الحجة الأولى : من الحجج الواهية قولهم : لو كان خبر الواحد مفيدا للعلم لأفاده كل خبر واحد ، كما أن خبر التواتر لما كان موجبا للعلم كان كل خبر متواتر كذلك .

          ولقائل أن يقول : هذا قياس تمثيلي ، وهو غير مفيد للعلم .

          كيف وإن خبر التواتر إن قيل أن العلم به ضروري غير مكتسب ، فلا يمتنع أن يخلقه الله تعالى عند كل تواتر ؛ لعلمه بما يشتمل عليه من مصلحة مختصة به ، أو لا لمصلحة [2] كما يشاء ويختار ، ومثل ذلك غير لازم في أخبار الآحاد .

          [ ص: 33 ] وإن قيل : إنه نظري مكتسب ، فلا مانع من استواء جميع أخبار التواتر فيما لا بد منه في حصول العلم .

          ولا يلزم من ذلك استواء جميع أخبار الآحاد في ذلك .

          الحجة الثانية : أن تأثيرات الأدلة في النفوس بحسب المؤثر ، ولا نجد في أنفسنا من خبر الواحد ؛ وإن بلغ الغاية في العدالة ، سوى ترجح صدقه على كذبه من غير قطع ، وذلك غير موجب للعلم .

          وهذه الحجة في غاية الضعف ؛ لأن حاصلها يرجع إلى محض الدعوى في موضع الخلاف من غير دلالة ، ومع ذلك ، فهي مقابلة بمثلها ، وهو أن يقول الخصم : وأنا أجد في نفسي العلم بذلك .

          وليس أحد الأمرين أولى من الآخر .

          الحجة الثالثة : أنه لو كان خبر الواحد يوجب العلم ، لما روعي فيه شرط الإسلام والعدالة كما في خبر التواتر .

          وحاصل هذه الحجة أيضا يرجع إلى التمثيل ، مفيد لليقين . ثم ما المانع أن يكون حصول العلم بخبر التواتر ؛ لأن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم عنده إن قيل إن العلم بخبر التواتر ضروري ، وذلك غير لازم في خلقه عند خبر من ليس بمسلم ولا عدل ، أو أن يكون التواتر من حيث هو تواتر مشتمل على ما يوجب العلم ، إن قيل بأن العلم بخبر التواتر كسبي ، وخبر من ليس بمسلم ولا عدل غير مشتمل على ذلك .

          والمعتمد في ذلك أربع حجج :

          الحجة الأولى : أنه لو كان خبر الواحد الثقة مفيدا للعلم بمجرده ، فلو أخبر ثقة آخر بضد خبره ، فإن قلنا خبر كل واحد يكون مفيدا للعلم لزم اجتماع العلم بالشيء وبنقيضه ، وهو محال .

          وإن قلنا خبر أحدهما يفيد العلم دون الآخر ، فإما أن يكون معينا ، أو غير معين . فإن كان الأول فليس أحدهما أولى من الآخر ، ضرورة تساويهما في العدالة والخبر .

          وإن لم يكن معينا ، فلم يحصل العلم بخبر واحد منهما على التعيين ، بل كل واحد منهما إذا جردنا النظر إليه ، كان خبره غير مفيد للعلم لجواز أن يكون المفيد للعلم هو خبر الآخر .

          كيف وأنه لا مزية لأحدهما على الآخر حتى يقال بحصول العلم بخبره ، دون خبر الآخر [3] .

          [ ص: 34 ] الحجة الثانية : إن كل عاقل يجد من نفسه عندما إذا أخبره واحد بعد واحد بمخبر واحد تزيد اعتقاده بذلك المخبر ، ولو كان الخبر الأول والثاني مفيدا للعلم فالعلم غير قابل للتزيد والنقصان .

          فإن قيل : كيف يقال بأن العلم غير قابل للزيادة والنقصان ، مع أن بعض العلوم قد يكون أجلى من بعض وأظهر ، كالعلم الضروري ، فإنه أقوى من العلم المكتسب ، والعلم بالأعيان أقوى من العلم بالخبر .

          قلنا : لا نسلم تصور التفاوت بين العلوم من حيث هي علوم بزيادة ولا نقصان ، لانتفاء احتمال النقيض عنها قطعا ، ولو لم يكن كذلك لما كانت علوما ، بل ظنونا .

          والتفاوت الواقع بين العلم النظري والعلم الضروري ليس في نفس العلم بالمعلوم ، بل من جهة أن أحدهما مفتقر في حصوله إلى النظر دون الآخر ، أو أن أحدهما أسرع حصولا من الآخر ، لتوقفه على النظر .

          والتفاوت الواقع بين العلم بالخبر والعلم بالنظر غير متصور فيما تعلقا به ، وإنما التفاوت بينهما من جهة أن ما لا يدرك بالخبر يكون مدركا بالعيان والنظر [4] .

          الحجة الثالثة : أنه لو كان الخبر الواحد بمجرده موجبا للعلم ، لكان العلم حاصلا بنبوة من أخبر بكونه نبيا من غير حاجة إلى معجزة دالة على صدقه ، ولوجب أن يحصل للحاكم العلم بشهادة الشاهد الواحد ، وأن لا يفتقر معه إلى شاهد آخر ، ولا إلى تزكيته ، لما فيه من طلب تحصيل الحاصل ، إذ العلم غير قابل للزيادة والنقصان كما سبق تقريره [5] .

          [ ص: 35 ] الحجة الرابعة : أنه لو حصل العلم بخبر الواحد بمجرده لوجب تخطئة مخالفه بالاجتهاد وتفسيقه وتبديعه ، إن كان ذلك فيما يبدع بمخالفته ، ويفسق ، ولكان مما يصح معارضته بخبر التواتر ، وأن يمتنع التشكيك بما يعارضه كما في خبر التواتر ، وكل ذلك خلاف الإجماع [6] .

          فإن قيل ما ذكرتموه معارض بالنص والمعقول والأثر .

          أما النص فقوله تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) نهى عن اتباع غير العلم ، وقد أجمعنا على جواز اتباع خبر الواحد في أحكام الشرع ولزوم العلم به فلو لم يكن خبر الواحد مفيدا للعلم لكان الإجماع منعقدا على مخالفة النص وهو ممتنع ، وأيضا فإن الله تعالى قد ذم على اتباع الظن بقوله تعالى : ( إن يتبعون إلا الظن ) ، وقوله تعالى : ( وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) فلو لم يكن خبر الواحد مفيدا للعلم ؛ بل للظن ، لكنا مذمومين على اتباعه ، وهو خلاف الإجماع ، وأما من جهة المعقول ، فمن وجهين :

          الأول : أنه لو لم يكن خبر الواحد مفيدا للعلم لما أوجبه ، وإن كثر العدد إلى حد التواتر ؛ لأن ما جاز على الأول جاز على من بعده .

          الثاني : أنه لو لم يكن خبره موجبا للعلم ، لما أبيح قتل المقر بالقتل على نفسه ولا بشهادة اثنين عليه . ولما وجبت الحدود بأخبار الآحاد ؛ لكون ذلك قاضيا على دليل العقل وبراءة الذمة .

          [ ص: 36 ] وأما من جهة الأثر ، ونخص مذهب من فرق بين خبر وخبر كبعض المحدثين ، فهو أن عليا كرم الله وجهه ، قال : " ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته سوى أبي بكر " صدق أبا بكر ، وقطع بصدقه ، وهو واحد .

          قلنا : أما الآيات ، فالجواب عنها من وجهين :

          الأول : أن وجوب العمل بخبر الواحد واتباعه في الشرعيات إنما كان بناء على انعقاد الإجماع على ذلك والإجماع قاطع ، فاتباعه لا يكون اتباعا لما ليس بعلم ، ولا اتباعا للظن [7] .

          الثاني : أنه يحتمل أن يكون المراد من الآيات إنما هو المنع من اتباع غير العلم فيما المطلوب منه العلم ، كالاعتقادات في أصول الدين من اعتقاد وجود الله تعالى ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، ويجب الحمل على ذلك عملا بما ذكرناه من الأدلة[8] .

          وأما ما ذكروه من الوجه الأول من جهة المعقول ، فغير لازم ؛ لأن حكم الجملة قد يغاير حكم الآحاد ، على ما سبق مرارا .

          وأما الوجه الثاني : فمبني على أن أحكام الشرع لا تبنى على غير العلم ، وهو غير مسلم ، وعلى خلاف إجماع السلف قبل وجود المخالفين .

          وما ذكروه من الأثر ، فغايته أن يدل على أن عليا صدق أبا بكر ؛ رضي الله عنهما ، من غير يمين ، لحصول ظنه بخبره من غير يمين دون خبر غيره لكون ما اختص به من زيادة الرتبة وعلو الشأن في العدالة والثقة في مقابلة يمين غيره والتصديق بناء على غلبة الظن جائز في باب الظنون ، وإن لم يكن الصدق معلوما .

          [ ص: 37 ] وأما جواز وقوع العلم بخبر الواحد ، إذا احتفت به القرائن ، فيدل عليه أن القرينة قد تفيد الظن مجردة عن الخبر .

          وذلك كما إذا رأينا إنسانا يكثر من النظر إلى شخص مستحسن ، فإنا نظن حبه له ، فإذا اقترن بذلك ملازمته له ، زاد ذلك الظن ولا يزال في التزايد بزيادة خدمته له وبذل ما له وتغير حاله إلى غير ذلك من القرائن ، حتى يحصل العلم بحبه له كما في تزايد الظن بأخبار الآحاد حتى يصير تواترا .

          وكذلك علمنا بخجل من هجن ، ووجل من خوف ، باحمرار هذا واصفرار هذا .

          وبهذا الطريق نعلم عند ارتضاع الطفل وصول اللبن إلى جوفه بكثرة امتصاصه وازدراده وحركة حلقه مع كون المرأة شابة نفساء وبسكون الصبي بعد بكائه ، إلى غير ذلك من القرائن .

          وإذا كانت القرائن المتضافرة بمجردها مفيدة للعلم ، فلا يبعد أن تقترن بالخبر المفيد للظن مفيدة للظن ، قائمة مقام اقتران خبر آخر به ، ثم لا يزال التزايد في الظن بزيادة اقتران القرائن إلى أن يحصل العلم ، كما في خبر التواتر .

          وإذا ثبت الجواز فبيان الوقوع أنه لو أخبر واحد أن ولد الملك قد مات ، واقترن بذلك علمنا بمرضه ، وأنه لا مريض في دار الملك سواه ، وما شاهدناه من الصراخ العالي في داره ، والنحيب الخارج عن العادة ، وخروج الجنازة محتفة بالخدم ، والجواري حاسرات مبرحات يلطمن خدودهن ، وينتفن شعورهن ، والملك ممزق الثوب حاسر الرأس يلطم وجهه ، وهو مضطرب البال ، مشوش الحال ، على خلاف ما كان من عادته من التزام الوقار والهيبة ، والمحافظة على أسباب المروءة فإن كل عاقل سمع ذلك الخبر ، وشاهد هذه القرائن يعلم صدق ذلك المخبر ، ويحصل له العلم بمخبره ، كما يعلم صدق خبر التواتر ووقوع مخبره .

          وكذلك إذا أخبر واحد ، مع كمال عقله وحبه لحياة نفسه وكراهته للألم ، وهو في أرغد عيشة ، نافذ الأمر ، قائم الجاه أنه قتل من يكافئه عمدا عدوانا ، بآلة يقتل مثلها غالبا ، من غير شبهة له في قتله ، ولا مانع له من القصاص ، كان خبره مع هذه القرائن موجبا للعلم بصدقه عادة .

          وكذلك إذا كان في جوار إنسان امرأة حامل ، وقد انتهت مدة حملها ، فسمع الطلق من وراء الجدار ، وضجة النسوان حول تلك الحامل ، ثم سمع صراخ [ ص: 38 ] الطفل ، وخرج نسوة يقلن إنها قد ولدت ، فإنه لا يستريب في ذلك ، ويحصل له العلم به قطعا ، وإنكار ذلك مما يخرج المناظرة إلى المكابرة .

          فإن قيل العلم الحاصل بموت ولد الملك في الصورة المفروضة ، إما أن يكون حاصلا من نفس الخبر أو من نفس القرائن ، أو من الخبر مشروطا بالقرائن ، أو بالقرائن مشروطا بالخبر الأول أو من الأمرين معا لا جائز أن يكون من مجرد الخبر لما ذكرتموه أولا ، ولا جائز أن يكون من الخبر مشروطا بالقرائن ، ولا من القرائن بشرط الخبر ولا من الخبر والقرائن معا ، لاستقلال تلك القرائن المذكورة بإفادة العلم بالموت ، سواء وجد الخبر أو لم يوجد ، فلم يبق إلا أن يكون حاصلا من نفس القرائن ولا أثر للخبر .

          ثم ما ذكرتموه معارض بما ذكرتموه من الحجج الدالة على امتناع وقوع العلم بخبر الواحد مجردا عن القرائن فإنها متجهة بعينها هاهنا .

          والجواب عن السؤال الأول أنه لا يمتنع أن يكون سبب ما وجد من القرائن موت غير ولد الملك فجأة ، فإذا انضم إليها الخبر بموت ذلك المريض بعينه ، كان اعتقاد موته آكد من اعتقاد موته مع القرائن دون الخبر [9] .

          وعن المعارضات أنها غير لازمة فيما نحن فيه .

          أما الحجة الأولى ، فلأنا إذا فرضنا حصول العلم بخبر من احتفت بخبره القرائن ، فيمتنع تصور اقتران مثل تلك القرائن ، أو ما يقوم مقامها بالخبر المناقض له وإن كان نفس الخبر مناقضا ، بخلاف ما إذا كان الخبر بمجرده مفيدا للعلم ، فإن ذلك غير مانع من خبر آخر مناقض له على ما هو معلوم في الشاهد [10] .

          وأما الحجة الثانية ، فلأن ما نجده من التزيد عند أخبار الآحاد إنما يكون فيما لم يحصل العلم فيه بخبر الأول والثاني ، وأما متى كان العلم قد حصل بخبر الأول [ ص: 39 ] فالتزيد من ذلك يكون ممتنعا ، ولا كذلك فيما إذا أخبر واحد بخبر ، فإنا إذا جردنا النظر إلى خبره من غير قرينة ، وجدنا أنفسنا مما يزيد فيها الظن بما أخبر به باقتران خبر غيره بخبره [11] .

          وأما الحجة الثالثة : فلأنا إذا قلنا إن خبر الواحد يفيد العلم بمخبره ، لزم تصديق مدعي النبوة في خبره ، ولا كذلك إذا قلنا إن الخبر لا يفيد العلم إلا بالقرائن .

          فخبر الواحد بنبوته لا يكون مفيدا للعلم بصدقه دون اقتران القرائن بقوله ، والمعجزة من القرائن [12] .

          وأما الحجة الرابعة : فغايتها أنها تدل على أنه لم يوجد خبر من أخبار الآحاد في الشرعيات موجبا للعلم بمجرده [13] ، ولا يلزم منه انتفاء ذلك مطلقا .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية