الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المسألة السادسة

          [1] الأمر بالشيء على التعيين [2] هل هو نهي عن أضداده ؟ اختلفوا فيه : وتفصيل المذاهب : أما أصحابنا فالأمر عندهم هو الطلب القائم بالنفس ، وقد اختلفوا : فمنهم من قال : الأمر بالشيء بعينه نهي عن أضداده ، وإن طلب الفعل بعينه هو طلب ترك أضداده ، وهو قول القاضي أبي بكر في أول أقواله .

          ومنهم من قال : هو نهي عن أضداده ، بمعنى أنه يستلزم النهي عن الأضداد لا أن الأمر هو عين النهي ، وهو آخر ما اختاره القاضي في آخر أقواله [3] .

          [ ص: 171 ] ومنهم من منع من ذلك مطلقا [4] وإليه ذهب إمام الحرمين والغزالي .

          وأما المعتزلة : فالأمر عندهم نفس صيغة " افعل " وقد اتفقوا على أن عين صيغة " افعل " لا تكون نهيا ; لأن صيغة النهي " لا تفعل " وليس إحداهما عين الأخرى ، وإنما اختلفوا في أن الأمر بالشيء هل يكون نهيا عن أضداده من جهة المعنى .

          فذهب القدماء من مشايخ المعتزلة إلى منعه ، ومن المعتزلة من صار إليه ، كالعارضي [5] وأبي الحسين البصري ، وغيرهما من المعتبرين منهم .

          ومعنى كونه نهيا عن الأضداد من جهة المعنى عندهم ، أن صيغة الأمر تقتضي إيجاد الفعل ، والمنع من كل ما يمنع منه .

          ومنهم من فصل بين أمر الإيجاب والندب ، وحكم بأن أمر الإيجاب يكون نهيا عن أضداده ، ومقبحا لها ، لكونها مانعة من فعل الواجب ، بخلاف المندوب .

          ولهذا فإن أضداد المندوب من الأفعال المباحة غير منهي عنها ، لا نهي تحريم ولا نهي تنزيه .

          والمختار إنما هو التفصيل ، وهو إما أن نقول بجواز التكليف بما لا يطاق ، أو لا نقول به ، فإن قلنا بجوازه ، على ما هو مذهب الشيخ أبي الحسن ( رحمة الله عليه ) كما سبق تقريره ، فالأمر بالفعل لا يكون بعينه نهيا عن أضداده ، ولا مستلزما للنهي عنها ، بل جائز أن نؤمر بالفعل وبضده في الحالة الواحدة ، فضلا عن كونه لا يكون منهيا عنه [6] .

          [ ص: 172 ] وإن منعنا ذلك فالمختار أن الأمر بالشيء يكون مستلزما للنهي عن أضداده ، لا أن يكون عين الأمر هو عين النهي عن الضد [7] وسواء كان الأمر أمر إيجاب أو ندب .

          أما أنه مستلزم للنهي عن الأضداد ، فلأن فعل المأمور به لا يتصور إلا بترك أضداده .

          وما لا يتم فعل المأمور به دون تركه ، فهو واجب الترك إن كان الأمر للإيجاب ، ومندوب إلى تركه إن كان الأمر للندب ، على ما سبق تقريره .

          وهو معنى كونه منهيا عنه ، غير أن النهي عن أضداد الواجب يكون نهي تحريم ، وعن أضداد المندوب نهي كراهة وتنزيه ، وأما أنه لا يكون عين الأمر هو عين النهي . فإذا قلنا إن الأمر هو صيغة ( افعل ) فظاهر ، على ما سبق [8] وأما على قولنا إن الأمر هو الطلب القائم بالنفس ، فلأنا إذا فرضنا الكلام في الطلب النفساني القديم ، فهو وإن اتحد على أصلنا [9] فإنما يكون أمرا بسبب تعلقه بإيجاد الفعل ، وهو من هذه الجهة لا يكون نهيا ، بسبب تعلقه بترك الفعل ، وهما بسبب التغاير في التعلق والمتعلق متغايران .

          وإن فرضنا الكلام في الطلب القائم بالمخلوق فهو وإن تعدد ، فالأمر منه أيضا إنما هو الطلب المتعلق بتركه وهما غيران .

          فإن قيل : لو كان الأمر بالفعل مستلزما للنهي عن أضداده لكان الأمر بالعبادة مستلزما للنهي عن جميع المباحات المضادة لها ، ويلزم من ذلك أن تكون حراما إن كان النهي نهي تحريم أو مكروهة إن كان النهي نهي تنزيه .

          وخرج المباح عن كونه مباحا ، كما ذهب إليه الكعبي [10] من المعتزلة ، [ ص: 173 ] بل ويلزم منه أن يكون ما عدا العبادة المأمور بها من العبادات المضادة لها منهيا عنها ومحرمة أو مكروهة وهو محال .

          كيف وإن الآمر بالفعل قد يكون غافلا عن أضداده ، والغافل عن الشيء لا يكون ناهيا عنه ; لأن النهي عن الشيء يستدعي العلم به ، والعلم بالشيء مع الذهول عنه محال .

          سلمنا أنه مستلزم للنهي عن أضداده ، لكن يمتنع أن يكون النهي عن الأضداد غير الأمر ، بل يجب أن يكون هو هو بعينه ، كما قاله القاضي أبو بكر في أحد قوليه .

          ومأخذه أنه إذا وقع الاتفاق على أنه يلزم من الأمر بالفعل النهي عن أضداده ، فذلك النهي إن كان هو غير الأمر ، فإما أن يكون ضدا له أو مثلا [11] أو خلافا . لا جائز أن يقال بالمضادة ، وإلا لما اجتمعا ، وقد اجتمعا .

          ولا جائز أن يكون مثلا لأن المتماثلات أضداد على ما عرف في الكلاميات .

          ولا جائز أن يكون خلافا ، وإلا جاز وجود أحدهما دون الآخر ، كما في العلم والإرادة ونحوهما ، ولجاز أن يوجد أحدهما مع ضد الآخر ، كما يوجد العلم بالشيء مع الكراهة المضادة لإرادته ، ويلزم من ذلك أنه إذا أمر بالحركة المضادة للسكون إذا كان النهي عن السكون مخالفا للأمر بالحركة أن يجتمع الأمر بالحركة والأمر بالسكون المضاد المنهي عنه ، وفيه الأمر بالضدين معا ، وهو ممتنع على ما وقع به الفرض ، وإذا بطلت المغايرة تعين الاتحاد .

          وعلى هذا فالحركة عين ترك [ ص: 174 ] السكون ، وشغل الجوهر بحيز هو عين تفريغه لغيره [12] وعين القرب من المشرق بالفعل الواحد هو عين البعد من المغرب ، فطلب أحدهما بعينه طلب الآخر لاتحاد المطلوب .

          والجواب : عن السؤال الأول أنا لا نمنع من كون المباحات بل الواجبات المضادة المأمور بها منهيا عنها من جهة كونها مانعة من فعل المأمور به ، لا في ذاتها كما نقول في فعل الصلاة في الدار المغصوبة ، فإنه في ذاته غير منهي عنه ، وإن كان منهيا عنه من جهة ما يتعلق به من شغل ملك الغير ، كما سبق ذكره .

          ولا التفات إلى ما يهول به من خروج المباحات عن كونها مباحة ، فإن ذلك إنما يلزم أن لو قيل بكونها منهيا عنها في ذواتها .

          وأما إذا قيل بكونها منهيا مانعة من فعل المأمور به فلا .

          قولهم : إنه قد يأمر بالفعل من هو غافل عن أضداده ، قلنا : لا نسلم أن الآمر بالشيء عند كونه آمرا به يتصور أن يكون غافلا عن طلب ترك ما يمنع من فعل المأمور به من جهة الجملة ، وإن كان غافلا عن تفصيله .

          ونحن إنما نريد بقولنا إن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن الأضداد من جهة الجملة لا من جهة التفصيل ، قولهم : إنه يمتنع أن يكون النهي عن الأضداد غير الأمر ، قلنا : دليله ما سبق [13] .

          وما ذكره القاضي أبو بكر من الدليل ، فالمختار منه إنما هو قسم التخالف ، ولا يلزم من ذلك جواز انفكاك أحدهما عن الآخر لجواز أن يكونا من قبيل المختلفات المتلازمة كما في المتضايفات [14] وكل متلازمين من الطرفين وبه [ ص: 175 ] يمتنع [15] الجمع بين وجود أحدهما ، وضد الآخر ولا يلزم من جواز ذلك في بعض المختلفات جوازه في الباقي ، وإذا بطل ما ذكره من دليل الاتحاد بطل ما هو مبني عليه .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية