الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إذا علمت هذا فاعلم أن كثيرا من الناس يظنون أن القائل بالجهة أو الاستواء هو من المجسمة ، لأنهم يتوهمون أن من لازم ذلك التجسيم ، وهذا وهم فاسد ، وظن كاذب ، وحدس حائد ، لأنا نقول أولا لمن ارتكب هذا المركب لازم المذهب ليس بمذهب عند أئمة أهل التحقيق ، وذوي النباهة والمعرفة [ ص: 199 ] والتصديق ، فكيف يحسن أن ينسب إلى المرء شيء من لوازم كلامه ، وهو من أبعد الناس عنه بقصده ومرامه .

فإن أهل الإثبات المتبعين للمنصوص من الأخبار والآيات ، ينزهون الله تعالى عن التكييف والحد ، ويعتقدون أن من وصفه تعالى بالجسم ، أو كيف فقد زاغ وألحد .

ولهذا قال لما أثبت له صفة الاستواء كما ورد في القرآن العظيم ، والذكر الحكيم نؤمن بأنه عز وجل استوى على عرشه ( ( من غير كيف ) ) ، كما روى اللالكائي الحافظ في كتابه ( السنة ) من طريق قرة بن خالد ، عن الحسن البصري ، عن أمه خيرة مولاة أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها - ، عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت في قوله تعالى الرحمن على العرش استوى الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، والبحث عنه كفر . وهذا له حكم المرفوع لأن مثله لا يقال من قبل الرأي .

وفي لفظ آخر قالت : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإقرار به من الإيمان ، والجحود به كفر .

وروى يحيى بن آدم عن أبيه ، وابن عيينة ، قال : سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن - المشهور بربيعة الرأي ، وهو شيخ الإمام مالك بن أنس - رضي الله عنه - عن قوله تعالى الرحمن على العرش استوى كيف استوى ؟ قال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، ومن الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التصديق .

وروي نحو ذلك أيضا عن الإمام مالك رضي الله عنه فقد ذكر الإمام يوسف بن عبد البر في كتابه ( ( التمهيد ) ) قال : أخبرنا عبد الله بن محمد بن مؤمن ، قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سريج بن النعمان ، قال : حدثنا عبد الله بن نافع ، قال : قال الإمام مالك بن أنس : الله في السماء ، وعلمه في كل مكان لا يخلو منه مكان .

قال : وقيل لمالك : الرحمن على العرش استوى ، كيف استوى ؟ فقال مالك - رحمه الله - : استواؤه معلوم ، وكيفيته مجهولة ، وسؤالك عن هذا بدعة ، وأراك رجل سوء .

ويروى عن الشعبي أنه سئل عن الاستواء ، فقال : هذا من متشابه القرآن نؤمن به ، ولا [ ص: 200 ] تتعرض لمعناه .

وروي عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - أنه سئل عن الاستواء ، فقال : آمنت بلا تشبيه ، وصدقت بلا تمثيل ، واتهمت نفسي في الإدراك ، وأمسكت عن الخوض غاية الإمساك .

وعن سيدنا الإمام أحمد - رضي الله عنه - أنه لما سئل عن الاستواء ، أجاب بقوله : استوى كما ذكر ، لا كما يخطر للبشر .

فمعنى قول أم سلمة - رضي الله عنها - في الحديث ومن نحا نحوها من الأئمة : الاستواء معلوم أي وصفه تعالى بأنه تعالى على العرش ( استوى ) استواء معلوم بطريق النقل الثابت بالتواتر ، وأما الوقوف على حقيقة أمر يعود إلى الكيفية فمجهول ، والجهالة فيه من جهة أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الكيفية لأنها تبع للماهية .

وقولهم " والسؤال عنه بدعة " لأن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يسألوا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والتابعين لم يسألوا الصحابة ، ولأن جوابه يتضمن الكيفية .

ولهذا قيل في الجواب لمن دخلت عليهم الشبهة طالبين بسؤالهم التكييف : والكيف مجهول ، فالذي ثبت نفيه بالشرع والعقل ، واتباع السلف ، إنما هو علم العباد بالكيفية ، فعندها تنقطع الأطماع ، وعن دركها تقصر العقول .

والوقوف على درج سلم التسليم منتهى همم الأئمة الفحول ، ولهذا قال في تتمة نظمه ملوحا بالرد على الممثل والمعطل بقوله ( ( قد تعالى ) ) الله علا وجل ، ولسنا في اتباع المأثور مع التسليم للمولى الحكيم على وجل ، فإنا نقتفي أثر المأثور ، ونشهر سيوف السنة لأعناق أهل البدع والنفي باتباع المشهور ، ونرد على كل من ألحد [ ص: 201 ] بأن الله تعالى وتقدس وتنزه من ( ( أن يحد ) ) أو يقاس بما يحد ، وفيه إشارة إلى رد زعم من زعم بأنه يلزم من كونه تعالى مستويا على عرشه أن [ ص: 202 ] يحد .

قال الإمام القرطبي ، وابن أبي زيد ، والقاضي عبد الوهاب من المالكية ، وجماعة من شيوخ الحديث والفقه ، وابن عبد البر ، والقاضي أبو بكر بن العربي ، وابن فورك ، وغيرهم ممن لا يحصى عددهم أنه سبحانه مستو على العرش [ ص: 203 ] بذاته ، وأطلقوا في بعض الأماكن : فوق عرشه ، قال القاضي أبو بكر - وهو الصحيح الذي أقول به - : من غير تحديد ، ولا تمكن في مكان ولا مماسة .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : استوى على عرشه على الوجه الذي يستحقه [ ص: 204 ] سبحانه من الصفات اللائقة به ، قال : فإن قال قائل : لو كان الله تعالى فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا ، وذلك كله [ ص: 205 ] محال ، ونحو ذلك من الكلام ، والجواب أن يقال إن هذا لم يفهم من كون الله على العرش ، إلا ما يثبت للأجسام ، فهذا اللازم تابع لهذا المفهوم ، وأما [ ص: 206 ] استواء يليق بجلال الله يختص بعظمته ، فلا يلزم شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها كما يلزم سائر الأجسام ، وحال هذا القائل مثل قول من يقول إذا كان للعالم صانع ، فإما أن يكون جوهرا أو عرضا ، وكلاهما محال إذا لا يعقل موجود إلا كذلك .

قال : والقول الفصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ، فكما أنه تعالى موصوف بالعلم والبصر والقدرة ، ولا يثبت لذلك خصائص الأعراض التي للمخلوقين ، فكذلك سبحانه هو فوق عرشه ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوقين على المخلوق تعالى الله عن ذلك .

فلدفع هذا الوهم أشار في النظم لنفي التحديد ، المتحذلق به كل ملحد وعنيد ، وقال الإمام القرطبي أظهر الأقوال ، وإن كنت لا أقول به ولا أختاره ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار ، إن الله سبحانه على عرشه كما أخبر في كتابه بلا كيف بائن من جميع خلقه ، هذا جملة مذهب السلف الصالح ، انتهى .

والعجب من القرطبي حيث يقول : وإن كنت لا أقول به ولا أختاره ، ولعله خشي من تحريف الحسدة فدفع وهمهم بذلك ، قاله العلامة الشيخ مرعي ، وبهذا قال الجماهير الحنابلة لكن قالوا : استوى على الوجه الذي يستحقه لذاته مما لا يشاركه فيه المحدث ، ولا يشابهه ولا يماثله ، ولا يدل على إثبات كمية ، ولا صفة كيفية بل على الوجه الذي يستحقه الله لنفسه .

قالوا وإلى هذه الإشارة في حديث أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها - في الحديث المار : الاستواء معلوم والكيف مجهول - الحديث ، ورضي الله تعالى عن الإمام مالك حيث قال : أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - لجدل هؤلاء ؟ وكل من هؤلاء مخصوم بمثل ما خصم به الآخر فلم يبق إلا الرجوع لما قاله الله ورسوله والتسليم لهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية