الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

( ( فلا يحيط علمنا بذاته كذاك لا ينفك عن صفاته ) )      ( ( فكل ما قد جاء في الدليل
فثابت من غير تمثيل ) )

ولما كان الله سبحانه وتعالى بهذه المثابة من العظمة والكبرياء والجلالة ، وكان الناظم مستشعرا بهذا ، قال : ( ( فلا يحيط علمنا ) ) معشر الخلق من الملائكة والإنس والجن ، ولو بذلنا جهدنا في تحصيل معرفته ، وأنفذنا أعمارنا في الدأب في التدقيق ، والإمعان في النظر فيما يوصل إلى إدراك حقيقته فلا يمكن أن يحيط علمنا ، ولا أن تدرك عقولنا العلم ( ( بذاته ) ) المقدسة وحقيقته المعظمة .

قال شيخ الإسلام في التدمرية : ومثل هذا - يعني عدم العلم بحقائق الصفات والذات - يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة ينفون علم العباد بكيفية صفات الله تعالى ، وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله ، [ ص: 214 ] قال : فلا يعلم ما هو إلا هو ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " وهذا في صحيح مسلم وغيره .

وقال في الحديث الآخر " اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك " والحديث في المسند ، وصحيح أبي حاتم ، وقد أخبر فيه أن لله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده ، فمعاني هذه الأسماء التي استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره ، ونحن نعلم أن أسماء الله تعالى كلها اتفقت في دلالتها على ذات الله مع تنوع معانيها ، فهي متفقة متواطئة من حيث الذات ، متباينة من جهة الصفات ، فهي مترادفة بحسب الذات متباينة بحسب الصفات

قال شيخ الإسلام : ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد ، وفي الغائب ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به من الجنة والنار ، علمنا معنى ذلك ، وفهمنا ما أريد منا فهمه بذلك الخطاب وفسرنا ذلك ، وأما نفس الحقيقة المخبر عنها مثل التي لم تكن بعد وإنما تكون يوم القيامة فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله ، انتهى .

ولهذا قال بعض الناس : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الاسم ، كما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - ، قال ابن وهب : قال عبد الرحمن بن زيد : يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا بالتفاح والرمان ، وليس هو مثله في الطعم . وقد أخرج عبد الله بن الإمام أحمد - رحمهما الله تعالى - من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أهبط الله آدم من الجنة ، وعلمه صنعة كل شيء وزوده من ثمار الجنة ، فثماركم هذه من ثمار الجنة ، غير أنها تغير وتلك لا تتغير " .

فالله جل شأنه لا يعلم عباده الحقائق التي أخبر عنها من صفاته ، وصفات اليوم الآخر ، ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة ، ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة ، فحقيقة ما دل عليه سبحانه وتعالى من حقائق الأسماء والصفات وماله من الجنود الذين يستعملهم في أفعاله فلا يعلمه إلا هو (وما يعلم جنود ربك إلا هو ) وهذا من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله .

[ ص: 215 ] وبهذا يتبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة ، وإن زال الاشتباه بما يميز أحد المعنيين من إضافة أو تعريف ، كما إذا قيل فيها أنهار من ماء ، فهنا قد خص هذا الماء بالجنة ، فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا ، لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلومة لنا ، وهو مع ما أعده الله تعالى لعباده الصالحين مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله ، وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها التي هي حقيقته لا يعلمها إلا هو ، ولهذا كان الأئمة الكبار كالإمام أحمد وغيره ، ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه .

فالحقيقة التي استأثر الله بعلمها لا يعلمها إلا هو ، كما بسط عليه الكلام شيخ الإسلام في التدمرية وغيرها ، ثم قال : وقد افترق الناس في هذا المقام ثلاث فرق ، فالسلف والأئمة وأتباعهم آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه ، وعن اليوم الآخر مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا ، وبين ما في الآخرة ، وأن مباينة الله تعالى لخلقه أعظم .

( والفريق الثاني ) الذين أثبتوا ما أخبر به في الآخرة من الثواب والعقاب ونفوا كثيرا مما أخبر به من الصفات مثل طوائف من أهل الكلام .

( والفريق الثالث ) نفوا هذا وهذا كالقرامطة الباطنية والفلاسفة اتباع المشائين ونحوهم من الملاحدة ، الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه ، وعن اليوم الآخر ، وهؤلاء الباطنية هم الملاحدة الذين أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية