الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

( ( وجنة النعيم للأبرار مصونة عن سائر الكفار ) )

( ( وجنة النعيم ) ) : اعلم أن للجنة عدة أسماء باعتبار صفاتها ، ومسماها واحد باعتبار الذات ، فهي مترادفة من هذا الوجه ، وهكذا أسماء الرب تعالى ، وأسماء كتابه ، وأسماء رسله ، وأسماء اليوم الآخر ، وأسماء النار ، فالاسم العام الجنة المتناول لتلك الدار وما اشتملت عليه من أنواع النعيم واللذة والبهجة والسرور وقرة العين ، وأصل اشتقاقها من الستر والتغطية ، ومنه الجنين لاستتاره في البطن ، والجان لاستتارهم عن العيون ، والمجن لستره ووقايته الوجه ، والمجنون لاستتار عقله وتواريه ، والجان وهي الحية الصغيرة الدقيقة ، ومنه تسمية البستان جنة لأنه يستر داخله بالأشجار ويغطيه ، فلا يستحق هذا الاسم إلا موضع كثير الشجر مختلف الأنواع ، والجنة بالضم ما يستجن به من ترس أو غيره ، ومنه قوله تعالى ( اتخذوا أيمانهم جنة ) يتترسون بها من إنكار المؤمنين عليهم ، ومنه الجنة بالكسر ، وهم الجن كما تقدم ، ومنه قوله [ ص: 226 ] تعالى ( من الجنة والناس ) وذهبت طائفة من المفسرين إلى أن الملائكة يسمون جنة ، واحتجوا بقوله تعالى ( وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) وقالوا هذا النسب قولهم : الملائكة بنات الله ، ورجحوه بوجهين : أحدهما أن النسب الذي جعلوه إنما زعموا أنه بين الملائكة وبينه لا بين الجن وبينه ، الثاني قوله تعالى ( ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ) أي : علمت الملائكة أن الذين قالوا هذا القول محضرون العذاب .

قال الإمام المحقق شمس الدين بن القيم في كتابه ( حادي الأرواح إلى منازل الأفراح ) : والصحيح أن الجنة هم الجن أنفسهم كما قال تعالى : ( من الجنة والناس ) وعلى هذا ففي الآية الكريمة قولان ، أحدهما قول مجاهد قال : قالت كفار قريش : الملائكة بنات الله ، فقال لهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنهم : فمن أمهاتهم ؟ قالوا : سروات الجن ، وقال الكلبي : تزوج من الجن فخرج من بينهم الملائكة ، وقال قتادة : قالوا صاهر الجن ، والقول الثاني قول الحسن ، قال : أشركوا الشياطين في عبادة الله فهو النسب الذي جعلوه .

قال ابن القيم : والصحيح قول مجاهد ، وأما قوله تعالى : ( ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ) فالضمير يرجع إلى الجنة ، أي : قد علمت الجنة أنهم محضرون للحساب ، قاله مجاهد ، أي : لو كان بينه وبينهم نسب لم يحضرهم الحساب كما قال تعالى : ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم ) ، فجعل سبحانه عقوبتهم بذنوبهم وإحضارهم للعذاب مبطلا لدعواهم الكاذبة ، وهذا التقدير في الآية أبلغ في إبطال قولهم من التقدير الأول . انتهى .

ومن أسماء الجنة جنات النعيم ، قال تعالى ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم ) قال في حادي الأرواح : وهذا أيضا اسم جامع لجميع الجنان لما تضمنته من الأنواع التي يتنعم بها من المأكول والمشروب والملبوس والصور والرائحة والمنظر البهيج والمساكن الواسعة ، وغير ذلك من النعيم الظاهر والباطن . وقوله في النظم ( ( للأبرار ) ) إشارة إلى أن هذه اللام لام الاختصاص والاستحقاق ، فلا يدخلها ويسكنها غيرهم ، والأبرار جمع بار ، وهو كثير البر ، والبر اسم جامع للخير ، وقيل في قوله تعالى ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) إن البر الجنة ، [ ص: 227 ] وفي القاموس : البر الصلة الحسنة والخير والصدق والطاعة كالتبرر ، وضده العقوق كالمبرة . والبر بالفتح من أسماء الله الحسنى ، والصادق والكثير البر ، ويجمع البار أيضا على بررة ، وقد ذكر الله في كتابه عدة آيات يخص الجنة بأهل الإيمان والتقوى كقوله تعالى في الجنة ( أعدت للمتقين ) ، وقال تعالى : ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) وقال تعالى : ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) وقال : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ) ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم ) وهذا في القرآن كثير ومداره على ثلاث قواعد إيمان وتقوى وعمل خالص لله - عز وجل - على موافقة السنة ، فأهل هذه الثلاثة هم الأبرار ، وهم أهل البشرى دون من عاداهم من سائر الخلق ، وعلى هذه الثلاثة أشياء دارت بشارات القرآن والسنة جميعها ، وهي تجتمع في أصلين ، إخلاص في طاعة الله ، وإحسان إلى خلقه ، وترجع إلى خصلة واحدة ، وهي موافقة الرب تعالى في محابه ، ولا طريق إلى ذلك إلا بتحقيق القدوة ظاهرا وباطنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم .

وأما الأعمال التي هي تفاصيل هذا الأصل فهي بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وبين هاتين الشعبتين سائر الشعب التي مرجعها إلى تصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما أخبر به ، وطاعته في جميع ما أمر به إيجابا واستحبابا ، واجتناب ما نهى عنه تحريما وكراهة ، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " قال الله - عز وجل : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .

فاقرءوا إن شئتم ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين )
رواه البخاري ومسلم وغيرهما .

وفي حديث أبي هريرة أيضا - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره " أخرجه البخاري ومسلم . وفي رواية لمسلم : حفت بدل حجبت . وفي حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات " .

[ ص: 228 ] رواه مسلم والترمذي .

وقد ثبت أن مفتاح الجنة كلمة الإخلاص ، وهي شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فقد أخرج الإمام أحمد عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - مرفوعا : " مفتاح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله " . قال الحافظ ابن رجب في كتابه ( التوحيد ) : في سنده انقطاع ، وفي صحيح البخاري عن وهب بن منبه أنه قيل له : أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله ؟ قال : بلى ، ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان ، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك ، وإلا لم يفتح .

وفي صحيح البخاري عن جابر - رضي الله عنه - قال : جاءت ملائكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم : إنه نائم ، وقال بعضهم : العين نائمة والقلب يقظان ، فقالوا : إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا ، فقالوا : مثله مثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا ، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة ، فقالوا : أولوها يفقهها ، فقال بعضهم : العين نائمة والقلب يقظان ، الدار الجنة ، والداعي محمد ، فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله ، ومن عصى محمدا فقد عصى الله ، ومحمد فرق بين الناس .

ورواه الترمذي عنه بلفظ : خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إني رأيت في المنام كأن جبريل على رأسي ، وميكائيل على رجلي " . فذكر نحو ما تقدم ، وفيه : " فالله هو الملك ، والدار الإسلام ، والبيت الجنة ، وأنت يا محمد رسول الله ، فمن أجابك دخل الإسلام ، ومن دخل الإسلام دخل الجنة وأكل مما فيها " ، ( ( مصونة ) ) أي : جنة النعيم محفوظة ومحمية ( ( عن سائر ) ) أي : جميع ( ( الكفار ) ) سواء كان كفرهم بالشرك أو الجحود أو إنكار النبوات أو إنكار أحد من الأنبياء ، أو استحلال ما علم تحريمه أو تحريم ما علم حله من الدين بالضرورة ، أو جحود ما علم مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - به بالضرورة ، أو إنكار المعاد الجسماني ، أو جحود الكتاب المنزل أو شيء منه ، أو ملك من الملائكة ، أو إنقاص ملك أو نبي ونحو ذلك ، فالجنة لا تدخلها إلا نفس مؤمنة بإجماع أهل الحق ، وأما أهل الكفر والجحود فهم في نار جهنم كلما مر عليهم زمن أولد لهم الخلود فلا يفتر عنهم العذاب ولا ينقطع ، ولا إن بكى أحدهم واستغاث ينتفع ، فعذابهم متواصل في دار الهوان بما كانوا يكفرون .

[ ص: 229 ] كما قال تعالى : ( إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون ) وقال تعالى : ( والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ) وقال : ( فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ) والآيات في مثل هذا كثيرة ، وسأل الحسن البصري أبا برزة عن أشد آية في كتاب الله تعالى على أهل النار ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) فقال : " هلك القوم بمعاصيهم لله - عز وجل " . أخرجه ابن أبي حاتم ، وفيه ضعف ، وكذا البيهقي وقال : لم أعرفه .

وفي القرآن العظيم ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) . . . إلى قوله تعالى ( وذلك هو الفوز العظيم ) فأشعرت الآية الكريمة بخطر النفس الإنسانية وعظم مقدارها عند ربها ، فإن السلعة إذا خفي عليك قدرها فانظر المشتري لها من هو ، وانظر إلى الثمن المبذول فيها ما هو ، وانظر إلى من جرى على يده عقد التبايع ، فالسلعة النفس ، والله تعالى المشتري لها ، والثمن جنات النعيم ، والسفير في هذا العقد خير خلقه من الملائكة وأكرمهم عليه وخيرهم من البشر وأكرمهم عليه .

وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة " . قال الترمذي : حديث حسن غريب ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالا ينادي في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، وفي لفظ : مؤمنة .

وفي مسلم عن ابن ( عباس عن ) عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - وذكر الحديث ، وفيه " يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون " وفي البخاري معناه .

وفي كتاب صفة الجنة لأبي نعيم من حديث أبان عن أنس - رضي الله عنه - قال : جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما ثمن الجنة ؟ قال : " لا إله إلا الله " .

قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه ( حادي الأرواح ) : وشواهد هذا الحديث كثيرة جدا .

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أعرابيا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة ، قال : " تعبد الله [ ص: 230 ] لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤتي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان " قال : والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا أبدا ولا أنقص منه ، فلما ولى قال - صلى الله عليه وسلم : " من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا " وفي مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال : أتى النعمان بن قوقل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله أرأيت إذا صليت المكتوبة وحرمت الحرام وأحللت الحلال أدخل الجنة ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : نعم .

وفي صحيح مسلم أيضا عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة " . وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " .

وفي الصحيحين عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " آتاني آت من ربي فأخبرني - أو قال : فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة . قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق " . وفي الصحيحين أيضا عن عتبان بن مالك الأنصاري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي وجه الله " وفي هذا عدة أحاديث تزيد على حد التواتر .

التالي السابق


الخدمات العلمية