الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
[ ص: 118 ] فصل في بحث أسمائه جل وعلا

اعلم أن المعتزلة ومن وافقهم واتبعهم يثبتون لله - تعالى - الأسماء دون ما تضمنته من الصفات ، فمنهم من جعل العليم والقدير ، والسميع والبصير ، كالأعلام المحضة المترادفة ، ومنهم من قال : عليم بلا علم ، قدير بلا قدرة ، سميع بلا سمع ، بصير بلا بصر ، فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات . قال شيخ الإسلام في رسالته ( التدمرية ) : والكلام على فساد مقالة هؤلاء ، وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول ، فإن هؤلاء يسفسطون في العقليات ، ويقرمطون في السمعيات ، وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غني عما سواه ، إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات ، كالحيوان والمعدن والنبات ، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع ، وقد علم بالاضطرار أن المحدث لا بد له من محدث ، والممكن لا بد له من واجب ، كما قال - تعالى : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) ، فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق ، ولا هم الخالقون لأنفسهم ، تعين أن ( لهم ) خالقا خلقهم ، وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه ، وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم ، فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود ، ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا ، بل وجود هذا يخصه ، ووجود هذا يخصه ، واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتقييد والتخصيص ولا في غيره ، فلا يقول عاقل إذا قيل إن العرش شيء موجود ، وإن البعوض شيء موجود ، إن هذا مثل هذا لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود ، بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كليا هو مسمى الاسم المطلق ، وإذا قيل : هذا موجود وهذا موجود ، فوجود كل منهما يخصه لا يشركه فيه غيره مع أن الاسم حقيقة في كل منهما ، ولهذا سمى الله - تعالى - نفسه بأسماء ، وسمى صفاته بأسماء ، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه ، لا يشركه فيها غيره ، لأنه - سبحانه - القديم ، وأسماؤه قديمة ، وصفاته قديمة ، فإذا كان المخاطب ممن ينكر الصفات ويقر بالأسماء كالمعتزلي الذي يقول [ ص: 119 ] : الله حي عليم قدير ، وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة ، قيل له : لا فرق بين إثبات الأسماء ، وبين إثبات الصفات ، فمن زعم أن إثبات الصفات يقتضي تشبيها أو تجسيما لما يرى في الشاهد ، قيل له : ولا يرى في الشاهد ما هو مسمى بحي وعليم وقدير إلا ما هو كذلك ، فكل ما احتج به من نفي الصفات يحتج عليه من الأسماء الحسنى ، فما كان جوابا له ، كان جوابا لمثبتي الصفات . ولما كانت أسماؤه - سبحانه - ثابتة باتفاق أهل السنة والمعتزلة ، قال مشيرا لذلك في النظام بقوله ( أسماؤه ) - سبحانه وتعالى - ( ثابتة ) بالنص والعقل ، ( عظيمة ) وصفها بذلك ; لأنها معظمة موصوفة بأنها حسنى ، وأنها قديمة عند أهل الحق ، كصفاته الذاتية وكذا الفعلية ، والمراد بأسمائه - تعالى - ما دل على مجرد ذاته كالله ، أو باعتبار الصفة كالعالم والقادر ، قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه ( بدائع الفوائد ) : أسماء الرب - تعالى - هي أسماء ونعوت ، فإنها دالة على صفات كماله ، فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية ، فالرحمن اسمه - تعالى - ووصفه لا ينافي اسميته ، فمن حيث هو صفة ، جرى تابعا على اسم الله ، ومن حيث هو اسم ، ورد في القرآن غير تابع ، بل ورود الاسم العلم . وأما زعم المعتزلة أن الله كان أزليا بلا اسم ولا صفة ، فلما أوجد الخلق ، وضعوا له الأسماء والصفات ، كما نقله عنهم القرطبي والفاكهاني وغيرهما ، فهو خطأ فاحش ، قال السمين : هذا القول أشد خطأ من قولهم بخلق القرآن ; لإشعاره بالاحتياج للغير . وقال ابن حمدان في ( نهاية المبتدئين في أصول الدين ) : أسماء الله - تعالى - قديمة . انتهى .

وقد نص الإمام الشافعي أن أسماء الله - تعالى - غير مخلوقة . وقال سيدنا الإمام أحمد : من قال إن أسماء الله - تعالى - مخلوقة ، فقد كفر . قال ابن حمدان : ولا يقال أسماء الله هي المسمى ولا غيره ، إذ الغير ما فارق أو يفارق بزمان أو مكان أو الوجود والعدم ، بل يقال الاسم للمسمى به أو صفة للمسمى ، وعلم عليه أو دال على المسمى ، وقيل : أسماء الفعل غيره ، وأسماء الذات هي المسمى نفسه ، قال : وقد عظم على الإمام أحمد الكلام على الاسم والمسمى ، وأمسك عنه بعضهم ، وقال : لا نعلم ، وقال القاضي : الاسم والتسمية ، والوصف والصفة واحد ، فتسمية الخلق لله هو المسمى ، كما نقول في التلاوة هو المتلو ، وأما [ ص: 120 ] تسمية الله للخلق ، فهو غير الاسم ; لأنهم مخلوقون وكذلك أسماؤهم . وقال القاضي أيضا : الاسم غير المسمى . وقال أخيرا : الصحيح عندي أن الوصف ليس هو الصفة ; لأن الوصف حروف ، والصفة معنى يرجع إلى ذات الموصوف ، وهي هيئة فيه ليست حروفا . قال : وأما الاسم والتسمية فهما بمعنى واحد ، وإن التسمية هي الاسم ; لأن الجميع بحروف ، فهي كالتلاوة والمتلو ; لأن الجميع حروف ، والمسمى هو الذات . انتهى .

وقال ابن بطة : لا يقال في اسم الله أنه غيره ولا هو . انتهى كلام ابن حمدان . وقال الإمام المحقق ابن القيم في بدائع الفوائد : اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال مثلا له حقيقة متميزة متحصلة ، فاستحق أن يوضع له لفظ يدل عليه ; لأنه شيء موجود في اللسان ، مسموع بالآذان ، فاللفظ المؤلف من همزة الوصل والسين والميم عبارة عن اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال مثلا ، واللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال عبارة عن الشخص الموجود في الأعيان والأذهان ، وهو المسمى والمعنى ، واللفظ الدال عليه هو الاسم ، وهذا اللفظ أيضا قد صار مسمى من حيث كان لفظ الهمزة والسين والميم عبارة عنه ، فقد بان لك أن الاسم في أصل الوضع ليس هو المسمى ، ولهذا تقول : سميت هذا الشخص بهذا الاسم ، كما تقول حليته بهذه الحلية ، فالحلية غير المحلى ، فكذلك الاسم غير المسمى ، وقد صرح بذلك سيبويه ، وأخطأ من نسب إليه غير هذا ، وادعى أن مذهبه اتحادهما . قال في البدائع : وما قال نحوي قط ، ولا عربي أن الاسم هو المسمى ، ويقولون : أجل مسمى ، ولا يقولون : أجل اسم ، ويقولون : مسمى هذا الاسم كذا ، ولا يقول أحد : اسم هذا الاسم كذا ، ويقولون : بسم الله ، ولا يقولون : بمسمى الله ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لله تسعة وتسعون اسما " ، ولا يصح أن يقال : تسعة وتسعون مسمى ، ونظائره كثيرة جدا .

قال ابن القيم في البدائع : وإذا ظهر الفرق بين الاسم والمسمى ، فبقي هنا التسمية ، وهي اغتر بها من قال باتحاد الاسم والمسمى ، والتسمية عبارة عن جعل المسمى ووضعه الاسم للمسمى ، كما أن التحلية عبارة عن فعل [ ص: 121 ] المحلى ، ووضعه الحلية على المحلى ، فهنا ثلاث حقائق : اسم ومسمى وتسمية ، كحلية ومحلى وتحلية ، وعلامة ومعلم وتعليم ، ولا سبيل إلى جعل لفظين منها مترادفين على معنى واحد لتباين حقائقها . فإذا جعل الاسم هو المسمى ، بطل واحد من هذه الحقائق الثلاثة ولا بد . فإن قيل : ما شبهة من قال باتحادهما ؟ فالجواب : شبهته أشياء ، منها أن الله - تعالى - هو وحده الخالق ، وما سواه مخلوق ، فلو كانت أسماؤه غيره ، لكانت مخلوقة ، ويلزم أن لا يكون له اسم في الأزل ولا صفة ; لأن أسماءه صفات ، وهذا أعظم ما قاد متكلمي الإثبات إلى القول باتحادهما ، والجواب عن كشف هذه الشبهة أن منشأ الغلط في هذا الباب من إطلاق ألفاظ مجملة محتملة لمعنيين حق وباطل ، فلا ينفصل النزاع إلا بتفصيل تلك المعاني وتنزيل ألفاظها عليها ، ولا ريب أن الله - تعالى - لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال المشتقة أسماؤه منها ، فلم يزل بصفاته وأسمائه ، وهو إله واحد له الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وصفاته وأسماؤه داخلة في مسمى اسمه ، وإن كان لا يطلق على الصفة أنها إله يخلق ويرزق ، فليست صفاته وأسماؤه غيره ، وليست هي نفس الإله ، وبلاء القوم من لفظة الغير ، فإنها يراد بها معنيين : أحدهما المغاير لتلك الذات المسماة بالله ، وكل ما غاير الله مغايرة محضة بهذا الاعتبار ، فلا يكون إلا مخلوقا ، ويراد به مغايرة الصفة للذات إذا جردت عنها ، فإذا قيل : علم الله وكلام الله غيره ، بمعنى أنه غير الذات المجردة عن العلم والكلام ، كان المعنى صحيحا ، ولكن الإطلاق باطل ، فإذا أريد أن العلم والكلام مغاير لحقيقته المختصة التي امتاز بها عن غيره ، كان باطلا لفظا ومعنى . وبهذا أجاب أهل السنة المعتزلة القائلين بخلق القرآن ، وقالوا : كلامه - تعالى - داخل في مسمى اسمه ، فالله - تعالى - اسم للذات الموصوفة بصفات الكمال ، ومن تلك الصفات صفة الكلام ، كما أن علمه وقدرته وحياته ، وسمعه وبصره ، غير مخلوقة ، وإذا كان القرآن كلامه ، وهو صفة من صفاته ، فهو متضمن لأسمائه الحسنى ، فإذا كان القرآن غير مخلوق ، ولا يقال أنه غير الله ، فكيف يقال إن بعض ما تضمنه - وهو أسماؤه - مخلوقة وهي غيره ، فقد حصحص الحق بحمد الله ، [ ص: 122 ] وانحسم الإشكال ، وأن أسماءه الحسنى التي في القرآن من كلامه - وكلامه غير مخلوق - ولا يقال هو غيره ، ولا هو هو ، وهذا المذهب مخالف لمذهب المعتزلة الذين يقولون : أسماؤه غيره وهي مخلوقة ، ولمذهب من رد عليهم ممن يقول اسمه نفس ذاته لا غيره ، وبالتفصيل تزول الشبه ويتبين الصواب .

احتج من قال بأن الاسم عين الذات بقوله : " تبارك اسم ربك - واذكر اسم ربك - سبح اسم ربك " ، ونحو ذلك . والجواب : أنها حجة عليهم في الحقيقة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - امتثل هذا الأمر ، وقال : " سبحان ربي الأعلى " ، و " سبحان ربي العظيم " ، ولو كان الأمر كما زعموا ، لقال : سبحان اسم ربي العظيم . ثم إن الأمة كلهم لا يجوز أحد منهم أن يقول : عبدت اسم ربي ، ولا سجدت لاسم ربي ، ولا ركعت لاسم ربي ، ولا يا اسم ربي ارحمني ، وهذا يدل أن هذه الأشياء متعلقة بالمسمى لا بالاسم . وأما الجواب عن تعلق الذكر والتسبيح المأمور به بالاسم ، فقد قيل فيه : إن التعظيم والتنزيه إذا وجب للمعظم ، فقد يعظم ما هو من سببه ومتعلق به ، كما يقال : سلام على الحضرة العالية ، والباب السامي ، والمجلس الكريم ونحوه ، ولا يخفى أن هذا الجواب غير مرضي ; لأن الرسول إنما قال : " سبحان ربي " ، فلم يعرج على ما ذكرتموه ، ولأنه يلزم مما ذكرتم أن يطلق على الاسم التكبير والتحميد والتهليل ، وسائر ما يطلق على المسمى ، فيقال : الحمد لاسم الله ، ونحوه ، وهذا مما لم يقله أحد . والجواب الصحيح أن الذكر الحقيقي محله القلب ; لأنه ضد النسيان ، والتسبيح نوع من الذكر ، فلو أطلق الذكر والتسبيح ، لما فهم منه إلا ذلك دون اللفظ باللسان ، والله - تعالى - أراد من عباده الأمرين جميعا ، ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما واجتماعهما ، فصار معنى الآيتين : سبح اسم ربك بقلبك ولسانك ، واذكر ربك بقلبك ولسانك ، فأقحم الاسم تنبيها على هذا المعنى حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان ; لأن ذكر القلب متعلقه المسمى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه ، والذكر باللسان متعلقه اللفظ مع مدلوله ; لأن اللفظ لا يراد لنفسه ، فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبح دون ما يدل عليه من المعنى .

قال ابن القيم في البدائع : وعبر لي [ ص: 123 ] شيخنا أبو العباس ابن تيمية - قدس الله روحه - عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة ، فقال : المعنى سبح ناطقا باسم ربك متكلما به ، وكذا سبح اسم ربك ، المعنى سبح ربك ذاكرا اسمه . قال : وهذه الفائدة تساوي رحلة ، لكن لمن يعرف قدرها .

واحتجوا أيضا بقوله - تعالى : ( ما تعبدون من دونه إلا أسماء ) ، وإنما عبدوا مسمياتها . والجواب أنهم وإن كان عبدوا المسميات ، ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة كاللات والعزى ، وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة ، لا مسمى لها في الحقيقة ، فإنهم سموها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها ، وليس لها من الإلهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى ، فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها ، وهذا كمن سمى قشور البصل لحما وأكلها ، فيقال : ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه .

التالي السابق


الخدمات العلمية