الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسألة السادسة عشرة

                        أن رواية من روى في تفسير الفرق الناجية وهي الجماعة محتاجة إلى التفسير لأنه إن كان معناه بينا من جهة تفسير الرواية الأخرى - [ ص: 768 ] وهي قوله : ما أنا عليه وأصحابي - فمعنى لفظ : الجماعة من حيث المراد به في إطلاق الشرع محتاج إلى التفسير .

                        فقد جاء في أحاديث كثيرة منها الحديث الذي نحن في تفسيره ، ومنها ما صح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

                        من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ، فإنه من فارق الجماعة شيئا فمات مات ميتة جاهلية .

                        وصح من حديث حذيفة ، قال : قلت يا رسول الله ! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم ، قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : نعم ، وفيه دخن ، قلت : وما دخنه ؟ قال : قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر ، قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم : دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ، قلت : يا رسول الله ! صفهم لنا . قال : هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ، قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ، قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك .

                        وخرج الترمذي و الطبري عن ابن عمر قال : خطبنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - [ ص: 769 ] بالجابية فقال : إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا . فقال : أوصيكم بأصحابي ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ، ويشهد ولا يستشهد ، عليكم بالجماعة ، وإياكم والفرقة ، لا يخلون رجل بامرأة ، فإنه لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ، الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلك هو المؤمن .

                        وفي الترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ، ويد الله مع الجماعة ، ومن شذ شذ إلى النار ، [ ص: 770 ] وخرج أبو داود عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه .

                        وعن عرفجة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سيكون في أمتي هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان .

                        فاختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال : اختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال أحدها : أنها السواد الأعظم

                        أحدها : أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام وهو الذي يدل عليه كلام أبي غالب : إن السواد الأعظم هم الناجون من الفرق ، فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق ، ومن خالفهم مات ميتة جاهلية ، سواء خالفهم في شيء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم ، فهو مخالف للحق .

                        وممن قال بهذا أبو مسعود الأنصاري وابن مسعود ، فروى أنه لما قتل عثمان سئل أبو مسعود الأنصاري عن الفتنة ، فقال : عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة ، واصبر حتى تستريح أو يستراح من فاجر . وقال : إياك والفرقة فإن الفرقة هي الضلالة . وقال ابن مسعود بالسمع والطاعة فإنها حبل الله الذي أمر [ ص: 771 ] به . ثم قبض يده وقال : إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذين تحبون في الفرقة .

                        وعن الحسين قيل له : أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أي والذي لا إله إلا هو ، ما كان الله ليجمع أمة محمد على ضلالة .

                        فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها ، ومن سواهم داخلون في حكمهم ، لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم ، فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذوا وهم نهبة الشيطان ويدخل في هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة ، لم يدخلوا في سوادهم بحال . الثاني أنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين

                        والثاني : أنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين ، فمن خرج مما عليه علماء الأمة مات ميتة جاهلية ، لأن جماعة الله العلماء ، جعلهم الله حجة على العالمين ، وهم المعنيون بقوله عليه الصلاة والسلام : إن الله لن يجمع أمتي على ضلالة وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها ، وإليها تفزع من النوازل ، وهي تبع لها . فمعنى قوله : لن تجتمع أمتي لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة .

                        وممن قال بهذا عبد الله بن المبارك ، و إسحاق بن راهويه ، وجماعة من السلف وهو رأي الأصوليين ، فقيل ل عبد الله بن المبارك : من الجماعة الذين ينبغي أن يقتدى بهم ؟ قال : أبو بكر وعمر - فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد - فقيل : هؤلاء ماتوا : فمن الأحياء ؟ قال أبو حمزة السكري .

                        [ ص: 772 ] وعن المسيب بن رافع قال : كانوا إذا جاءهم شيء من القضاء ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله سموه " صوافي الأمراء " فجمعوا له أهل العلم ، فما أجمع رأيهم عليه فهو الحق ، وعن إسحاق بن راهويه نحو مما قال ابن المبارك .

                        فعلى هذا القول لا مدخل في السؤال لمن ليس بعالم مجتهد ، لأنه داخل في أهل التقليد ، فمن عمل منهم بما يخالفهم فهو صاحب الميتة الجاهلية ، ولا يدخل أيضا أحد من المبتدعين ، لأن العالم أولا لا يبتدع ، وإنما يبتدع من ادعى لنفسه العلم وليس كذلك ، ولأن البدعة قد أخرجته عن نمط من يعتد بأقواله ، وهذا بناء على القول بأن المبتدع لا يعتد به في الإجماع ، وإن قيل بالاعتداد به فيه ففي غير مسألة التي ابتدع فيها ، لأنهم في نفس البدعة مخالفون للإجماع : والثالث : أن الجماعة هي الصحابة على الخصوص ، فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده ، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلا ، وقد يمكن فيمن سواهم ذلك ، ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام : ولا تقوم الساعة على أحد يقول : الله الله وقوله : لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ، فقد أخبر عليه [ ص: 773 ] السلام أن من الأزمان أزمانا يجتمعون فيها على ضلالة وكفر . قالوا ، وممن قال بهذا القول عمر بن عبد العزيز ، فروى ابن وهب عن مالك قال : كان عمر بن عبد العزيز يقول : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا ، الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله ، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ، ولا النظر فيها ! من اهتدى بها مهتد ، ومن استنصر بها منصور ، ومن خافها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى ، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا . فقال مالك : فأعجبني عزم عمر على ذلك .

                        فعلى هذا القول فلفظ الجماعة مطابق للرواية الأخرى في قوله عليه الصلاة والسلام : ما أنا عليه وأصحابي فكأنه راجع إلى ما قالوه وما سنوه ، وما اجتهدوا فيه حجة على الإطلاق ، وبشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بذلك خصوصا في قوله : فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين وأشباهه ، أو لأنهم المتقلدون لكلام النبوة ، المهتدون للشريعة ، الذين فهموا أمر دين الله بالتلقي من نبيه مشافهة ، على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال ، بخلاف غيرهم : فإذا كل ما سنوه فهو سنة من غير نظير فيه ، بخلاف غيرهم ، فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالا للنظر ردا وقبولا ، فأهل البدع إذا غير داخلين في الجماعة قطعا على هذا القول .

                        والرابع : أن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام ، إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم ، وهم الذين ضمن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن لا يجمعهم على ضلالة ، فإن وقع بينهم اختلاف [ ص: 774 ] فواجب تعرف الصواب فيما اختلفوا فيه .

                        قال الشافعي : الجماعة لا تكون فيها غفلة عن معنى كتاب الله ، ولا سنة ولا قياس ، وإنما تكون الغفلة في الفرقة .

                        وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني وهو يقتضي أيضا ما يقتضيه ، أو يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر ، وفيه من المعنى ما في الأول من أنه لابد من كون المجتهدين فيهم ، وعند ذلك لا يكون مع اجتماعهم على هذا القول بدعة أصلا ، فهم - إذا - الفرقة الناجية .

                        والخامس : ما اختاره الطبري الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير ، فأمر عليه الصلاة والسلام بلزومه ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم ، لأن فراقهم لا يعدو إحدى حالتين ، إما للنكير عليهم في طاعة أميرهم والطعن عليه في سيرته المرضية لغير موجب ، بل بالتأويل في إحداث بدعة في الدين ، كالحرورية التي أمرت الأمة بقتالها وسماها النبي صلى الله عليه وسلم مارقة من الدين ، وإما لطلب إمارة من انعقاد البيعة لأمير الجماعة ، فإنه نكث عهد ونقض عهد بعد وجوبه .

                        وقد قال صلى الله عليه وسلم : من جاء إلى أمتي ليفرق جماعتهم فاضربوا عنقه كائنا من كان . قال الطبري : فهذا معنى الأمر بلزوم الجماعة .

                        قال : وأما الجماعة التي إذا اجتمعت على الرضى بتقديم أمير كان المفارق لها ميتا ميتة جاهلية ، فهي الجماعة التي وصفها أبو مسعود [ ص: 775 ] الأنصاري ، وهم معظم الناس وكافتهم من أهل العلم والدين وغيرهم ، وهم السواد الأعظم .

                        قال : وقد بين ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، فروي عن عمر بن ميمون الأودي قال : قال عمر حين طعن لصهيب : صل بالناس ثلاثا وليدخل علي عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ، وليدخل ابن عمر في جانب البيت وليس له من الأمر شيء ، فقم يا صهيب على رؤوسهم بالسيف فإن بايع خمسة ونكص واحد فاجلد رأسه بالسيف ، وإن بايع أربعة ونكص رجلان فاجلد رأسيهما حتى يستوثقوا على رجل .

                        قال : فالجماعة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزومها وسمى المنفرد عنها مفارقا لها نظير الجماعة التي أوجب عمر الخلافة لمن اجتمعت عليه ، وأمر صهيبا بضرب رأس المنفرد عنهم بالسيف . فهم في معنى كثرة العدد المجتمع على بيعته وقلة العدد المنفرد عنهم .

                        قال : وأما الخبر الذي ذكر فيه أن لا تجتمع الأمة على ضلالة فمعناه أن لا يجمعهم على إضلال الحق فيما نابهم من أمر دينهم حتى يضل جميعهم عن العلم ويخطئوه ، وذلك لا يكون في الأمة .

                        هذا تمام كلامه وهو منقول بالمعنى وتحر في أكثر اللفظ .

                        وحاصله : أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة المذكور في الأحاديث المذكورة ، كالخوارج ومن جرى [ ص: 776 ] مجراهم .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية