الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1998 - ( 17 ) - حديث : أن عليا سمع رجلا من الخوارج يقول : " لا حكم إلا لله ولرسوله : وتعرض بتخطئته في التحكيم ، فقال علي : كلمة حق أريد بها باطل ، لكم علينا ثلاث : لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا ، ولا نبدؤكم بقتال " .

الشافعي بلاغا ، وابن أبي شيبة والبيهقي موصولا : " أن عليا بينما هو يخطب ; إذ سمع من ناحية المسجد قائلا يقول : لا حكم إلا لله فذكره إلى آخره وفيه : ثم قاموا من نواحي المسجد يحكمون الله ، فأشار إليهم بيده : اجلسوا ، نعم لا حكم إلا لله ، [ ص: 86 ] كلمة حق يبتغى بها باطل حكم الله ينتظر فيكم ألا إن لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا لن نمنعكم مساجد الله ، ولا نمنعكم فيئا ما كانت أيديكم مع أيدينا ، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا " .

وأصله في مسلم من حديث عبيد الله بن أبي رافع : أن الحرورية لما خرجت عن علي وهو معه ، فقالوا : لا حكم إلا لله ، فقال علي : " كلمة حق أريد بها باطل " . إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء يمرقون من الدين الحديث بطوله .

قوله : الخوارج فرقة من المبتدعة ، خرجوا على علي ، حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ، ولا يقتص منهم ، لرضاه بقتله ، ومواطأته إياهم ، ويعتقدون أن من أتى كبيرة فقد كفر ، واستحق الخلود في النار ، ويطعنون لذلك في الأئمة ، ولا يجتمعون معهم في الجمعة والجماعات ، أعاذنا الله من شرهم ، قال الشافعي : وابن ملجم المرادي قتل عليا متأولا ، قال الرافعي : أراد الشافعي أنه قتله زاعما أن له شبهة وتأويلا باطلا ، وحكى أن تأويله أن امرأة من الخوارج تسمى قطام ، خطبها ابن ملجم ، وكان علي قتل أباها في جملة الخوارج ، فوكلته في القصاص ، وشرطت له مع ذلك ثلاثة آلاف درهم ، وعبدا ، وقينة لتحببه في ذلك ، وفي ذلك قيل :

فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة لمثل قطام من فصيح وأعجم     ثلاثة آلاف وعبد وقينة
وقتل علي بالحسام المسمم     فلا مهر أغلا من علي وإن غلا
ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم

انتهى . أما ما ذكره من اعتقاد الخوارج فأوله ليس بصواب ، فإن الاعتقاد المذكور هو اعتقاد معاوية وأهل الشام ، وأما الخوارج فكانوا أولا من رءوس أصحاب علي ، وكانوا من أشد الناس نكيرا على عثمان ، بل الغالب أنهم ما كانوا يعتقدون أن قتله كان ظلما ، ولم يزالوا مع علي في حروبه في الجمل وصفين إلى أن وقع التحكيم ، وذلك [ ص: 87 ] أن أهل صفين لما كادوا أن يغلبوا أشار عليهم بعضهم برفع المصاحف ، والدعاء إلى التحكيم ، فنهاهم علي عن إجابتهم إلى ذلك ، فقال لهم : إنا على الحق ، فأبى أكثرهم ، فأجابهم علي لتحققه أن الحق بيده ، فحصل من اختلاف الحكمين ما أوجب رجوع أهل الشام مع معاوية ، ورجوع أهل العراق مع علي بعد التحكيم ، فأنكرت الخوارج التحكيم ، وقالوا : لا حكم إلا لله ، وحكموا بكفر علي وجميع من أجاب إلى التحكيم ، إلا من تاب ورجع ، وقالوا لعلي : أقر على نفسك بالكفر ، ثم تب ، ونحن نطاوعك ، فأبى فخرجوا عليه وقاتلهم ، وهذا أمر مشهور عنهم مصرح به في التواريخ الثابتة ، والملل والنحل ، وقد استوفى أخبارهم وما كانوا يعتقدون أبو العباس المبرد في كامله وغيره ، وصنف في أخبارهم محمد بن قدامة الجوهري كتابا حافلا ، وقفت عليه في نسخة كتبت عنه ، وتاريخها سنة أربعين ومائتين ، وهو أقدم خط وقفت عليه ، ولم يعتقد الخوارج قط أن عليا أخطأ قبل التحكيم ، كما أنهم من جملة ما اعتقدوا من الاعتقادات الفاسدة : أن عثمان كان مصيبا ست سنين من خلافته ، ثم كفر بزعمهم أعاذه الله من ذلك ، نعم الذين كانوا يتأولون في قتال علي ، بسبب عدم اقتصاصه من قتلة عثمان ، ويظنون فيه سائر ما ذكره المؤلف قبل قوله ويعتقدون ، هم أهل الجمل وأهل صفين ، وهذا ظاهر في مكاتباتهم له ومخاطباتهم ، وأما سائر ما ذكر بعد ذلك عن الخوارج من الاعتقاد فهو كما قال ، وبعض منه اعتقادهم كفر من خالفهم ، واستباحة ماله ودمه ، ودماء أهله وولده ، ولذلك كانوا يقتلون من قدروا عليه ، وأما ما ذكره من أمر ابن ملجم في تأويله فهو كما قال ، وبالغ ابن حزم فقال : لا خلاف بين أحد من الأئمة في أن ابن ملجم قتل عليا متأولا مجتهدا مقدرا أنه على الصواب ، كذا قال ، وهذا الكلام لا خلاف في بطلانه ، إلا إن حمل على أنه كذلك كان عند نفسه ، فنعم ، وإلا فلم يكن ابن ملجم قط من أهل الاجتهاد ولا كاد ، وإنما كان من جملة الخوارج ، وقد وصفنا سبب خروجهم على علي ، واعتقادهم فيه وفي غيره ، وأما قصة قتله لعلي وسببها ، فقد رواها الحاكم في المستدرك في ترجمة علي بإسناد فيه انقطاع ، وهي مشهورة بين أهل التاريخ ، وساقه ابن عبد البر في الاستيعاب مطولا . وأما ما ذكره في قصة قطام ، فظاهره مخالف للواقع : لأن المحفوظ أنها شرطت ذلك عليه مهرا ، وهو ظاهر في سياق الشعر المذكور .

التالي السابق


الخدمات العلمية