الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثاني : أن قولكم إن المسلمين بنوا أساس دينهم على رواية عوام من الصحابة من أعظم البهت وأفحش الكذب ، فإنهم وإن كانوا أميين قد بعث الله فيهم رسوله زكاهم وعلمهم الكتاب والحكمة ، وفضلهم في العلم والهدى ، والمعارف الإلهية ، والعلوم النافعة المكملة للنفوس على جميع الأمم ، فلم تبق أمة من الأمم تدانيهم في فضلهم وعلومهم وأعمالهم ومعارفهم ، فلو قيس ما عند جميع الأمم من معرفة وعلم وهدى وبصيرة إلى ما عندهم لم يظهر له نسبة إليه بوجه ما ، وإن كان غيرهم من الأمم أعلم بالحساب والهندسة ، والكم المتصل والكم المنفصل ، والنبض والقارورة والبول [ ص: 443 ] والقسطة ، ووزن الأنهار ونقوش الحيطان ، ووضع الآلات العجيبة ، وصناعة الكيمياء ، وعلم الفلاحة ، وعلم الهيئة وتسيير الكواكب ، وعلم الموسيقى والألحان ، وغير ذلك من العلوم التي هي بين علم لا ينفع ، وبين ظنون كاذبة ، وبين علم نفعه في العاجلة وليس من زاد المعاد ، فإن أردتم أن الصحابة كانوا عواما في هذه العلوم فنعم إذا ، وتلك شكاة ظاهر عنك عارها .

وإن أردتم أن الصحابة كانوا عواما في العلم بالله وأسمائه وصفاته ، وأفعاله وأحكامه ، ودينه وشرعه وتفاصيله ، واليوم الآخر وتفاصيله ، وتفاصيل ما بعد الموت ، وعلم سعادة النفوس وشقاوتها ، وعلم صلاح القلوب وأمراضها ، فمن بهت نبيهم بما بهته به وجحد نبوته ورسالته التي هي للبصائر أظهر من الشمس للأبصار ، لم ينكر له أن يبهت أصحابه ، ويجحد فضلهم ومعرفتهم ، وينكر ما خصهم الله به وميزهم على من قبلهم ، ومن هو كائن من بعدهم إلى يوم القيامة ، وقد كان الحواريون الذين نقلوا لأتباع المسيح معالم دينه ، وسيرة المسيح لا يعلمون شيئا من ذلك ، حتى من الله بالمسيح وشاهدوا ما خصه الله به من الآيات وأظهره على يده من المعجزات ، وكمل نفوسهم بالعلوم الإلهية والفضائل النفسانية ، فصاروا يفعلون ما نقله الجم الغفير إلينا عنهم من العجائب ، ويدونون العلوم ، كل ذلك ببركته ، وكذلك هؤلاء ، أعني الصحابة رضي الله عنهم ، وكيف يكونون عواما في ذلك وهم أذكى الناس فطرة ، وأزكاهم نفوسا ، هم يتلقونه غضا طريا ، ومحضا لم يشب عن نبيهم ، وهم أحرص الناس عليه ، وأشوقهم إليه ، وخبر السماء يأتيهم على لسانه في ساعات الليل والنهار ، والحضر والسفر ، وكتابهم قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين ، [ ص: 444 ] وعلم ما كان من المبدأ ، وتخليق العالم ، وأحوال الأمم الماضية ، والأنبياء وسيرهم وأحوالهم مع أممهم ، ودرجاتهم ومنازلهم عند الله ، وعددهم ، وعدد المرسلين منهم ، وذكر كتبهم وأنواع العقوبات التي عذب الله بها أعداءهم ، وما أكرم به أتباعهم ، وذكر الملائكة وأصنافهم وأنواعهم وما وكلوا به واستعملوا فيه ، وذكر اليوم الآخر وتفاصيل أحواله ، وذكر الجنة وتفاصيل نعيمها ، والنار وتفاصيل عذابها ، وذكر البرزخ وتفاصيل أحوال الخلق فيه ، وذكر أشراط الساعة والإخبار بها مفصلا بما لم يتضمنه كتاب غيره من حين قامت الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، كما أخبر به المسيح عنه من قوله في الإنجيل وقد بشرهم به فقال : وكل شيء أعده الله لكم يخبركم به ، وفي موضع آخر منه : ويخبركم بالحوادث والغيوب ، وفي موضع آخر ويعلمكم كل شيء ، وفي موضع آخر : يحيي لكم الأسرار ويفسر لكم كل شيء وأجيئكم بالأمثال وهو يجيئكم بالتأويل ، وفي موضع آخر : إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ، ولكنكم لا تستطيعون حمله ، لكن إذا جاء روح الحق ذاك يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ، ويخبركم بكل ما يأتي ، ويعرفكم جميع ما للأب . فمن هذا علمه بشهادة المسيح ، وأصحابه يتلقون ذلك جميعه عنه ، وهم أذكى الخلق وأحفظهم وأحرصهم ، كيف تدانيهم أمة من الأمم في هذه العلوم والمعارف ؟

ولقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة الصبح ، ثم صعد المنبر فخطبهم حتى حضرت الظهر ، ثم نزل وصلى ، وصعد فخطبهم حتى حضرت العصر ، ثم نزل فصلى وصعد [ ص: 445 ] وخطبهم حتى حضرت المغرب ، فلم يدع شيئا إلى قيام الساعة إلا أخبرهم به ، فكان أعلمهم أحفظهم . وخطبهم مرة أخرى فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم .

وقال يهودي لسلمان : لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة ! قال أجل . فهذا اليهودي كان أعلم بنبينا من هذا السائل وطائفته ! ! .

وكيف يدعى في أصحاب نبينا أنهم وهذه العلوم الناقصة المبثوثة في الأمم على كثرتها واتساعها وتفنن ضروبها إنما هي عنهم مأخوذة ، ومن كلامهم وفتاويهم مستنبطة ، وهذا عبد الله بن عباس كان من صبيانهم وفتيانهم وقد طبق الأرض علما ، وبلغت فتاويه نحوا من ثلاثين سفرا ، وكان بحرا لا ينزف ، لو نزل به أهل الأرض لأوسعهم علما ، وكان إذا أخذ في الحلال والحرام والفرائض يقول القائل : لا يحسن سواه ، فإذا أخذ في تفسير القرآن ومعانيه يقول السامع : لا يحسن سواه ، فإذا أخذ في السنة والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول القائل : لا يحسن سواه ، فإذا أخذ في القصص وأخبار الأمم وسير الماضين فكذلك ، فإذا أخذ في أنساب العرب وقبائلها وأصولها وفروعها فكذلك ، فإذا أخذ في الشعر والغريب فكذلك .

[ ص: 446 ] قال مجاهد : العلماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال قتادة في قوله تعالى : ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ، قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

ولما حضر معاذا الموت قيل له : أوصنا ، قال : أجلسوني ، فأجلسوه فقال : إن الإيمان والعلم بمكانهما ، من اتبعهما وجدهما ، التمسوا العلم عند أربعة رهط : عند عويمر أبي الدرداء ، وعند سلمان الفارسي ، وعند عبد الله بن مسعود ، وعند عبد الله بن سلام ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنه عاشر عشرة في الجنة .

وقال أبو إسحاق السبيعي ، قال عبد الله : علماء الأرض ثلاثة ، رجل بالشام ، وآخر بالكوفة ، وآخر بالمدينة . فأما هذان فيسألان الذي بالمدينة ، والذي بالمدينة لا يسألهما عن شيء .

[ ص: 447 ] وقيل لعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه ورضي عنه : حدثنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : عن أيهم ؟ قالوا : عن عبد الله بن مسعود ، قال قرأ القرآن وعلم السنة ثم انتهى وكفاه بذلك ، قالوا : فحدثنا عن حذيفة ، قال : أعلم أصحاب محمد بالمنافقين ، قالوا : فأبو ذر ؟ ، قال : كنيف ملئ علما ، قالوا : فعمار ؟ ، قال : مؤمن نسي إذا ذكرته ذكر ، خلط الله الإيمان بلحمه ودمه ، ليس للنار فيه نصيب ، قالوا : فأبو موسى ؟ ، قال : صبغ في العلم صبغة ، قالوا : فسلمان ؟ ، قال : علم العلم الأول والآخر ، بحر لا ينزح ، منا أهل البيت ، قالوا : فحدثنا عن نفسك يا أمير المؤمنين ؟ ، قال : إياها أردتم ، كنت إذا سألت أعطيت ، وإذا سكت ابتدئت .

وقال مسروق : شافهت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم ينتهي إلى ستة ، إلى : علي ، وعبد الله ، وعمر ، وزيد بن ثابت ، وأبي الدرداء ، وأبي بن كعب ، ثم شافهت الستة فوجدت علمهم ينتهي إلى علي ، وعبد الله .

وقال مسروق : جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكانوا كالأخاذ ، الأخاذ يروي الراكب ، والأخاذ يروي الراكبين ، والأخاذ يروي العشرة ، لو نزل به أهل الأرض [ ص: 448 ] لأصدرهم ، وإن عبد الله من ذلك الأخاذ .

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه ، حتى أرى الري يخرج من أظفاري ، ثم أعطيت فضلي عمر ، فقالوا : فما أولت ذلك يا رسول الله ؟ قال : العلم .

وقال عبد الله : إني لأحسب أن عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم . وقال عبد الله : لو أن علم عمر بن الخطاب وضع .

وقال حذيفة بن اليمان : كأن علم الناس مع علم عمر دس في جحر ، وقال الشعبي : قضاة هذه الأمة أربعة : عمر وعلي وزيد وأبو موسى . وقال قبيصة بن جابر : ما رأيت رجلا قط أعلم بالله ولا أقرأ لكتاب الله ولا أفقه في دين الله من عمر .

[ ص: 449 ] وقال علي : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأنا حديث السن ليس لي علم بالقضاء ، فقلت : إنك ترسلني إلى قوم يكون فيهم الأحداث وليس لي علم بالقضاء ، قال فضرب في صدري وقال : إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك ، قال : فما شككت في قضاء بين اثنين بعد .

وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود ، قال : كنت أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط ، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، فقال لي : يا غلام هل من لبن ؟ ، قلت : نعم ، ولكني مؤتمن ، قال : فهل من شاة لم ينزو عليها الفحل ؟ ، قال فأتيته بشاة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في إناء ، فشرب وسقى أبا بكر ، ثم قال للضرع : اقلص فقلص ، قال : فأتيته بعد هذا ، فقلت : يا رسول الله علمني من هذا القول ، فمسح رأسي ، وقال : يرحمك الله ، إنك عليم معلم .

وقال عقبة بن عامر : ما أرى أحدا أعلم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من عبد الله ، فقال أبو موسى : إن تقل ذلك فإنه كان يسمع حين لا نسمع ، ويدخل حين لا ندخل .

وقال مسروق : قال عبد الله : ما أنزلت سورة إلا وأنا أعلم فيما أنزلت ، ولو أني أعلم [ ص: 450 ] أن رجلا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل والمطايا لأتيته ، وقال عبد الله بن بريدة في قوله عز وجل : حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا قال : هو عبد الله بن مسعود .

وقيل لمسروق : كانت عائشة تحسن الفرائض ؟ قال : والله لقد رأيت الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض .

وقال أبو موسى : ما أشكل علينا - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا منه علما .

وقال شهر بن حوشب : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل نظروا إليه هيبة له .

وقال علي بن أبي طالب : أبو ذر وعى علما ، ثم وكى عليه فلم يخرج منه شيء حتى قبض .

وقال مسروق : قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم ، [ ص: 451 ] ولما بلغ أبا الدرداء موت عبد الله بن مسعود قال : أما إنه لم يخلق بعده مثله .

وقال أبو الدرداء : إن من الناس من أوتي علما ولم يؤت حلما ، وشداد بن أوس ممن أوتي علما وحلما .

ولما مات زيد بن ثابت قام ابن عباس على قبره وقال : هكذا يذهب العلم .

وضم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عباس وقال : اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب ، وقال محمد بن الحنيفية لما مات ابن عباس : لقد مات رباني هذه الأمة .

وقال عبد الله بن عتبة بن مسعود : ما رأيت أحدا أعلم بالسنة ولا أجلد رأيا ولا أثقب نظرا حين ينظر من ابن عباس . [ ص: 452 ] وكان عمر بن الخطاب يقول له : قد طرأت علينا عضل أقضيته أنت لها ولأمثالها ثم يقول عبد الله : وعمر عمر في جده وحسن نظره للمسلمين .

وقال عطاء بن أبي رباح : ما رأيت مجلسا قط أكرم من مجلس ابن عباس : أكثر فقها وأعظم جفنة ، إن أصحاب الفقه عنده ، وأصحاب القرآن عنده ، وأصحاب الشعر عنده ، يصدرهم كلهم في واد واسع .

وكان عمر بن الخطاب يسأله مع الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيده الله علما وفقها .

وقال عبد الله بن مسعود : لو أن ابن عباس بلغ أسناننا ما عشره منا رجل . أي ما بلغ عشره .

وقال ابن عباس : ما سألني أحد عن مسألة إلا عرفت أنه فقيه أو غير فقيه ، وقيل له : أنى أصبت هذا العلم ؟ قال : بلسان سئول ، وقلب عقول ، وكان يسمى البحر من كثرة علمه .

[ ص: 453 ] وقال طاوس : أدركت نحو خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر لهم ابن عباس شيئا خالفوه لم يزل بهم حتى يقررهم .

وقال الأعمش : كان ابن عباس إذا رأيته قلت : أجمل الناس ، فإذا تكلم قلت : أفصح الناس ، فإذا حدث قلت : أعلم الناس .

وقال مجاهد : كان ابن عباس إذا فسر الشيء رأيت عليه النور . وقال ابن سيرين : كانوا يرون أن الرجل الواحد يعلم من العلم ما لا يعلمه الناس أجمعون .

قال ابن عون : فكأنه رآني أنكرت ذلك ، قال : فقال : أليس أبو بكر كان يعلم من العلم ما لا يعلمه الناس ، ثم كان عمر يعلم ما لا يعلمه الناس ؟ .

وقال عبد الله بن مسعود : لو وضع علم أحياء العرب في كفة وعلم عمر في كفة [ ص: 454 ] لرجح بهم علم عمر .

قال الأعمش : فذكروا ذلك لإبراهيم ، فقال : قال : عبد الله ؟ إن كنا لنحسبه قد ذهب بتسعة أعشار العلم .

وقال سعيد بن المسيب : ما أعلم أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من عمر بن الخطاب .

وقال الشعبي : قضاة الناس أربعة : عمر وعلي وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري . وكانت عائشة رضي الله عنها مقدمة في العلم بالفرائض والسنن والأحكام والحلال والحرام والتفسير .

قال عروة بن الزبير : ما جالست أحدا قط أعلم بقضاء ولا بحديث الجاهلية ولا أروى للشعر ولا أعلم بفريضة ولا طب ، من عائشة رضي الله عنها .

وقال عطاء : كانت عائشة أعلم الناس ، وأفقه الناس .

وقال البخاري في تاريخه : روى العلم عن أبي هريرة ثمانمائة رجل ما بين صاحب [ ص: 455 ] وتابع .

وقال عبد الله بن مسعود : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد ، فاصطفاه وبعثه لرسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلوا وزراء نبيه .

وقال ابن عباس في قوله تعالى : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

وقال الشافعي : وقد أثنى الله على الصحابة في التوراة والإنجيل والقرآن ، وسبق لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم .

وقال أبو حنيفة : إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين ، وإذا جاء عن الصحابة نختار من قولهم ولم نخرج عنه .

وقال ابن القاسم : سمعت مالكا ، يقول : لما دخل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الشام ، نظر إليهم رجل من أهل الكتاب ، فقال : ما كان أصحاب عيسى ابن مريم الذين قطعوا بالمناشير وصلبوا على الخشب بأشد اجتهادا من هؤلاء .

[ ص: 456 ] وقد شهد لهم الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى بأنهم خير القرون على الإطلاق .

كما شهد لهم ربهم تبارك وتعالى بأنهم خير الأمم على الإطلاق . وعلماؤهم وتلاميذهم الذين ملئوا الأرض علما ، فعلماء الإسلام كلهم تلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم وهلم جرا .

وهؤلاء الأئمة الأربعة الذين طبق علمهم الأرض شرقا وغربا ، تلاميذ تلاميذهم وخيار ما عندهم ما كان من الصحابة ، وخيار الفقه ما كان منهم ، وأوضح التفسير ما أخذ عنهم .

وأما كلامهم في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وقضائه وقدره ففي أعلى المراتب ، فمن وقف عليه وعرف ما قالته الأنبياء عرف أنه مشتق منه مترجم عنه ، وكل علم نافع في الأمة فهو مستنبط من كلامهم ومأخوذ عنهم ، وهؤلاء تلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم قد طبقت تصانيفهم وفتاويهم الأرض . فهذا مالك جمعت فتاويه عدة أسفار ، وأبو حنيفة كذلك ، وهذه تصانيف الشافعي رضي الله عنه تقارب المائة ، وهذا الإمام أحمد بلغت فتاويه وتآليفه نحو مائة سفر ، وفتاويه عندنا في نحو عشرين سفرا ، وغالب تصانيفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين ، وهذا علامتهم المتأخر شيخ الإسلام ابن تيمية جمع بعض أصحابه فتاواه في ثلاثين مجلدا ورأيتها في الديار المصرية ، وهذه تآليف أئمة الإسلام التي لا يحصيها إلا الله ، كلهم من أولهم إلى آخرهم يقر للصحابة بالعلم والفضل ، ويعترف بأن علمه بالنسبة إلى علومهم كعلومهم بالنسبة إلى علم نبيهم .

[ ص: 457 ] وفي الثقفيات حدثنا قتيبة بن سعيد ، عن سعيد بن عبد الرحمن المعافري ، عن أبيه : أن كعبا رأى حبر اليهود يبكي ، فقال له : ما يبكيك ؟ قال : ذكرت بعض الأمر ، فقال كعب : أنشدك الله لئن أخبرتك ما أبكاك لتصدقني ؟ قال : نعم ، قال أنشدك الله : هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال : رب إني أجد خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر ، ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلون أعور الدجال ، فاجعلهم أمتي ، قال : هم أمة أحمد يا موسى ؟ قال الحبر : نعم .

قال كعب : فأنشدك الله هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال : يا رب ، إني أجد أمة هم الحمادون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمرا قالوا : نفعله إن شاء الله ، فاجعلهم أمتي . قال : هم أمة أحمد يا موسى ؟ قال الحبر : نعم .

قال كعب : أنشدك الله أتجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال : يا رب ، إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبر الله ، وإذا هبط حمد الله ، الصعيد طهورهم ، والأرض لهم مسجدا ، حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة ، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء ، غرا محجلين من آثار الوضوء ، فاجعلهم أمتي ، قال : هم أمة أحمد يا موسى ؟ ، قال الحبر : نعم .

قال كعب : فأنشدك الله هل تجد في كتاب الله أن موسى نظر في التوراة ؟ فقال : يا رب ، إني أجد أمة مرحومة [ ص: 458 ] يرثون الكتاب واصطفيتهم لنفسك فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ، فلا أجد أحدا منهم إلا مرحوما فاجعلهم أمتي ، قال : هم أمة أحمد يا موسى ؟ ، قال الحبر : نعم .

قال كعب : فأنشدك الله ، أتجد في كتاب الله أن موسى نظر في التوراة ؟ فقال : يا رب ، إني أجد مصاحفهم في صدورهم ، يصفون في صلاتهم كصفوف الملائكة ، أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل ، لا يدخل النار منهم أحد إلا من برئ من الحسنات ، مثل ما برئ الحجر من ورق الشجر . قال موسى : فاجعلهم أمتي ، قال : هم أمة أحمد يا موسى ؟ ، قال الحبر : نعم .

فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمدا وأمته ، قال : ليتني من أصحاب محمد ، فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن : ياموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ، وكتبنا له في الألواح الآية ، ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون .

قال : فرضي كل الرضا .

وهذه الفصول بعضها في التوراة التي بأيديهم وبعضها في نبوة أشعيا وبعضها في نبوة غيره . والتوراة أعم من التوراة المعينة ، وقد كان الله سبحانه وتعالى كتب لموسى في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فلما كسرها رفع [ ص: 459 ] منها الكثير وبقي خير كثير ، فلا يقدح في هذا النقل جهل أكثر أهل الكتاب به ، فلا يزال في العلم الموروث عن الأنبياء شيء مما لا يعرفه إلا الآحاد من الناس أو الواحد ، وهذه الأمة على قرب عهدها بنبيها ، في العلم الموروث عنه ، ما لا يعرفه إلا الأفراد القليلون جدا من أمته ، وسائر الناس منكر له وجاهل به .

وسمع كعب رجلا يقول : رأيت في المنام كأن الناس جمعوا للحساب فدعا الأنبياء فجاء مع كل نبي أمته ، ورأيت لكل نبي نورين ولكل من اتبعه نورا يمشي به في الناس بين يديه ، فدعي محمد صلى الله عليه وسلم فإذا لكل شعرة في رأسه ووجهه نور ، ولكل من اتبعه نوران يمشي بهما .

فقال كعب : من حدثك هذا ؟ قال : رؤيا رأيتها في منامي ، قال : أنت رأيت هذا في منامك ؟ قال : نعم ، قال : والذي نفس كعب بيده إنها لصفة محمد وأمته وصفة الأنبياء وأممهم ، لكأنما قرأتها من كتاب الله .

وفي بعض الكتب القديمة أن عيسى بن مريم صلوات الله وسلامه عليه ، قيل له : يا روح الله ! هل بعد هذه الأمة أمة ؟ قال : نعم ، قيل : وأية أمة ؟ قال : أمة أحمد ، قيل : يا روح الله ! وما أمة أحمد ؟ قال : علماء حكماء أبرار أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء ، يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى الله منهم باليسير من العمل ، ويدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله .

وقال كعب : علماء هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل .

وفيه حديث مرفوع لا أعرف حاله .

ثم نقول : وما يدريكم معاشر المثلثة وعباد الصلبان وأمة اللعنة والغضب بالفقه [ ص: 460 ] والعلم ومسمى هذا الاسم ، حيث تسلبونه أصحاب محمد الذين هم وتلاميذهم كأنبياء بني إسرائيل ؟ وهل يميز بين العلماء والجهال ويعرف مقادير العلماء إلا من هو من جملتهم ومعدود في زمرتهم ؟ فأما طائفة شبه الله علماءهم بالحمير التي تحمل الأسفار ، وطائفة علماؤهم يقولون في الله ما لا ترضاه أمة من الأمم فيمن تعظمه وتجله ، وتأخذ دينها عن كل كاذب ومفتر على الله وعلى أنبيائه ، فمثلها مثل عريان يحارب شاكي السلاح ، ومن سقف بيته زجاج ، وهو يراجم أصحاب القصور بالأحجار ، ولا يستكثر على من قال في الله ورسوله ما قال أن يقول في أعلم الخلق إنهم عوام .

فليهن أمة الغضب علم المشنا والتلمود وما فيهما من الكذب على الله وعلى كليمه موسى ، وما يحدث لهم أحبارهم وعلماء السوء كل وقت ، وليهنهم علوم دلتهم على أن الله ندم على خلق البشر حتى شق عليه ، وبكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة ، ودلتهم على أنه يناجونه في صلاتهم بقولهم : يا إلهنا انتبه من رقدتك كم تنام ، ينخونه حتى ينتخي وينقذ دولتهم ، وليهن أمة الضلال علومهم التي فارقوا بها جميع [ ص: 461 ] شرائع الأنبياء ، وخالفوا فيها المسيح خلافا يتحققه علماؤهم في كل أمر كما سيمر بك ، وعلومهم التي قالوا بها في رب العالمين ما قالوا ، مما كادت السماوات تنشق منه والأرض تنفطر والجبال تنهد لولا أن أمسكها الحكيم الصبور .

وعلومهم التي دلتهم على التثليث ، وعبادة خشبة الصليب والصور المدهونة بالسيرقون والزنجفر .

ودلتكم على قول عالمكم أفريم " إن اليد التي جلبت طينة آدم هي التي علقت على الصلبوت ، وأن الشبر الذي ذرعت به السماوات هو الذي سمر على الخشبة ، وقول عالمكم عرنقورس : من لم يقل إن مريم والدة الإله فهو خارج عن ولاية الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية