الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا قتيبة بن سعيد ، عن مالك بن أنس ) إشارة إلى تحويل السند ، ولذا عطف بقوله ( وحدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري ، حدثنا معن ، عن مالك ، عن مخرمة بن سليمان ) عن كريب مصغرا ( عن ابن عباس أنه ) أي : ابن عباس ( أخبره ) أي : كريبا ( أنه ) وأغرب شارح فقال : أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( بات ) أي : رقد في الليل ( عند ميمونة ) أي : إحدى أمهات المؤمنين ( وهي خالته ) أي : فهو محرم لها ; فإنها بنت الحارث الهلالية العامرية قيل كان اسمها برة فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة ، كانت تحت مسعود بن عمرو الثقفي في الجاهلية ففارقها فتزوجها أبو رهم بن عبد العزى ، وتوفي عنها فتزوجها - صلى الله عليه وسلم - لما كان بمكة معتمرا في ذي القعدة سنة سبع بعد خيبر في عمرة القضاء ، وكانت أختها أم الفضل لبابة تحت العباس ، وأختها لأمها أسماء بنت عميس تحت جعفر ، وسلمى بنت عميس تحت حمزة رضي الله عنهم ، قيل وهي الواهبة نفسها له - صلى الله عليه وسلم - ; لأنها لما جاءتها خطبته [ ص: 84 ] وهي على بعير لها قالت : هو وما عليه لله ولرسوله ، وجعلت أمرها للعباس فأنكحها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم فلما رجع بنى بها بسرف حلالا ، وعند مسلم أنه تزوجها حلالا ، قال ابن حجر : فرواية : وهو محرم ، محمولة على أن المعنى ، وهو داخل الحرم قلت إنها محمولة على أنه تزوجها وهي حلال ، وحيث جاز الاحتمال سقط الاستدلال ، فالمعول هو الحديث الأول ; فإنه للمقصود مفصل ثم قال على أن من خصوصيته - صلى الله عليه وسلم - أن له النكاح ، وهو محرم ، أقول : لا بد من مخصص ، وإلا فالأصل أن الحكم عام مع أن الأصل في الأشياء هو الإباحة ، ومن غريب التاريخ أنها ماتت بسرف في المحل الذي تزوجها فيه ، وهو على عشرة أميال من مكة بين التنعيم والوادي في طريق المدينة سنة إحدى وستين ، وقيل غير ذلك ، وصلى عليها ابن عباس ، ودخل قبرها وهي آخر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ( قال ) أي : ابن عباس ( فاضطجعت في عرض الوسادة ) بفتح العين على الأصح الأشهر ، وفي رواية بضمها وهو بمعنى مفتوح العين أي : جانبها ، والوسادة بكسر الواو المخدة المعروفة الموضوعة تحت الخد أو الرأس ، ونقل القاضي عياض ، وغيره أن المراد بها هنا الفراش لقوله ( واضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : وأهله كما في رواية مسلم ( في طولها ) وكان رضي الله عنه نام تحت رجليه تأدبا ، وتبركا وقد زل قدم ابن حجر هنا فتدبر ، وفيه دليل لحل نوم الرجل وأهله من غير مباشرة بحضرة محرم لها مميز ، قال القاضي : وقد جاء في بعض روايات الحديث قال ابن عباس : بت عند خالتي في ليلة كانت فيها حائضا قال : وهذه اللفظة وإن لم يصح طريقها ، فهي حسنة المعنى جدا إذ لم يكن ابن عباس يطلب المبيت في ليلة له - صلى الله عليه وسلم - فيها حاجة إلى أهله سيما ، وهو كان في تلك الليلة مراقبا لأفعاله - صلى الله عليه وسلم - ولعله لم ينم أو نام قليلا جدا كذا في شرح مسلم ونومه - صلى الله عليه وسلم - مع أهله في فراش واحد من عادته السنية ، وحسن معاشرته البهية واعتزالها في النوم كما هو عادة بعض الأعاجم ، والمتكبرين مذموم إلا إذا اختارت المرأة وأراد الرجل هجرانها تأديبا كما قال سبحانه واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ( فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) وفي رواية الصحيحين : فتحدث مع أهله ساعة ثم رقد ( حتى إذا انتصف الليل ) أي : تخمينا وتقريبا ( أو قبله ) أي : أو كان قبل انتصاف الليل ( بقليل [ ص: 85 ] أو بعده ) أي أو كان بعده ( بقليل فاستيقظ رسول - صلى الله عليه وسلم - فجعل يمسح النوم ) أي : أثره مما يعتري النفس من الفتور ( عن وجهه ) والظاهر أن الترديد المذكور من ابن عباس بناء على تردده بأن غاية النوم نصف الليل أو قبل النصف أو بعده ، ويحتمل أن يكون الشك من الراوي عن ابن عباس أو لغيره ، وفي رواية الشيخين : فلما كان ثلث الليل الأخير أو نصفه قعد فنظر إلى السماء ( ثم قرأ العشر الآيات ) أي : من قوله سبحانه إن في خلق السماوات والأرض قال ابن حجر : فيه حل القراءة للمحدثين حدثا أصغر ، وهذا إجماع بل ندبها له انتهى . وفيه أن هذا الاستدلال مع وجود الاحتمال غير صحيح ، إذ نومه - صلى الله عليه وسلم - ليس بناقض إجماعا فكيف يعلم أنه قرأ الآيات محدثا مع أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكره أن يذكر الله على غير طهارة كما ورد في حديث التيمم لرد السلام فكيف لكلام الملك العلام على أنه لو ثبت قراءته محدثا لدل على جوازه ، فقوله بل ندبها له في غير محله ، ولا دلالة لقوله : " فتوضأ " على أنه كان محدثا لاحتمال كونه مجردا ( الخواتيم ) جمع الخاتمة ، وفي بعض النسخ بدون الياء ، وفيه ندب قراءة خصوص هذه الآيات عقب الاستيقاظ لما اشتمل على الفوائد التي يحصل بها الإيقاظ ( من سورة آل عمران ) فيه إباحة قول ذلك ، وكرهه بعض السلف ، وقال : بل يقال السورة التي تذكر فيها آل عمران وكذا البقرة وأمثالها كراهة ظاهر الإضافة ، فقول ابن حجر : ليس لهم أصل . ليس على الأصل ، فإن كراهة السلف لا تخلو عن أصل ، وهو ما ذكرناه أو غيره من فصل ( ثم قام ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إلى شن ) بفتح الشين المعجمة ، وبالنون المشددة ، وهو القربة الخلقة ( معلق ) أي : لتبريد الماء أو لحفظه ( فتوضأ منها ) أي : من الشن وتأنيثه باعتبار معنى القربة ، وفي نسخة صحيحة منه بتذكير الضمير وهو ظاهر ( فأحسن الوضوء ) أي : وضوءه كما في نسخة والمعنى أسبغه وأكمله ، وهو معنى رواية الصحيحين وضوءا حسنا بين الوضوأين لم يكثر ، وقد أبلغ أي : لم يكثر صب الماء ، ولم يسرف في الكيفية أو الكمية ، وقد أبلغ الوضوء أماكنه ، واستوفى عدده المسنون ( ثم قام يصلي ) حال وفي رواية الشيخين : فأطلق شناقها ثم صب في الجفنة ثم توضأ . وفي رواية للنسائي : فتوضأ واستاك ، ثم صلى ركعتين ، ثم نام ، ثم قام فتوضأ واستاك ، وصلى ركعتين ، وأوتر بثلاث . ولمسلم : فاستيقظ ، فتسوك وتوضأ وهو يقول : " إن في خلق السماوات والأرض " حتى ختم السورة ، فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود ، ثم انصرف ; فنام حتى نفخ ثم فعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ ، ويقرأ هؤلاء الآيات ثم أوتر بثلاث ركعات . قيل ولا تنافي بين هذه الروايات ; لأن في بعضها زيادة فيعمل بها وإن سكتت الرواية الأخرى عنها لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، وليست الواقعة متعددة حتى يحمل الاختلاف عليها وإنما هي واحدة ، فيجب عند عدم التعارض العمل بالأصح من تلك الروايات ، وهو رواية الشيخين ثم إحداهما ( قال عبد الله بن عباس : فقمت إلى جنبه ) أي : فقمت وتوضأت فقمت عن يساره [ ص: 86 ] كما في رواية الشيخين ( فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده اليمنى على رأسي ثم أخذ بأذني اليمنى ) قيل وضعها عليه أولا ليتمكن من أخذ الأذن أو ; لأنها لم تقع إلا عليه ، أو لينزل بركتها به ليحفظ جميع أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المقام وغيره ( ففتلها ) بالفاء العاطفة على صيغة الماضي ، وفي نسخة يفتلها على صيغة المضارع من باب ضرب ، فحينئذ هذه الجملة حال من فاعل أخذ وفي رواية الشيخين فأخذ بأذني ، فأدارني عن يمينه قيل ، وفتلها إما لينبهه على مخالفة السنة أو ليزداد تيقظه لحفظ تلك الأفعال أو ليزيل ما عنده من النعاس لرواية : فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني ( فصلى ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين . قال معن : ست مرات ) أي : قوله ركعتين ست مرات فتكون صلاته ثنتي عشرة ركعة ( ثم أوتر ) قال ابن حجر : ورواية الشيخين فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة يعني فالوتر واحدة ، ويدفع بأن المعنى ثم أوتر الشفع الأخير بركعة منضمة إليه لرواية أنه أوتر بثلاث ، قيل في الحديث دليل على أن العمل القليل لا يبطل الصلاة ، وأن صلاة الصبي صحيحة ، وأن له موقفا من الإمام كالبالغ ، وأن الجماعة في غير المكتوبات جائزة ، أقول : وقد صرح في الفروع اتفاق الفقهاء بكراهية الجماعة في النوافل إذا كان سوى الإمام أربعة ، قال في الكافي : أن التطوع بالجماعة إنما يكره إذا كان على سبيل التداعي ، وأما لو اقتدى واحد بواحد أو اثنان بواحد لا يكره ، وإن اقتدى ثلاثة بواحد اختلف فيه وإن اقتدى أربعة بواحد كره اتفاقا ، وأما ما ذكره في شرح النقاية من جواز الجماعة في النوافل مطلقا نقلا عن المحيط ، وكذا ما ذكره في الفتاوى الصوفية ، ونحوهما فمحمول على أن المراد بالجواز الصحة ، وهي لا تنافي الكراهة والله أعلم ( ثم اضطجع ) قال ميرك : المراد بالاضطجاع منه - صلى الله عليه وسلم - بعد التهجد للاستراحة ليزول عنه تعب قيام الليل ، فيصلي فريضة الصبح بنشاط ، ولم يكن به ملالة . قال النووي : ويستحب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر أيضا يعني لحديث ورد بذلك ، والظاهر عدم تكرار الاضطجاع ; فإن لم يحصل قبل يستدرك فيما بعد ( ثم جاءه المؤذن ) أي : بلال أو غيره للإعلام بدخول الوقت ( فقام فصلى ركعتين خفيفتين ) أي : سنة الصبح ، وفي الحديث دليل على استحباب تخفيفها لا على جوازه كما توهم بعضهم ، وسيأتي تحققه ( ثم خرج فصلى الصبح ) أي : فرضه ، ورواية الشيخين : ثم اضطجع ; فنام حتى نفخ ، وكان إذا نام نفخ فأذن بلال بالصلاة فصلى ولم يتوضأ . هذا ووتره - صلى الله عليه وسلم - آخر الليل هو الأغلب بناء على أنه الأفضل الأكمل ، وإلا ففي الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أوتر من كل الليل من أوله وأوسطه وآخره ، وانتهى وتره إلى السحر ، والمراد بأوله بعد صلاة العشاء ، ولعل اختلاف هذه الأوقات على ما دونت به الروايات لاختلاف الأحوال ، والأعذار [ ص: 87 ] فإيتاره أوله لعله كان لمرض ، وأوسطه لعله كان لسفر .

التالي السابق


الخدمات العلمية