الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا نصر بن علي الجهضمي أنبأنا ) وفي نسخة أخبرنا ، وفي نسخة أخرى حدثنا ( عبد الله بن داود قال حدثنا سلمة ) وفي نسخة قال سلمة ( ابن نبيط ) بالتصغير ( أخبرنا ) بصيغة المجهول ( عن نعيم ) بالتصغير ( ابن أبي هند عن نبيط بن شريط ) بفتح المعجمة الأشجعي الكوفي صحابي صغير يكنى أبا سلمة ، وفي التقريب أبا فراس ثقة يقال : اختلط من الخامسة قال الجزري شريط بفتح الشين صحيح وبالضم غلط فاحش زيد في نسخة وكانت له صحبة ، وفي نسخة صحيحة بخط ميرك أنبأنا عبد الله بن داود قال سلمة بن نبيط أخبرنا بصيغة الفاعل عن نعيم بن أبي هند قال ميرك : ويؤيده أيضا ما وقع في بعض النسخ حدثنا سلمة بن نبيط أن نعيم بن أبي هند هذا ، وفي التقريب نعيم بن أبي هند النعمان بن أشم الأشجعي ثقة رمي بالنصب من الرابعة مات سنة عشر ومائة انتهى ، وبخط ميرك تحته الرجل المرمي بالنصب ليس بثقة ، ولا كرامة له بل هو ملعون كذاب عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين قلت هذا ليس مذهب المحققين من أهل السنة فإنهم لم يجوزوا لعن أحد بالخصوص لا من النواصب ، ولا من الروافض بل ولا من اليهود والنصارى إلا من ثبت موته على الكفر فكيف يلعن من اتهم بكونه من الخوارج وهم من المبتدعين غير خارجين من طوائف المسلمين وأيضا ليس مذهب المحدثين رد النواصب والروافض بمجرد بدعتهم وربما يصرحون في حق بعض من الطائفتين بأنه ثقة إذ لا يلزم من كونه خارجيا أو [ ص: 265 ] رافضيا أن يكون كذابا أو فاسقا كما هو مقرر في الأصول ( عن سالم بن عبيد ) بالتصغير وكانت له صحبة أي : هو صحابي قال العسقلاني : سالم بن عبيد الأشجعي صحابي من أهل الصفة ( قال أغمي ) بصيغة المجهول أي : غشي ( على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ففي النهاية أغمي على المريض إذا غشي عليه كأن المرض ستر عقله وغطاه ( في مرضه ) الذي توفي فيه ( فأفاق فيه ) أي : فرجع إلى ما كان قد شغل عنه ففي الحديث جواز الإغماء على الأنبياء ؛ لأنه من جملة الأدواء وأنواع الابتلاء ، بخلاف الجنون فإنه نقص ينافي مقام الأنبياء .

وقيد الشيخ أبو حامد من الشافعية جواز الإغماء بغير الطويل وجزم به البلقيني قال السبكي وليس إغماؤهم كإغماء غيرهم ؛ لأنه إنما يسترحوا سهم الظاهرة دون قلوبهم وقوتهم الباطنة ؛ لأنها إذا عصمت من النوم الأخف فالإغماء بالأولى ، وأما الجنون فيمتنع عليهم قليله وكثيره ؛ لأنه نقص قلت ولأنه مما نفى الله عنهم مطلقا في مواضع وألحق به السبكي العمى ، وقال لم يعم نبي قط وما ذكر عن شعيب أنه كان ضريرا فلم يثبت ، وأما يعقوب فحصلت له غشاوة وزالت وحكى الرازي عن جمع في يعقوب ما يوافقه قلت لكن ظاهر القرآن يخالفه حيث قال تعالى وابيضت عيناه من الحزن فارتد بصيرا ( فقال حضرت الصلاة ؟ ) بتقدير الاستفهام ، وهي صلاة العشاء الآخر كما ثبت عند البخاري على ما ذكره ميرك ، والمعنى أحضر وقتها ؟ ( فقالوا : نعم ، فقال : مروا بلالا ) أمر مخفف من الأمر نحو خذوا وكلوا ( فليؤذن ) بتشديد الذال من التأذين أي : فليناد بالصلاة ، وهو يحتمل كلا من الأذان والإقامة ، والثاني أقرب وأنسب بقوله ( ومروا أبا بكر فليصل للناس ) أي : إماما لهم ( أو قال بالناس ) أي : جماعة أو الجار تنازع فيه الفعلان ، والتشديد هو المضبوط في الأصول المصححة والنسخ المعتمدة وخالف الذال ، ( فليعلمه ) وبفتح وتشديد أي : فليدعه انتهى ، وليس هنا مرجع للضمير والمقدر ينبغي أن يكون جميع الناس على أن المشدد ليس بمتعد ( ثم أغمي عليه فأفاق ) قال بعض العارفين وحكمة ما يعتري الأنبياء من أنواع الابتلاء تكثير حسناتهم وتعظيم درجاتهم وتسلية الناس بحالاتهم ولئلا يفتتن الناس بمقاماتهم ولئلا يعبدوهم لما ظهر على أيديهم من خوارق المعجزات وظواهر البينات ( فقال مروا بلالا فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت عائشة : إن أبي رجل أسيف ) فعيل من الأسف بمعنى الفاعل ولابن حبان عن عاصم أحد رواته : الأسيف الرحيم ، وفي الصحاح : الأسف أشد الحزن والأسيف والأسوف السريع الحزن الرقيق القلب ( إذا قام ذلك المقام بكى ) أي : لفقد خليله الإمام وأغرب ابن حجر حيث علله بقوله لتدبره القرآن ، وفي نسخة يبكي ( فلا يستطيع ) أي : الإمامة أو القراءة ( فلو أمرت غيره ) أي : بالقيام لهذا الأمر لكان حسنا فجواب لو محذوف ويحتمل أن لا يكون للشرط بل للتمني فلا يطلب جوابا .

وأما تقدير بعضهم " لكان أحسن " فليس بحسن من حيثية حسن الأدب ( قال ) أي : [ ص: 266 ] سالم بن عبيد ( ثم أغمي عليه ) أي : حصل له الاستغراق ( فأفاق فقال مروا بلالا فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب ) جمع صاحبة ( أو صواحبات يوسف ) عليه السلام جمع صواحب فهو جمع الجمع .

وأما قول ابن حجر كل منهما جمع صاحبة لكن الثاني قليل فسهو ظاهر .

ثم لفظ - عليه السلام ليس في الأصول المعتمدة ، وإنما وقع في بعض النسخ من باب الزيادات الملحقة المشبهة بالكلمات المدرجة ، والمعنى أنكن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن .

ثم إن هذا الخطاب ، وإن كان بلفظ الجمع ، فالمراد به واحدة ، وهي عائشة فقط كما أن صواحب لفظ جمع ، والمراد : زليخا فقط وأغرب ابن حجر حيث قال تبعا لشارح : المعنى إنكن في التظاهر والتعاون على ما تردنه وإلحاحكن على ما تملن إليه فإنه يناقضه ما ذكره هو وغيره من أن المراد بالخطاب هي عائشة وحدها .

ثم وجه الشبه بين عائشة وزليخا أنها استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة ومرادها زيادة على ذلك ، وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف عليه السلام ويعذرنها في محبتها له ويتركنها عن الملام وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها لكونه لا يسمع الناس تعني المأمومين القراءة لبكائه ومرادها زيادة على ذلك ، وهو أن يتشاءم الناس به ، وقد صرحت بذلك في الحديث المتفق عليه حيث قالت : لقد راجعته وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا وإني كنت أرى أن لا يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به فأردت أن يعدل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وبهذا التقدير يندفع إشكال من قال إن صواحب يوسف لم يقع منهن إظهار خلاف ما في الباطن ، والله أعلم كذا حققه العسقلاني .

أقول : ولا يبعد بل هو الظاهر الأنسب مبنى والأقرب معنى أن المراد بصواحبات يوسف نساء المدينة فإنه سبحانه وتعالى قال فلما سمعت بمكرهن وقد قال بعض المفسرين ، وإنما سماه مكرا ؛ لأنهن قلن ذلك وأظهرن المعايبة هنالك توسلا إلى إراءتها يوسف لهن وكان يوصف حسنه وجماله عندهن ، ثم قد يقال : الخطاب لعائشة وحفصة وجمع إما تعظيما لهما أو تغليبا لمن معهما من الحاضرات أو الحاضرين أو بناء على أن أقل الجمع اثنان .

ويعضده أن هذا الحديث أي : أغمي إلى آخره روى الشيخان أيضا بعضه ومنه قوله مروا أبا بكر فليصل بالناس وأن عائشة أجابته ، وإن كرر ذلك فكررت الجواب وأنه قال ( إنكن صواحب يوسف أو صواحبات يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت لها حفصة : ما كنت لأصيب منك خيرا .

ويحتمل أن يقال المراد بصواحب يوسف مثلهن من جنس النساء الوارد في حقهن إن كيدكن عظيم والله بكل شيء عليم [ ص: 267 ] ( قال ) أي : سالم ( فأمر بلال ) بصيغة المفعول ( فأذن وأمر أبو بكر فصلى بالناس ) أي : تلك الصلاة ومجموع ما صلى بهم سبع عشرة صلاة كاملة على ما نقله الدمياطي وأغرب ابن حجر وجعل قوله سبع عشرة مفعول صلى المذكور في المتن ، وهو غير مستقيم كما أشرت إليه لمن له فهم قويم ( ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجد خفة فقال انظروا ) أي : لي كما في نسخة أي : تفكروا وتدبروا ( من أتكئ عليه ) أي : لأخرج للصلاة ( فجاءت بريرة ) هي جارية لعائشة كذا قاله بعضهم ، وهو غير ملائم لخروجها معه مع أنها معتوقة لعائشة ، ولعلها أرادت أن توصله إلى الباب ، ثم الأصحاب يوصلونه إلى المحراب وكذا لا يناسبها قولها ( ورجل آخر ) قال ميرك : واسمه نوبة بضم النون والموحدة المخففة كما جاء في بعض الروايات ووهم من زعم أنه امرأة انتهى ، يعني لقولها ورجل آخر ، ولعله أراد ببعض الروايات ما في رواية ابن حبان بريرة ونوبة وضبطه ابن حجر بضم فسكون ، ثم قال : إنه أمة ، هذا وجاء في رواية الشيخين في سياق آخر رجلان عباس وعلي لفظ الشيخين فخرج بين رجلين أحدهما العباس وفسر ابن عباس الآخر بعلي ، وفي طريق آخر ويده على الفضل بن عباس ويده على رجل آخر وجاء في غير مسلم " بين رجلين " أحدهما أسامة ، وفي رواية مسلم العباس وولده الفضل ، وفي أخرى العباس وأسامة وعند الدارقطني أسامة والفضل وعند ابن سعد الفضل وثوبان - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - وجمعوا بين هذه الروايات على تقدير ثبوت جميعها بتعدد خروجه أو بأن العباس لكبر سنه وشرف شأنه كان ملازما للأخذ بيده ، ولذا ذكرته عائشة والباقون تناوبوا وتنافسوا وخصوا بذلك ؛ لأنهم من خواص أهل بيته ولما لم يلازمه أحد منهم في جميع الطريق أبهمت عائشة الرجل الذي مع العباس لكن الجمع الأول أولى ؛ لأن بعض الروايات ليس فيها ذكر العباس فلا يجمع به بين الروايات كلها والله سبحانه أعلم ، وفي الجملة ( فاتكأ عليهما ) أي اعتمد على اثنين منهم وخرج من الحجرة الشريفة ( فلما رآه أبو بكر ذهب ) أي : شرع أو قصد ( لينكص ) بضم الكاف كذا قاله الحنفي والأولى أن يضبط بكسر الكاف طبق ما جاء في القرآن ( على أعقابكم تنكصون ) بالكسر على ما أجمع عليه القراء السبعة والعشرة وما فوقهم نعم قال الزجاج : يجوز ضم الكاف وكذا جوزه صاحب الصحاح أي : ليتأخر والنكوص الرجوع قهقرى ( فأومأ ) بالهمز على الصحيح ، وفي نسخة [ ص: 268 ] فأومى ، ولعله مبني على التخفيف أي : أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إليه ) أي : إلى أبي بكر ( أن يثبت مكانه ) والظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - رجع كما سبق خلافا لابن حجر حيث قال : ظاهره أنه - صلى الله عليه وسلم - اقتدى به والمعتمد عندنا أن اقتداءه به كان قبل ذلك واختلف في كيفية تلك الصلاة وكونه - صلى الله عليه وسلم - إماما حينئذ أو مأموما ، وفيما يتفرع عليهما من المسائل ، وقد بيناه في المرقاة شرح المشكاة ( حتى قضى أبو بكر ) أي : أتم ( صلاته ) غاية لقوله يثبت ، وإنما أظهر موضع المضمر لئلا يتوهم رجوع الضمير إليه - صلى الله عليه وسلم - مع الإشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام وأغرب ابن حجر بقوله حتى قضى معطوف على محذوف دل عليه ما قبله أي : فثبت - صلى الله عليه وسلم - حتى فرغ أبو بكر من صلاته انتهى ، وأنت تعلم أنه لا يصح أن يقال فأشار إلى أبي بكر أن يثبت فثبت النبي عليه السلام حتى فرغ أبو بكر من صلاته ( ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبض ) أي : وأبو بكر غائب بالعالية عند زوجته بنت خارجة لضرورة حاجة دعته إلى الخروج بعد إذنه له - صلى الله عليه وسلم - بذلك لحكمة إلهية ( فقال عمر ) أي : وقد سل سيفه ( والله لا أسمع أحدا يذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبض إلا ضربته بسيفي هذا ) أي : ظهرا أو بطنا وكان يقول أيضا إنما أرسل إليه - صلى الله عليه وسلم - كما أرسل إلى موسى - صلى الله عليه وسلم - فلبث عن قومه أربعين ليلة والله إني لأرجو أن تقطع أيدي رجال وأرجلهم أي : من المنافقين أو المرتدين أو المريدين للخلافة قبل حضور أبي بكر ، والحامل عليه ظنه أن هذا من الغشيان المعتاد له - صلى الله عليه وسلم - أو ذهول حسه فأحال الموت عليه - صلى الله عليه وسلم - ، والله أعلم ( قال ) أي : سالم ( وكان الناس ) أي : العرب ( أميين ) أي : لقوله تعالىهو الذي بعث في الأميين رسولا منهم قال جمهور المفسرين الأمي من لا يحسن الكتابة والقراءة ، وقال بعضهم الأمي منسوب إلى الأم ، وقيل إلى أم القرى ، وهي مكة وعلى التقادير فهو كناية عن عدم الكتابة والقراءة والدراسة والمعرفة بأمور الحساب والكتاب كما هو حقها فكأنه شبه بالطفل الذي خرج من بطن أمه ولم يعلم شيئا أو بسكان أم القرى فإنهم مشهورون بأنهم ليسوا أهل كتاب وحساب ، ولا كتابة ، ولا دراسة قال الخطابي إنما قيل لمن لم يكتب [ ص: 269 ] ولم يقرأ أمي ؛ لأنه منسوب إلى أمة العرب وكانوا لا يكتبون ، ولا يقرءون ويقال : إنما قيل له أمي ؛ لأنه باق على الحالة التي ولدته أمه لم يتعلم قراءة ، ولا كتابة ، والحاصل أن كلا من القراءة والكتابة كانت فيهم قليلة نادرة فإذا لم يتعلموا الكتب ولم يقرءوها حتى يعرفوا حقائق الأمور ، ولا يذهلهم عظائم المحن عند وقوع الفتن فلا جرم تحيروا في أمر موته - صلى الله عليه وسلم - إذ سبب العلم بجواز موت الأنبياء وكيفية انتقالهم إلى دار الجزاء إنما هو الممارسة بالمدارسة أو المشاهدة ، ولذا قال ( لم يكن فيهم نبي قبله فأمسك الناس ) أي : أنفسهم عن القول بأنه - صلى الله عليه وسلم - مات مع ما أخرجه البيهقي وغيره من طريق الواقدي أنهم اختلفوا في موته فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه فقالت : توفي رفع الخاتم من بين كتفيه والحكمة في امتناعهم عن إظهار موته - صلى الله عليه وسلم - ظهور جلالة الصديق بما أظهر من الجلادة والاستدلال بالآية والقيام في القضية بوسع الطاقة عند تحير أكابر الأمة مما نزل بهم من عظيم الغمة ( قالوا : يا سالم ، انطلق إلى صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فادعه ) وفي العدول عن اسمه بوصفه إشعار بأنه خاص بهذا المعنى خصوصية زائدة مستفادة من مداومة ملازمته وحسن مجالسته والمشار إليها قوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا وكأنه استمر نفي الحزن عنه عند كل محن وتقوى قلبه عند ظهور كل فتن ( فأتيت أبا بكر ، وهو في المسجد ) أي : مسجد محلته التي كان فيها ، وهو بالعوالي ، الظاهر أنه وقت صلاة الظهر لما سبق أنه - صلى الله عليه وسلم - مات ضحى ( فأتيته أبكي دهشا ) بفتح فكسر أي حال كوني باكيا مدهوشا متحيرا ( فلما رآني ، وقال لي أقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ - ) كذا بالواو قبل " قال " على ما في الأصول المصححة ، والظاهر تركها ليكون " قال " جواب " لما " ، لكن قال ميرك : يحتمل أن يقال جملة حالية أو اعتراضية وجواب لما قوله ( قلت إن عمر يقول لا أسمع أحدا يذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبض إلا ضربته بسيفي هذا فقال لي انطلق فانطلقت معه ) وفي رواية أن أبا بكر أرسل غلامه ليأتيه بخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاءه الغلام فقال الغلام فقال سمعت أنهم يقولون مات محمد فركب أبو بكر على الفور ، وقال وامحمداه وانقطاع ظهراه وبكى في الطريق حتى أتى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( فجاء هو ) أي : أبو بكر ( والناس قد دخلوا ) وفي نسخة حفوا بفتح مهملة وتشديد فاء مضمومة أي : أحدقوا ( على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أيها الناس ) وفي نسخة يا أيها الناس ( أفرجوا إلي ) من الإفراج أي : أعطوا الفرجة لأجلي ( فأفرجوا له ) أي : انكشفوا عن طريقه ( فجاء حتى أكب ) أي : أقبل أو سقط ( عليه ) أي : على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في نسخة ( وخر على ساعده ومسه ) أي : قبله كما سبق ، وقد روى البخاري من طريق الزهري عن أبي سلمة عن عائشة أنها قالت : أقبل أبو بكر على فرسه من مسكنه بالسنح ، وهو بضم السين المهملة وسكون النون بعدها حاء مهملة موضع بعوالي [ ص: 270 ] المدينة حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس أي : كلاما عرفيا فلا ينافي قوله أفرجوا لي .

وقال ابن حجر : أي : فلم يكلم من بالمسجد حتى دخل على عائشة فتيمم النبي - صلى الله عليه وسلم - أي : قصده بوضع وجهه عليه والتمسح به تبركا إليه ، وهو مسجى بتشديد الجيم أي : مغطى ببرد حبرة كعنبة نوع من برود اليمن فكشف عن وجهه ، ثم أكب عليه فقبله ، ثم بكى ، وقال بأبي أنت وأمي لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها قال ابن حجر ونفيه الموتتين إما حقيقة ردا على عمر في قوله ما مر إذ يلزم منه أنه إذا جاء أجله يموت موتة أخرى ، وهو أكرم على الله أن يجعلهما عليه كما جمعهما على الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم وكذا على الذي مر على قرية ، قلت ، وهذا وإن كان عزيرا واختلف في نبوته لكن كان له هذا الأمر تقريرا فأماته الله مائة عام ، ثم بعثه قال ابن حجر ، وهذا أوضح من حمله على أنه لا يموت موتة أخرى في القبر كغيره قلت الصحيح أنه لا يموت أحد في قبره ثانيا ، وإنما يحصل للموتى عند النفخة الأولى غشيان كالأولى وأول من يفيق من تلك الحالة هو - صلى الله عليه وسلم - وقيل لا يجمع الله عليه بين موت نفسه وموت شريعته ، وقيل الموتة الثانية الكرب أي : لا تلقى بعد كرب هذا الموت كربا آخر كما قال - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة لما قالت : واكرباه لا كرب على أبيك بعد اليوم ( فقال ) أي : أبو بكر بعد ما تقدم له من المقال ، والأظهر أن قال بمعنى قرأ ( إنك ميت وإنهم ميتون ) يعني قد أخبر الله عنك في كتابه أنك ستموت وأن أعداءك أيضا سيموتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون فقوله حق ووعده صدق فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه وقد قال المفسرون في قوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون إن الجائي هو النبي عليه السلام والمصدق أبو بكر ، ولذا سمي بالصديق ( ثم قالوا : يا صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ - قال نعم فعلموا أن ) مخففة من الثقيلة أي : أنه ( قد صدق ) لكونه قط في عمره ما كذب فهذا تصريح بما علم ضمنا ، والحاصل أن الصحابة - رضي الله عنهم - في هذه المصيبة وقعوا في حيرة مهيبة فبعضهم خبل كعمر على ما قال ابن حجر ، وبعضهم أقعد فلم يطق القيام كعبد الله بن أنيس بل أضنى فمات كمدا وبعضهم أخرس فلم يطق الكلام كعثمان وكان أثبتهم أبو بكر جاء وعيناه تهملان وزفراته تتصاعد من حلقه فكشف عن وجهه عليه السلام ، وقال طبت حيا وميتا وانقطع لموتك ما لم ينقطع لأحد من الأنبياء فعظمت عند الصفة وجللت عن البكاء ولو أن موتك كان اختيارا لجدنا لموتك بالنفوس اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن من بالك ، وفي رواية أن أبا بكر لما مات النبي أصابه حزن شديد فما زال يحرى بدنه حتى لحق بالله تعالى أي : يذوب وينقص ذكره الدميري في حياة الحيوان ، وفي رواية البخاري أن عمر قام يقول والله ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء أبو بكر فكشف عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبله فقال بأبي وأمي [ ص: 271 ] طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقنك الله الموتتين أبدا ، ثم خرج فقال أيها الحالف على رسلك بكسر الراء أي : على مهلك فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه ، وقال : ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، وقال إنك ميت وإنهم ميتون وقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية قال فنشج الناس يبكون أي : غصوا بالبكاء من غير انتحاب ، وفي رواية لما مات - صلى الله عليه وسلم - كان أجزع الناس كلهم عمر بن الخطاب ، وفيها أن أبا بكر لما جاء كشف البردة عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضع فاه على فيه واستنشق الريح أي : شم ريح الموت ، ثم سجاه والتفت إلينا ، ثم قال ما مر قال عمر فوالله لكأني لم أتل هذه الآيات قط .

وروى أحمد عن عائشة سجيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء عمر والمغيرة بن شعبة واستأذنا فأذنت لهما وجذبت الحجاب فنظر عمر إليه فقال واغشيتاه ، ثم قام فقال المغيرة يا عمر مات ؟ فقال كذبت إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يموت حتى يفني الله المنافقين ، ثم جاء أبو بكر فرفعت الحجاب فنظر إليه فقال إنا لله وإنا إليه راجعون مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وفي البخاري عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال اجلس يا عمر فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فقال أبو بكر أما بعد من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله عز وجل وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاه الناس منه كلهم فما سمع بشر من الناس إلا يتلوها زاد ابن أبي شيبة عن ابن عمر أن عمر إنما قال ما مر في المنافقين ؛ لأنهم أظهروا الاستبشار ورفعوا رءوسهم وإن أبا بكر ضم إلى تلك الآيات قوله تعالى وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد الآية ، وفي رواية الوائلي عن أنس أنه سمعه أي عمر حين بويع أبو بكر في المسجد على المنبر ، وقد تشهد ، ثم قال أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة أي : لم يمت وأنها لم تكن كما قلت وإني والله ما وجدتها في كتاب ، ولا في عهد عهده إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكني كنت أرجو أن يعيش حتى يكون آخرنا موتا فاختار الله - عز وجل - لرسوله الذي عنده على الذي عندكم ، وهذا الكتاب الذي هدى الله به فخذوا به تهتدوا لما هدى الله له رسوله . أقول : ولا يبعد أن يكون لقضية واحدة وجوه من الأسباب ، والله أعلم بالصواب ( قالوا : يا صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيصلى ) بصيغة المجهول ، وفي نسخة بالنون ( على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : نعم ، قالوا : وكيف ؟ ) أي : يصلى عليه ( قال يدخل قوم فيكبرون ) أي : أربع تكبيرات وهن الأركان عندنا والبواقي مستحبات ( ويدعون ويصلون ) أي : على النبي - صلى الله عليه وسلم - والواو لمطلق الجمع إذ الصلاة مقدمة على الدعاء ولم يذكر التسبيح لما هو معلوم من وقوعه بعد التكبيرة الأولى ، وإنما بين الصلاة والدعاء المخصوصين في هذه الصلاة بما بعد التكبيرتين [ ص: 272 ] من الثانية والثالثة ففيه إيماء إلى عدم الدعاء بعد الرابعة وإشعار بعدم فرضية قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى ، وقال ابن حجر : فيه وجوب هذه الثلاثة ومن ثمة كانت أركانا عند الشافعي ، وأما التكبير فهو أربع ، ويجوز أكثر لا أقل ( ثم يخرجون ، ثم يدخل قوم فيكبرون ويصلون ويدعون ) وفي نسخة بتقديم يدعون ( ثم يخرجون حتى يدخل الناس ) أي وهكذا حتى يصلي عليه الناس جميعا .

وروى ابن ماجه أنهم لما فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته ، ثم دخل الناس أرسالا أي : قوما بعد قوم يصلون عليه حتى إذا فرغوا دخلت النساء حتى إذا فرغن دخل الصبيان ولم يؤم الناس عليه أحد .

وقد روي عن علي - كرم الله وجهه - أنه قال لا يؤم أحدكم عليه ؛ لأنه إمامكم حال حياته وحال مماته .

وورد في بعض الروايات أنه - صلى الله عليه وسلم - أوصى على الوجه المذكور ، ولذا وقع التأخير في دفنه ؛ لأن الصلاة على قبره - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز كذا في روضة الأحباب للسيد جمال الدين المحدث .

وفي رواية أول من صلى عليه الملائكة أفواجا ، ثم أهل بيته ، ثم الناس فوجا فوجا ، ثم نساؤه آخرا قال ابن حجر فيه أن تكرير الصلاة على الميت لا بأس بها ، وإنما لم يصلوا كلهم بإمامهم ؛ لأنهم كانوا لا يتفقون على خليفة تكون الإمامة له ، قلت : هذا مناقض لما سبق عنه أن سبب تأخير دفنه هو انعقاد الإمامة مع أن الإمامة كانت ثابتة لأبي بكر على طريق النيابة فالقول قول علي - كرم الله وجهه - ، ولعله وصل إليه من صاحب الوحي وجهه .

ثم العذر في التكرير أنهم لما أرادوا دفنه في محله فلم يمكن خروجه إلى المصلى ، والصلاة في مسجد الحي مختلف في جوازها بل ولم ترد بغير عذر ولم تسع الحجرة جميع الناس جملة واحدة مع أنه لا يفيد اجتماعهم حيث لم يصلوا جماعة والكل يريدون البركة ، والحاصل أن هذه الهيئة من خصوصيات الحضرة فلا يقاس عليه غيره - صلى الله عليه وسلم - ، والله أعلم ( قالوا : يا صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيدفن رسول الله ) يعني أو يترك كذا على وجه الأرض لسلامته من العفونة والتغير فإن الأنبياء أحياء أو لانتظار الرفعة إلى السماء ( قال نعم ) أي : يدفن في الأرض لقوله تعالى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ولأنه من سنن سائر الأنبياء عليهم السلام ( قالوا : أين ) أي : يدفن لما تقدم من الخلاف ( قال في المكان الذي قبض الله فيه روحه فإن الله لم يقبض روحه ) أي : روح حبيبه ( إلا في مكان طيب ) أي : يطيب له الموت به ويحب أن يدفن فيه على ما سبق ولما ورد أيضا أنه استدل على ذلك بقوله سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ما هلك نبي قط إلا يدفن حيث يقبض روحه ، وقال علي وأنا أيضا سمعته ( فعلموا أن ) أي : أنه كان كما في نسخة ( قد صدق ) وبهذا تبين كمال عمله وفضله وإحاطته بكتاب الله وسنة نبيه ( ثم أمرهم أن يغسله بنو أبيه ) وهم علي والعباس وابناه فضل وقثم وأسامة بن زيد وصالح الحبشي ، فالمراد : ببني أبيه مباشرتهم لغسله ، وهو لا ينافي مساعدة غيرهم لهم في فعله [ ص: 273 ] فأي عصبة من النسب لهم الحق في غسله - صلى الله عليه وسلم - لكن روى البزار والبيهقي : يا علي لا يغسلني إلا أنت فإنه لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه .

ولذا قيل كان العباس وابنه الفضل يعينانه وقثم وأسامة وشقران مولاه - صلى الله عليه وسلم - وأعينهم معصوبة من وراء الستر .

وصح عن علي غسلته - صلى الله عليه وسلم - فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئا وكان طيبا حيا وميتا ، وفي رواية ابن سعد وسطعت ريح طيبة لم يجدوا مثلها قط .

وذكر ابن الجوزي عن جعفر بن محمد قال كان الماء يستنقع في جفون النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان علي يحسوه ، قلت ، وأما ما اشتهر عن بعض الشيعة من أن عليا - كرم الله وجهه - منذ ذلك اليوم لم يقص شاربه فيكون ترك القص سنة لقوله - صلى الله عليه وسلم - عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ، ففساده ظاهر ؛ لأنه لم يعرف عن علي أنه ترك قص شاربه مع طوله ، ولا يتصور منه وقوعه إذ لا يسوغ معارضة السنة المنصوصة بالعلة المعارضة المخصوصة وعلى تقدير أنه ما طال شاربه بعد شرب ذلك الماء صيانة لقطعه فلا يصح قياس غيره عليه مع أنه - صلى الله عليه وسلم - مع سائر الصحابة أولى بالاتباع فعليك بترك الابتداع .

قال النووي : وأما روي أن عليا لما غسله اقتلص ماء محاجر عينيه فشربه وأنه ورث بذلك علم الأولين والآخرين ، فليس بصحيح قال ابن حجر : ومن عجيب ما اتفق عليه ما رواه البيهقي في الدلائل عن عائشة أنهم لما أرادوا غسله - صلى الله عليه وسلم - قالوا : لا ندري أنجرده من ثيابه كما نجرد موتانا أي : بالاكتفاء بالإزار أو بما يستر الغليظتين أم نغسله وعليه ثيابه أي : من القميص وغيره فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره ، ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو اغسلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثيابه فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميصوصح إذا أنا مت فاغسلوني بسبع قرب من بئري بئر غرس ، وهو بفتح معجمة فسكون راء فسين مهملة بئر مشهورة بالمدينة ، هذا وصح عن عائشة أنه كفن في ثلاثة أثواب سحولية بيض من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة والسحولية بالفتح على الأشهر الأكثر في الروايات منسوبة إلى السحول ، وهو القصار ؛ لأنه يسحلها أي : يقصرها أو إلى سحول قرية باليمن وبالضم جمع سحل ، وهو الثوب الأبيض النقي ، ولا يكون إلا من قطن ، وفيه شذوذ ؛ لأنه نسب إلى الجمع ، وقيل اسم القرية بالضم أيضا ، وأما الكرسف فبضم فسكون فضم هو القطن قال الترمذي وروي في كفنه - صلى الله عليه وسلم - روايات مختلفة وحديث عائشة أصح الأحاديث في ذلك والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم ونقل البيهقي عن الحاكم تواتر الأخبار عن علي وابن عباس وابن عمر وجابر وعبد الله بن مغفل - رضي الله عنهم - أجمعين في تكفين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ، ولا عمامة وخبر أحمد أنه كفن في سبعة أثواب وهم رواية .

أقول الظاهر أن يقال المعنى ليس فيها قميص متعارف أو ليس فيها قميص من قميصه الذي كان يلبسها إذ الصواب على ما نص [ ص: 274 ] عليه النووي وغيره أن قميصه الذي غسل فيه نزع عنه عند تكفينه فإنه لو بقي مع رطوبته لأفسد الأكفان وبه يحصل الجمع بين ما سبق من الروايات وبين ما روي أنه كفن في ثلاثة أثواب الحلة ثوبان وقميص .

وقيل تأويله أنه ليس في الثلاثة قميص وعمامة بل كانا زائدين عليها ، وهو إنما يستقيم على مذهب المالكية في قولهم إنهما مندوبان للرجال والنساء ، وأما مذهبنا فالكفن ثلاثة أثواب إزار وقميص ورداء واستحب العمامة بعض علمائنا للرجال .

نعم يزاد للمرأة الخمار وخرقة يربط بها ثديها وتفاصيل المسائل وأدلتها محررة في كتب الفروع المبسوطة المدونة وحفر أبو طلحة لحده في موضع فراشه حيث قبض وقد اختلفوا أيضا هل يلحد قبره أو يشق فاتفقوا على أن يرسل أحد إلى من يلحد وآخر إلى من يشق وكل من سبق يعمل عمله فاتفق أن أبا طلحة جاء قبله وأصح ما روي فيمن نزل في قبره أنه علي والعباس وابناه الفضل وقثم وكان آخر الناس به عهدا قثم وورد أنه بني في قبره تسع لبنات وفرش تحته قطيفة بحرانية كان يتغطى بها فرشها شقران في القبر ، وقال والله لا يلبسها أحد بعدك وأخذ منه البغوي أنه لا بأس بفرشها لكنه شاذ والصواب كراهته وأجابوا عن فعل شقران بأنه شيء انفرد به ولم يوافقه أحد من الصحابة ، ولا عملوا به على أن ابن عبد البر قال إنها أخرجت من القبر لما فرغوا من وضع اللبنات التسع قال رزين : ورش قبره بلال بقربة بدأ من قبل رأسه وجعل عليه من حصا العرصة حمراء بيضاء ورفع قبره من الأرض قدر شبر .

وروى البخاري عن عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في مرض موته لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .

ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أو خشي أن يتخذ مسجدا ورواية الفتح صريحة في أنه أمرهم بذلك بخلاف رواية الضم فإنها تشعر بأن ذلك اجتهاد منهم ، قال ابن حجر : ومعنى لأبرز قبره كشف ولم يتخذ عليه حائل قلت ، والأظهر أن معناه دفن في البراز لا في الحجرة قبل ، وإنما قالته عائشة قبل أن يوسع المسجد ، ولهذا لما وسع جعلت حجرتها مثلثة الشكل حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر الشريف مع استقباله القبلة كذا ذكره ابن حجر ، وفيه أنه يمكن الجمع بين الاستقبالين في بعض المواضع من المسجد الشريف كما هو ظاهر مشاهد ، ثم البخاري روى عن سفيان التمار أنه رأى قبره - صلى الله عليه وسلم - مسنما أي : مرتفعا على هيئة السنام زاد أبو نعيم في المستخرج وقبر أبي بكر وعمر كذلك ، وهو الموافق لما عليه جمهور العلماء من الأئمة الثلاثة والمزني وكثير من الشافعية خلافا لبعضهم بل ادعى القاضي حسين اتفاق أصحاب الشافعي عليه وأغرب البيهقي في رد قول التمار حيث قال لا حجة فيه لاحتمال أنه لم يكن من أول أمره مسنما انتهى ، ووجه غرابته لا يخفى ؛ لأن أحدا لم يجترئ على مخالفة فعل الصحابة نعم لو كان الأمر بالعكس بأن كان مسنما أولا ، ثم صار مسطحا له وجه بحسب طول الزمان وتغير المكان ، وأما ما روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر قال دخلت على عائشة فقلت يا أمه اكشفي لي عن قبره [ ص: 275 ] - صلى الله عليه وسلم - فكشف لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ، ولا لاطئة بل مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء .

فلا دلالة فيه على التسطيح فإن المراد بقوله لا مشرفة ، ولا لاطئة أنها ليست مرتفعة جدا ، ولا مرتخية بل بينهما لما ثبت أنه كان الارتفاع قدر شبر والمقصود من المبطوحة أنها مفروشة مكبوب عليها بالبطحاء فإن له من الدلالة على وجود التسطيح وعلى عدم التسنيم هذا ، وقد زاد الحاكم عنه فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدما وأبو بكر رأسه بين كتفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمر رأسه عند رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وروي في صفات القبور الثلاثة غير ما ذكر لكن حديث القاسم أصح .

قال ابن حجر وما مر عن القاضي مردود بل قدماء الشافعية ومتأخروهم على أن التسطيح أفضل لما في مسلم من حديث فضالة بن أبي عبيد أنه مر بقبر فسوي ، ثم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها قلت لا يرد قول القاضي ؛ لأن حكمه هو الماضي ، وكأنه ما عد خلاف بعض القدماء معتبرا مع أن الاستدلال في التسطيح بالحديث المذكور غير صحيح لعدم إفادة المقصود على وجه التصريح فإن المتبادر من معناه أنه رأى صورة قبر غير متساوية بسبب تفرق أحجاره وانتشار ترابه وآثاره فأصلحه ، فالمراد : بالتسوية في الحديث المرفوع أيضا إصلاح القبور وإبقاؤها إذ لم ينقل أن أحدا غير صورة القبر المسنم وجعلها على الوجه المسطح والله سبحانه أعلم ( واجتمع المهاجرون ) أي : أكثرهم ( يتشاورون ) أي : في أمر الخلافة الواو لمطلق الجمع أو الجملة حالية وإلا فالقضية واقعة قبل الدفن كذا ذكره الطبري صاحب الرياض النضرة أن الصحابة أجمعوا على أن نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة من واجبات الأحكام بل جعلوه أهم الواجبات حيث اشتغلوا به عن دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختلافهم في التعيين لا يقدح في الإجماع المذكور وكذا مخالفة الخوارج ونحوهم في الوجوب مما لا يعتد به ؛ لأن مخالفتهم كسائر المبتدعة لا تقدح في الإجماع ولتلك الأهمية لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام أبو بكر خطيبا فقال : أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، ولا بد لهذا الأمر ممن يقوم به فانظروا وهاتوا رأيكم فقالوا : صدقت واجتمع المهاجرون ( فقالوا ) أي : بعضهم ورضي به الباقون ( انطلق بنا ) والخطاب لأبي بكر والباء للتعدية أو المصاحبة ( إلى إخواننا من الأنصار ندخلهم ) بالجزم على جواب الأمر ، وفي نسخة بالرفع أي : نحن ندخلهم ( معنا في هذا الأمر ) أي : أمر نصب الخلافة لا في أمر الخلافة كما ذكره ابن حجر وكان من جملة القائلين عمر حيث صرح بالعلة بقوله إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة لهم معنا أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى أو نخالفهم فيكون فسادا ( فقالت الأنصار ) في الكلام حذف واختصار والتقدير فانطلقوا إليهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة فلما وصلوا إليهم وتكلموا في أمر الخلافة قالت الأنصار ( منا أمير ومنكم أمير ) ولعل الشيخين ما طلبوا الأنصار إلى مجلسهما خوفا أن يمتنعوا من [ ص: 276 ] الإتيان إليهما أو خشية أن يقع لهم بيعة لواحد منهم قبل مجيئهم عندهما ففي رواية أنهم لما قالوا ذلك ، احتج أبو بكر عليهم بحديث الأئمة من قريش ، وهو حديث صحيح ورد من طرق نحو أربعين صحابيا .

وفي رواية أحمد والطبراني عن عقبة بن عبد بلفظ الخلافة لقريش ، وكأنه بهذا الحديث استغنى عن ردهم عن مقالتهم بالدليل العقلي ، وهو أن تعدد الأمير يقتضي التعارض والتناقض في الحكم لا سيما باعتبار ما عدا المهاجرين والأنصار ، ولا يتم نظام الأمر في أمور الأمصار ، وهذا الكلام من الأنصار إنما وقع على قواعد الجاهلية قبل تقرر الأحكام الإسلامية حيث كان لكل قبيلة شيخ يرأسهم ومرجعهم في أمورهم وسياستهم وبهذا كانت الفتنة مستمرة فيما بينهم إلى أن جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وألف بين قلوبهم وعفا الله عما سلف من ذنوبهم .

وفي رواية النسائي وأبي يعلى والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه لما قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فأتاهم عمر بن الخطاب فقال : يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس ؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم على أبي بكر ؟ فقالت الأنصار : نعوذ بالله أن نتقدم على أبي بكر ، ولا شك أن هذا الاستدلال أقوى من جميع الأقوال ؛ لأن في هذه القضية وقعت العبارة الجلية إلى أولوية أبي بكر بالإمامة وسببه كونه جامعا بين الأسبقية والأكبرية والأفضلية بالأحكام الدينية المأخوذة من الكتاب والأحاديث النبوية كما ظهرت منه - رضي الله عنه - فيما يتقدم مما تحير غيره من الأصحاب وكشف الأمر عن النقاب مع الإشارة الخفية على أحقيته بالخلافة المصطفوية فإنه - صلى الله عليه وسلم - نصبه لهذا الأمر مدة مديدة مع وجود حضور البقية من أكابر الصحابة وفضلاء أهل بيت النبوة ، ثم أكد الأمر عند معارضة صواحبات يوسف باستمرار إمامته وكذا إباؤه - صلى الله عليه وسلم - عند تقدم عمر مرة لغيبة أبي بكر وقوله لا لا لا يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ، ثم خروجه - صلى الله عليه وسلم - وأداء صلاته خلف الصديق تأكيدا للقضية بين أفراد الأدلة القولية والفعلية والتقريرية أيضا كما خرج مرة وطالع في صلاة القوم مستبشرا ، ثم رجع ، وقد قال جمهور الصحابة حتى علي - كرم الله وجهه - رضيه - صلى الله عليه وسلم - لديننا أفلا نرضاه لدنيانا ، وإنما وقع صورة التخالف في مدة من التخلف لبعضهم ظنا منهم أن وقوع البيعة في غيبتهم كان بناء على عدم اعتبارهم في مرتبتهم ولم يكن الأمر كذلك ؛ لأن الشيخين خافا من الأنصار أن يعقدوا بيعة بالعجلة تكون سببا للفتنة مع ظن منهما أن أحدا من المهاجرين لم يكره خلافة أبي بكر ; لعلمهم بمقامه في علو الأمر ( فقال عمر بن الخطاب من له مثل هذه الثلاث ؟ ) استفهام إنكاري على الأنصار وغيرهم ممن كان يظن من نفسه أنه أولى بالخلافة ، والمعنى هل رجل ورد في شأنه مثل هذه الفضائل في قضية واحدة له مع قطع النظر عن سائر محاسن الشمائل أولها قوله تعالى ثاني اثنين إذ هما في الغار وثانيهما قوله إذ يقول لصاحبه وثالثهما لا تحزن إن الله معنا كذا ذكره ميرك قال الحنفي : إحداها ثاني اثنين وثانيها [ ص: 277 ] إذ هما في الغار وثالثها إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا انتهى ، والأول أظهر واقتصر عليه ابن حجر ( من هما ) أي : من الاثنان المذكوران في هذه الآية المتضمنة لهما والاستفهام للتعظيم والتقرير ، وقد أبعد الحنفي بقوله ، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الأميرين فحينئذ يكون الاستفهام للإنكار والتحقير وتبعه ابن حجر ، ثم قال فإثبات الله تعالى تلك الفضائل الثلاث بنص القرآن دون غيره دليل ظاهر على أحقيته بالخلافة من غيره .

أقول وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق : إن في هذه الآية باعتبار سابقها ولاحقها أدلة أخر اقتصر على بعضها عمر - رضي الله عنه - منها قوله تعالى إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا فإن الخطاب لجميع المؤمنين على سبيل التوبيخ والتعيير أو على الفرض والتقدير إلا الصديق فإنه - رضي الله عنه - كان معه - صلى الله عليه وسلم - ناصرا بلا شبهة ، ولا مرية .

ومنها أن نصرة الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - متضمن لنصرة الصديق أيضا لكونه معه فهو ناصر ومنصور من عند الله تعالى فهو أولى بالخلافة .

ومنها قوله تعالى فأنزل الله سكينته عليه أي : على أبي بكر على الأصح ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان في غاية من السكينة ونهاية من الطمأنينة ، وإنما كان الصديق في مقام الحزن والاضطراب فاختص بهذه السكينة الرزينة من بين الأصحاب مع مشاركته لهم في السكينة العامة الواردة في قوله تعالى هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ولعل هذا منشأ ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - إن الله تعالى تجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة ، ولا ينافيه كون مرجع الضمير في قوله تعالى وأيده بجنود لم تروها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن تفكيك الضمير جائز عند المحققين في مقام الأمن من اللبس كما حقق في قوله تعالى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم وقد يقال : الضمير المفرد في سكينته عليه باعتبار كل واحد منهما والسكينة على ما قال بعض العارفين سكون القلب فيما يبدو من حكم الرب .

ثم اعلم أن قوله ثاني اثنين حال من الضمير في قوله تعالى إذ أخرجه كما صرح به أبو البقاء فهو وصف له - صلى الله عليه وسلم - لكن لما كان معناه أحد اثنين ولم يكن معه إلا واحد يصدق على الصديق أيضا أنه ثاني اثنين إذ هما في الغار أي : المعهود بمكة وقت الهجرة ، وقال ابن عطاء أي : في محل القرب وكهف الأنوار ، وقد مكثا ثلاثة أيام في ذلك الغار وليس في الدار غيره ديار فانظر إلى خصوصيته - رضي الله عنه - بهذه الأسرار من مرافقته في الغار ومرافقته في الأسفار وملازمته في مواضع القرار حيا وميتا وخروجا من القبر ودخولا في الجنة مقدما على جميع الأبرار .

وفي هذه القضية من الإشارة الخفية أنه أفضل المهاجرين ؛ لأن هجرته مقرونة بهجرته - صلى الله عليه وسلم - بخلاف هجرة غيره مقدما أو مؤخرا فهو القائم مع القلب بحكم الرب .

ومن المعلوم أن المهاجرين أفضل من الأنصار كما اتفق عليه العلماء الأبرار ، وقد أشار إليه سبحانه بقوله والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار فهذا دليل على أن الصديق هو الأفضل من بقية الأصحاب كما فهمه عمر بن الخطاب .

ثم الدليل الثاني ، وهو قوله تعالى [ ص: 278 ] ( إذ يقول ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - لصاحبه أي : لأبي بكر - رضي الله عنه - على ما أجمع عليه المفسرون فسماه الله صاحبه ولم يشرف غيره من الصحابة بتنصيصه على الصحبة .

ولهذه الخصوصية قالوا : من أنكر صحبة الصديق كفر لكونه متضمنا لإنكار الآية بخلاف سائر الصحابة ولو تواترت صحبة بعضهم عند الخاصة والعامة ، ولا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى خصوص تلك الصحبة في تلك الحالة فإنها صحبة خاصة ، ولعل هذه الإضافة المشرفة بالكتاب صارت سببا لصحبته المستمرة له - صلى الله عليه وسلم - في الحياة والممات والخروج إلى العرصات والدخول في الجنات والوصول إلى أعلى الدرجات فبهذه الصحبة المخصوصة فاق الصديق سائر الأصحاب كما شهد به الكتاب لا سيما ، وقد عدل عن اسمه الصريح إلى هذا الوصف المليح خلافا لمن وقع باسم زيد من التصريح على أنه ممتاز بذكره في الكلام القديم ولكن بينهما بون عظيم وفصل جسيم .

ثم قوله لا تحزن إن الله معنا فيه إشعار بأنه كان كثير الحزن لا على نفسه بل بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم - كما يدل عليه ما روي من أنه سبق النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الغار خوفا من أن يكون هناك أحد من الأغيار أو ما يؤذيه من الحشرات مع اهتمامه بتنظيف المحل عن الأوساخ والقاذورات .

وقد نقل البغوي عن أنس أن أبا بكر حدثهم قال نظرت إلى أقدام المشركين فوق رءوسنا ونحن في الغار فقلت يا رسول الله : لو أن أحدهم نظر تحت قدميه أبصرنا فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما انتهى .

فهذه منقبة سنية لا يتصور فوقها ممدحة بهية مع زيادة قوله تعالى إن الله معنا يدل على خصوص معية وإلا فالله تعالى بالعلم مع كل أحد كما قال وهو معكم أين ما كنتم وفي العدول عن معي إلى معنا دلالة واضحة جلية على اشتراك الصديق معه في هذه المعية بخلاف قول موسى عليه السلام كما أخبر سبحانه عنه بقوله فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين وقد ذكرت الصوفية هنا من النكتة العلية ، وهي أن موسى عليه السلام كان في مقام التفرقة وأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - كان في حالة الجمعية الجامعة المعبر عنها بمقام جمع الجمع فهذه المعية المقرونة بالجمعية مختصة للصديق دون الأصحاب ، والله أعلم بالصواب ( قال ) أي : الراوي ( ثم بسط ) أي : مد عمر ( يده فبايعه ) أي : فبايع أبا بكر وروي أن أبا بكر قال لعمر تواضعا عن طلب الجاه لا تبريا ابسط يدك لأبايعك قال له عمر أنت أفضل مني فأجابه بقوله أنت أقوى مني ثم تكرر ذلك فقال عمر فإن قوتي لك مع فضلك أي : قوتي تابعة لك مع زيادة فضلك إيماء بأن أبا بكر هو الأمير وأن عمر هو الوزير والمشير وبهما يتم نظام الأمر ( وبايعه الناس ) أي : جميع الموجودين في ذلك المحل أو جمهور الناس حينئذ أو جميعهم باعتبار آخر الأمر خلافا لمن خالف من حيث إنه لا يعتبر . ( بيعة حسنة ) لا إكراها ، ولا إجبارا ، ولا ترغيبا ، ولا ترهيبا ( جميلة ) أي : مليحة قال شارح : جميلة تأكيد لقوله حسنة ، واعترض بأن التأكيد اللفظي بالمرادفة لم يثبته النحاة إلا في [ ص: 279 ] نحو ضربت أنت وبأنه لا يصح كونه نعتا للتأكيد ؛ لأنهم حصروه فيما إذا فهم من متبوعه تضمنا أو التزاما .

ودفع بأن المراد بالتأكيد هنا تقوية الحكم لا اللفظ وتقويته يحصل بالمرادف أيضا .

وبأنه يصح كونه هنا نعتا قصد به التأكيد ؛ لأن الجمال يفهم من الحسن تضمنا والتزاما ذكره ابن حجر ، وفي الثاني محل نظر نعم على كل تقدير فالمغايرة بينهما أولى بأن يجعل حسنها دفعها للفتنة وتوافقها بحديث : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن .

وجمالها من حيث رضى نفوسهم وإقبالهم عليها وشهودهم لجمال الحق فيها إذا رضاهم بها فالأولى باعتبار ذاتها والثانية باعتبار متعلقاتها ، هذا ، وقد روى ابن إسحاق عن الزهري عن أنس أنه لما بويع أبو بكر في السقيفة جلس من الغد على المنبر فقام عمر فتكلم قبله وحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثاني اثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة ، ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني الصدق أمانة والكذب خيانة والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله ، ولا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، وإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله .

وأخرج موسى بن عقبة في مغازيه والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن عوف قال : خطب أبو بكر فقال والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما وليلة قط ، ولا كنت راغبا ، ولا سألتها الله في سر ، ولا علانية ولكني أشفقت من الفتنة وما لي في الإمارة من راحة ، لقد قلدت أمرا عظيما ما لي به من طاقة ولا يد إلا بتقوية الله .

فقال علي والزبير : ما أغضبنا إلا أن أخرنا عن المشورة وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها وإنه لصاحب الغار وإنا لنعرف شرفه وخيره ولقد أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يصلي بالناس ، وهو حي ، وفي رواية أنه رضيه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا .

وفي هذا المقدار من الدلالة كفاية لأرباب الهداية دون أرباب الضلالة ومن يضلل الله فما له من هاد والله رءوف بالعباد .

التالي السابق


الخدمات العلمية