الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ويستوي فيه العمد والخطأ والذكر والنسيان عند عامة العلماء وعامة الصحابة وعن ابن عباس رضي الله عنهما ( أنه لا كفارة على الخاطئ ) وقال الشافعي : ( لا كفارة على الخاطئ والناسي ) والكلام في المسألة بناء وابتداء .

                                                                                                                                أما البناء فما ذكرنا فيما تقدم أن الكفارة إنما تجب [ ص: 202 ] بارتكاب محظور الإحرام والجناية عليه ، ثم زعم الشافعي أن فعل الخاطئ والناسي لا يوصف بالجناية والحظر ; لأن فعل الخطأ والنسيان مما لا يمكن التحرز عنه فكان عذرا ، وقلنا نحن : إن فعل الخاطئ والناسي جناية وحرام ; لأن فعلهما جائز المؤاخذة عليه عقلا ، وإنما رفعت المؤاخذة عليه شرعا مع بقاء وصف الحظر والحرمة فأمكن القول بوجوب الكفارة .

                                                                                                                                وكذا التحرز عنهما ممكن في الجملة إذ لا يقع الإنسان في الخطأ والسهو إلا لنوع تقصير منه فلم يكن عذرا منه ; ولهذا لم يعذر الناسي في باب الصلاة إلا أنه جعل عذرا في باب الصوم ; لأنه يغلب وجوده فكان في وجوب القضاء حرج ، ولا يغلب في باب الحج ; لأن أحوال الإحرام مذكرة فكان النسيان معها نادرا على أن العذر في هذا الباب لا يمنع وجوب الجزاء كما في كفارة الحلق لمرض أو أذى بالرأس .

                                                                                                                                وكذا فوات الحج لا يختلف حكمه للعذر وعدم العذر ، وأما الابتداء فاحتج بقوله عز وجل { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } خص المتعمد بإيجاب الجزاء عليه ، فلو شاركه الخاطئ والناسي في الوجوب لم يكن للتخصيص معنى ، ولنا وجوه من الاستدلال بالعمد ، أحدها : أن الكفارات وجبت رافعة للجناية ; ولهذا سماه الله تعالى كفارة بقوله عز وجل { أو كفارة طعام مساكين } وقد وجدت الجناية على الإحرام في الخطأ ألا ترى أن الله عز وجل سمى الكفارة في القتل الخطأ توبة بقوله تعالى في آخر الآية { توبة من الله }

                                                                                                                                ولا توبة إلا من الجناية ، والحاجة إلى رفع الجناية موجودة ، والكفارة صالحة لرفعها ; لأنها ترفع أعلى الجنايتين وهي العمد وما صلح رافعا لأعلى الذنبين يصلح رافعا لأدناهما بخلاف قتل الآدمي عمدا أنه لا يوجب الكفارة عندنا والخطأ يوجب ; لأن النقص هناك وجب ، ورد بإيجاب الكفارة في الخطأ وذنب الخطأ دون ذنب العمد ، وما يصلح لرفع الأدنى لا يصلح لرفع الأعلى فامتنع الوجوب من طريق الاستدلال ; لانعدام طريقه ، والثاني : أن المحرم بالإحرام أمن الصيد عن التعرض ، والتزم ترك التعرض له فصار الصيد كالأمانة عنده ، وكل ذي أمانة إذا أتلف الأمانة يلزمه الغرم عمدا كان أو خطأ بخلاف قتل النفس عمدا ; لأن النفس محفوظة بصاحبها وليست بأمانة عند القاتل حتى يستوي حكم العمد والخطأ في التعرض لها ، والثالث : أن الله تعالى ذكر التخيير في حال العمد وموضوع التخيير في حال الضرورة ; لأنه في التوسع وذا في حال الضرورة كالتخيير في الحلق لمن به مرض أو به أذى من رأسه بقوله { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } ولا ضرورة في حال العمد فعلم أن ذكر التخيير فيه ; لتقدير الحكم به في حال الضرورة لولاه لما ذكر التخيير فكان إيجاب الجزاء في حال العمد إيجابا في حال الخطأ ; ولهذا كان ذكر التخيير الموضوع للتخفيف والتوسع في كفارة اليمين بين الأشياء الثلاثة حالة العمد ذكرا في حالة الخطأ والنوم والجنون دلالة .

                                                                                                                                وأما تخصيص العامد فقد عرف من أصلنا أنه ليس في ذكر حكمه وبيانه في حال دليل نفيه في حال أخرى فكان تمسكا بالمسكوت فلا يصح ، ويحتمل أن يكون تخصيص العامد لعظم ذنبه تنبيها على الإيجاب على من قصر ذنبه عنه من الخاطئ والناسي من طريق الأولى ; لأن الواجب لما رفع أعلى الذنبين فلأن يرفع الأدنى أولى ، وعلى هذا كانت الآية حجة عليه والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية