الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما شرائط اللزوم ، فنوعان : في الأصل نوع هو شرط وقوع النكاح لازما ، ونوع هو شرط بقائه على اللزوم .

                                                                                                                                ( أما ) الأول ، فأنواع : منها أن يكون الولي في إنكاح الصغير والصغيرة هو الأب والجد ، فإن كان غير الأب والجد من الأولياء كالأخ والعم لا يلزم النكاح حتى يثبت لهما الخيار بعد البلوغ ، وهذا قول أبي حنيفة ، ومحمد ، وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط ، ويلزم نكاح غير الأب والجد من الأولياء حتى لا يثبت لهما الخيار ( وجه ) قول أبي يوسف إن هذا النكاح صدر من ولي ، فيلزم كما إذا صدر عن الأب والجد وهذا ; لأن ولاية الإنكاح ، ولاية نظر في حق المولى عليه فيدل ثبوتها على حصول النظر ، وهذا يمنع ثبوت الخيار ; لأن الخيار لو ثبت إنما يثبت لنفي الضرر ولا ضرر ، فلا يثبت الخيار ، ولهذا لم يثبت في نكاح الأب ، والجد كذا هذا ، ولهما ما روي { أن قدامة بن مظعون زوج بنت أخيه عثمان بن مظعون من عبد الله بن عمر رضي الله عنه فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد البلوغ ، فاختارت نفسها } حتى روي أن ابن عمر قال : إنها انتزعت مني بعد ما ملكتها ، وهذا نص في الباب ; ولأن أصل القرابة إن كان يدل على أصل النظر ; لكونه دليلا على أصل الشفقة ، فقصورها يدل على قصور النظر لقصور الشفقة بسبب بعد القرابة ، فيجب اعتبار أصل القرابة بإثبات أصل الولاية ، واعتبار القصور بإثبات الخيار تكميلا للنظر ، وتوفيرا في حق الصغير بتلافي التقصير لو وقع ، ولا يتوهم التقصير في إنكاح الأب ، والجد لوفور شفقتهما لذلك لزم إنكاحهما ، ولم يلزم إنكاح الأخ والعم على أن القياس في إنكاح الأب والجد أن لا يلزم إلا أنهم استحسنوا في ذلك لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج عائشة رضي الله عنها وبلغت لم يعلمها بالخيار بعد البلوغ .

                                                                                                                                ولو كان الخيار ثابتا لها ، وذلك حقها لأعلمها به ، وهل يلزم إذا زوجها الحاكم ذكر في الأصل ما يدل على أنه لا يلزم ، فإنه قال : إذا زوجها غير الأب والجد ، فلها الخيار ، والحاكم غير الأب والجد هكذا قول محمد أن لها الخيار ، وروى خالد بن صبيح المروزي عن أبي حنيفة أنه لا خيار لها ( وجه ) هذه الرواية أن ولاية الحاكم أعم من ولاية الأخ والعم ; لأنه يملك التصرف في النفس والمال جميعا ، فكانت ، ولايته شبيهة بولاية [ ص: 316 ] الأب والجد ، وولايتهما ملزمة كذلك ولاية الحاكم ( وجه ) رواية الأصل أن ، ولاية الأخ والعم أقوى من ولاية الحاكم بدليل أنهما يتقدمان عليه حتى لا يزوج الحاكم مع وجودهما ، ثم ولايتهما غير ملزمة ، فولاية الحاكم أولى ، وإذا ثبت الخيار لكل واحد منهما ، وهو اختيار النكاح أو الفرقة ، فيقع الكلام بعد هذا في موضعين أحدهما : في بيان وقت ثبوت الخيار ، والثاني في بيان ما يبطل به الخيار أما الأول ، فالخيار يثبت بعد البلوغ لا قبله حتى لو رضيت بالنكاح قبل البلوغ لا يعتبر ، ويثبت الخيار بعد البلوغ ; لأن أهلية الرضا تثبت بعد البلوغ لا قبله ، فيثبت الخيار بعد البلوغ لا قبله .

                                                                                                                                وأما الثاني ، فما يبطل به الخيار نوعان : نص ودلالة أما النص ، فهو صريح الرضا بالنكاح نحو أن تقول رضيت بالنكاح ، واخترت النكاح أو أجزته ، وما يجري هذا المجرى ، فيبطل خيار الفرقة ، ويلزم النكاح .

                                                                                                                                وأما الدلالة ، فنحو السكوت من البكر عقيب البلوغ ; لأن سكوت البكر دليل الرضا بالنكاح لما ذكرنا فيما تقدم أن البكر لغلبة حيائها تستحي عن إظهار الرضا بالنكاح .

                                                                                                                                فأما سكوت الثيب ، فإن كان وطئها قبل البلوغ ، فبلغت وهي ثيب ، فسكتت عقيب البلوغ ، فلا يبطل به الخيار ; لأنها لا تستحي عن إظهار الرضا بالنكاح عادة ; لأن بالثيابة قل حياؤها ، فلا يصح سكوتها دليلا على الرضا بالنكاح ، فلا يبطل خيارها إلا بصريح الرضا بالنكاح أو بفعل أو بقول يدل على الرضا نحو التمكين من الوطء وطلب المهر ، والنفقة ، وغير ذلك .

                                                                                                                                وكذا سكوت الغلام بعد البلوغ ; لأن الغلام لا يستحي عن إظهار الرضا بالنكاح إذ ذاك دليل الرجولية ، فلا يسقط خياره إلا بنص كلامه أو بما يدل على الرضا بالنكاح من الدخول بها ، وطلب التمكن منها ، وإدرار النفقة عليها ، ونحو ذلك ، ثم العلم بالنكاح شرط بطلان الخيار من طريق الدلالة حتى لو لم تكن عالمة بالنكاح لا يبطل الخيار ; لأن بطلان الخيار لوجود الرضا منها دلالة ، والرضا بالشيء قبل العلم به لا يتصور إذ هو استحسان الشيء .

                                                                                                                                ومن لم يعلم بشيء كيف يستحسنه ، فإذا كانت عالمة بالنكاح ، ووجد منها دليل الرضا بالنكاح بطل خيارها ، ولا يمتد هذا الخيار إلى آخر المجلس بل يبطل بالسكوت من البكر بخلاف خيار العتق ، وخيار المخيرة ; لأن التخيير هناك ، وجد من العبد ، وهو الزوج أو المولى أما في الزوج ، فظاهر .

                                                                                                                                وكذا في المولى ; لأن الخيار يثبت بالعتق ، والعتق حصل بإعتاقه ، والتخيير من العبد تمليك فيقتضي جوابا في المجلس ، فيمتد إلى آخر المجلس كخيار القبول في البيع بخلاف خيار البلوغ ; لأنه ما ثبت بصنع العبد بل بإثبات الشرع ، فلم يكن تمليكا ، فلا يمتد إلى آخر المجلس ، وإن لم تكن عالمة بالنكاح ، فلها الخيار حين تعلم بالنكاح ، ثم خيار البلوغ يثبت للذكر والأنثى ، وخيار العتق لا يثبت إلا للمعتقة ; لأن خيار البلوغ يثبت لقصور الولاية وذا لا يختلف بالذكورة والأنوثة ، وخيار العتق ثبت لزيادة الملك عليها بالعتق ، وذا يختص بها .

                                                                                                                                وكذا خيار البلوغ للذكر والأنثى إذا كانت الأنثى ثيبا لا يبطل بالقيام عن المجلس ، وخيار العتق ، والمخيرة يبطل والفرق على نحو ما ذكرنا من خيار البكر وخيار العتق ، وخيار المخيرة أن الأول يبطل بالسكوت ، والثاني لا يبطل .

                                                                                                                                وأما العلم بالخيار ، فليس بشرط ، والجهل به ليس بعذر ; لأن دار الإسلام دار العلم بالشرائع ، فيمكن الوصول إليها بالتعلم ، فكان الجهل بالخيار في غير موضعه ، فلا يعتبر ، ولهذا لا يعذر العوام في دار الإسلام بجهلهم بالشرائع بخلاف خيار العتق ، فإن العلم بالخيار هناك شرط ، والجهل به عذر ، وإن كان دار الإسلام دار العلم بالشرائع ، والأحكام ; لأن الوصول إليها ليس من طريق الضرورة بل بواسطة التعلم ، والأمة لا تتمكن من التعلم ; لأنها لا تتفرغ لذلك لاشتغالها بخدمة مولاها بخلاف الحرة ، ثم إذا اختار أحدهما الفرقة ، فهذه الفرقة لا تثبت إلا بقضاء القاضي بخلاف خيار العتق ، فإن المعتقة إذا اختارت نفسها تثبت الفرقة بغير قضاء القاضي ( وجه ) الفرق أن أصل النكاح ههنا ثابت ، وحكمه نافذ ، وإنما الغائب وصف الكمال ، وهو صفة اللزوم ، فكان الفسخ من أحد الزوجين رفع الأصل بفوات الوصف ، وفوات الوصف لا يوجب رفع الأصل لما فيه من جعل الأصل تبعا للوصف ، وليس له هذه الولاية ، وبه حاجة إلى ذلك ، فلا بد من رفعه إلى من له الولاية العامة ، وهو القاضي ; ليرفع النكاح دفعا لحاجة الصغير الذي بلغ ، ونظرا له بخلاف خيار المعتق ; لأن الملك ازداد عليها بالعتق ، ولها أن لا ترضى بالزيادة ، فكان لها أن تدفع الزيادة ، ولا يمكن دفعها إلا [ ص: 317 ] باندفاع ما كان ثابتا ، فيندفع الثابت ضرورة دفع الزيادة ، وهذا يمكن إذ ليس بعض الملك تابعا لبعض ، فلا تقع الحاجة إلى قضاء القاضي ، ونظير الفصلين الرد بالعيب قبل القبض وبعده أن الأول يثبت بدون قضاء القاضي ، والثاني لا يثبت عند عدم التراضي منهما إلا بقضاء القاضي ، والله عز وجل أعلم .

                                                                                                                                ولو زوج ابنته ابن أخيه ، فلا خيار لها بالإجماع ; لأن النكاح صدر عن الأب .

                                                                                                                                وأما ابن الأخ ، فله الخيار في قول أبي حنيفة ، ومحمد لصدور النكاح عن العم ، وعند أبي يوسف لا خيار له ، والمسألة قد مرت .

                                                                                                                                ولو أعتق أمته ، ثم زوجها ، وهي صغيرة ، فلها خيار البلوغ ; لأن ولاية الولاء دون ولاية القرابة ، فلما ثبت الخيار ثمة ، فلأن يثبت ههنا أولى ، ولو زوجها ، ثم أعتقها ، وهي صغيرة ، فلها إذا بلغت خيار العتق لا خيار البلوغ ; لأن النكاح صادفها ، وهي رقيقة .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية