الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ومما يتصل بحال قيام العدة عن الطلاق من الأحكام .

                                                                                                                                منها الإرث عند الموت وجملة الكلام فيه أن المعتدة لا تخلو إما إن كانت من طلاق رجعي وإما إن كانت من طلاق بائن أو ثلاث والحال لا يخلو إما إن كانت حال الصحة وإما إن كانت حال المرض فإن كانت العدة من طلاق رجعي فمات أحد الزوجين قبل انقضاء العدة ورثه الآخر بلا خلاف سواء كان الطلاق في حال المرض أو في حال الصحة ; لأن الطلاق الرجعي منه لا يزيل النكاح فكانت الزوجية بعد الطلاق قبل انقضاء العدة قائمة من وجه والنكاح القائم من كل وجه سبب لاستحقاق الإرث من الجانبين كما لو مات أحدهما قبل الطلاق ، وسواء كان الطلاق بغير رضاها أو برضاها فإن ما رضيت به ليس بسبب لبطلان النكاح حتى يكون رضا ببطلان حقها في الميراث ، وسواء كانت المرأة حرة مسلمة وقت الطلاق أو مملوكة أو كتابية ثم أعتقت أو أسلمت في العدة ; لأن النكاح بعد الطلاق قائم من كل وجه ما دامت العدة قائمة وأنه سبب لاستحقاق الإرث .

                                                                                                                                وإن كانت من طلاق بائن أو ثلاث فإن كان ذلك في حال الصحة فمات أحدهما لم يرثه صاحبه سواء كان الطلاق برضاها أو بغير رضاها ، وإن كان في حال المرض فإن كان برضاها لا ترث بالإجماع ، وإن كان بغير رضاها فإنها ترث من زوجها عندنا .

                                                                                                                                وعند الشافعي لا ترث .

                                                                                                                                ومعرفة هذه المسألة مبنية على معرفة سبب استحقاق الإرث وشرط الاستحقاق ووقته أما السبب فنقول : لا خلاف أن سبب استحقاق الإرث في حقها النكاح فإن الله عز وجل أدار الإرث فيما بين الزوجين على الزوجية بقوله سبحانه وتعالى { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } إلى آخر ما ذكر سبحانه من ميراث الزوجين ولأن سبب الإرث في الشرع ثلاثة لا رابع لها : القرابة والولاء والزوجية ، واختلف في الوقت الذي يصير النكاح سببا لاستحقاق الإرث ، وعند الشافعي هو وقت الموت فإن كان النكاح قائما وقت الموت ثبت الإرث وإلا فلا .

                                                                                                                                واختلف مشايخنا ، قال بعضهم : هو وقت مرض الموت ، والنكاح كان قائما من كل وجه من أول مرض الموت ولا يحتاج إلى إبقائه من وجه إلى وقت الموت ليصير سببا .

                                                                                                                                وتفسير الاستحقاق عندهم هو ثبوت الملك من كل وجه للوارث من وقت المرض بطريق الظهور ، ومن وجه وقت الموت مقصورا عليه وهو طريق الاستناد ، وهما طريقتا مشايخنا المتقدمين .

                                                                                                                                وقال بعضهم وهو طريق المتأخرين منهم إن النكاح القائم وقت مرض الموت سبب لاستحقاق الإرث هو ثبوت حق الإرث من غير ثبوت الملك للوارث أصلا لا من كل وجه ولا من وجه .

                                                                                                                                ( وجه ) قول الشافعي أن الإرث لا يثبت إلا عند الموت ; لأن المال قبل الموت ملك المورث بدليل نفاذ تصرفاته فلا بد من وجود السبب عند الموت ، ولا سبب ههنا إلا النكاح وقد زال بالإبانة والثلاث فلا يثبت الإرث ، ولهذا لا يثبت بعد انقضاء العدة ولا يرث الزوج منها بلا خلاف ، ولو كان النكاح قائما في حق الإرث لورث ; لأن الزوجية لا تقوم بأحد الطرفين فدل أنها زائلة .

                                                                                                                                ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم والمعقول : أما الإجماع فإنه روي عن ابن سيرين أنه قال : كانوا يقولون ولا يختلفون من فر من كتاب الله تعالى رد إليه أي من طلق امرأته ثلاثا في مرضه فإنها ترثه ما دامت في العدة .

                                                                                                                                وهذا منه حكاية عن إجماع الصحابة رضي الله عنهم ومثله لا يكذب .

                                                                                                                                وكذا روي توريث امرأة الفار عن جماعة من الصحابة من غير نكير ، مثل عمر وعثمان وعلي وعائشة وأبي بن كعب رضي الله عنهم فإنه روي عن إبراهيم النخعي أنه قال : جاء عروة البارقي إلى شريح بخمس خصال من عند عمر رضي الله عنه منهن أن الرجل إذا طلق امرأته وهو مريض ثلاثا ورثت منه ما دامت في عدتها

                                                                                                                                وروي عن الشعبي أنه قال : إن أم البنين بنت عيينة بن حصن كانت تحت عثمان رضي الله عنه فلما احتضر طلقها ، وقد كان أرسل إليها بشرى فلما قتل أتت عليا رضي الله عنه فذكرت له ذلك فقال علي رضي الله عنه تركها حتى إذا أشرف على [ ص: 219 ] الموت طلقها ، فورثها .

                                                                                                                                وروي أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر الكلبية في مرضه آخر تطليقاتها الثلاث وكانت تحته أم كلثوم بنت عقبة أخت عثمان بن عفان فورثها عثمان رضي الله عنه وروي أنه قال ما أتهمه ولكن لا أريد أن تكون سنة .

                                                                                                                                وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إن المطلقة ثلاثا وهو مريض ترثه ما دامت في العدة وروي عن أبي بن كعب ترثه ما لم تتزوج فإن قيل إن ابن الزبير مخالف فإنه روي عنه أنه قال في قصة تماضر ورثها عثمان بن عفان رضي الله عنه ولو كنت أنا لم أورثها فكيف ينعقد الإجماع مع مخالفته ؟ فالجواب أن الخلاف لا يثبت بقوله هذا ; لأنه محتمل يحتمل أن يكون معنى قوله : لو كنت أنا لما ورثتها أي عندي أنها لا ترث ويحتمل أن يكون معناه أي ظهر له من الاجتهاد والصواب ما لو كنت مكانه لكان لا يظهر لي فكان تصويبا له في اجتهاده وأن الحق في اجتهاده فلا يثبت الاختلاف مع الاحتمال بل حمله على الوجه الذي فيه تحقيق الموافقة أولى ، ويحتمل أنها كانت سألت الطلاق فرأى عثمان رضي الله عنه توريثها مع سؤالها الطلاق فيرجع قوله : لو كنت أنا لما ورثتها إلى سؤالها الطلاق فلما ورثها عثمان رضي الله عنه مع مسألتها الطلاق فعند عدم السؤال أولى على أنه روي أن ابن الزبير رضي الله عنه إنما قال ذلك في ولايته وقد كان انعقد الإجماع قبله منهم على التوريث فخلافه بعد وقوع الاتفاق منهم لا يقدح في الإجماع ; لأن انقراض العصر ليس بشرط لصحة الإجماع على ما عرف في أصول الفقه .

                                                                                                                                وأما المعقول فهو أن سبب استحقاق الإرث وجد مع شرائط الاستحقاق فيستحق الإرث كما إذا طلقها طلاقا رجعيا ، ولا كلام في سبب الاستحقاق وشرائطه وإنما الكلام في وقت الاستحقاق فنقول : وقت الاستحقاق هو مرض الموت أما على التفسير الأول والثاني وهو ثبوت الملك من كل وجه أو من وجه فالدليل عليه النص وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ودلالة الإجماع والمعقول : أما النص فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة على أعمالكم } أي تصدق باستيفاء ملككم عليكم في ثلث أموالكم زيادة على أعمالكم أخبر عن منة الله تعالى على عباده أنه استبقى لهم الملك في ثلث أموالهم ليكون وسيلة إلى الزيادة في أعمالهم بالصرف إلى وجوه الخير ; لأن مثل هذا الكلام يخرج مخرج الإخبار عن المنة ، وآخر أعمارهم مرض الموت فدل على زوال ملكهم عن الثلثين إذ لو لم يزل لم يكن ليمن عليهم بالتصدق بالثلث بل بالثلثين إذ الحكيم في موضع بيان المنة لا يترك أعلى المنتين ويذكر أدناهما ، وإذا زال ملكه عن الثلثين يئول إلى ورثته ; لأنهم أقرب الناس إليه فيرضى بالزوال إليهم لرجوع معنى الملك إليه بالدعاء والصدقة وأنواع الخير بخلاف الأحاديث .

                                                                                                                                وأما إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال في مرض موته لعائشة رضي الله عنها : إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا من مالي بالعالية وإنك لم تكوني حزتيه ولا قبضتيه وإنما هو اليوم مال الوارث ولم تدع عائشة رضي الله عنها ولا أنكر عليه أحد وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فيكون إجماعا منهم على أن مال المريض في مرض موته يصير ملك الوارث من كل وجه أو من وجه .

                                                                                                                                وأما دلالة الإجماع فهي أنه لا ينفذ تبرعه فيما زاد على الثلث في حق الأجانب ، وفي حق الورثة لا ينفذ بشيء أصلا ورأسا حتى كان للورثة أن يأخذوا الموهوب من يد الموهوب له من غير رضاه إذا لم يدفع القيمة ولو نفذ لما كان لهم الأخذ من غير رضاه فدل عدم النفاذ على زوال الملك وإذا زال يزول إلى الورثة لما بينا وأما المعقول فهو أن المال الفاضل عن حاجة الميت يصرف إلى الورثة بلا خلاف والكلام فيما إذا فضل ووقع من وقت المرض الفراغ عن حوائج الميت فهذه الدلائل تدل على ثبوت الملك من كل وجه للوارث في المال الفاضل عن حوائج الميت فيدل على ثبوت الملك من وجه لا محالة .

                                                                                                                                وأما على التفسير الثالث وهو ثبوت حق الملك رأسا فلدلالة الإجماع والمعقول : أما دلالة الإجماع فهو أن ينقض تبرعه بعد الموت ولولا تعلق حق الوارث بماله في مرض موته لكان التبرع تصرفا من أهل في محل مملوك له لا حق للغير فيه فينبغي أن لا ينقض فدل حق النقض على تعلق الحق .

                                                                                                                                وأما المعقول فهو أن النكاح [ ص: 220 ] حال مرض الموت صار وسيلة إلى الإرث عند الموت ، ووسيلة حق الإنسان حقه ; لأنه ينتفع به والطلاق البائن والثلاث إبطال لهذه الوسيلة فيكون إبطالا لحقها وذلك إضرار بها فيرد عليه ، ويلحق بالعدم في حق إبطال الإرث في الحال عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم { لا ضرر ولا ضرار في الإسلام } فلم يعمل الطلاق في الحال في إبطال سببية النكاح لاستحقاق الإرث وكونه وسيلة إليه دفعا للضرر عنها وتأخر عمله فيه إلى ما بعد انقضاء العدة ، وكذلك إذا أبانها بغير طلاق بخيار البلوغ بأن اختار نفسه ، وتقبيل ابنتها أو أمها وردته أن ذلك إن كان في الصحة لا ترث هي منه ولا هو منها بالإجماع كما لو أبانها بالطلاق لانعدام سبب الاستحقاق في وقت الاستحقاق وهو مرض الموت إلا في الردة بأن ارتد الزوج في حال صحته فمات على الردة أو قتل أو لحق بدار الحرب وهي في العدة فإنها ترث منه ; لأن الردة من الزوج في معنى مرض الموت لما نذكر إن شاء الله تعالى وإن كانت هذه الأسباب في حال المرض فهو على الاختلاف الذي ذكرنا في الطلاق أنها ترث منه عندنا خلافا للشافعي ولا يرث هو منها بالإجماع .

                                                                                                                                ولو جامعها ابنه مكرهة أو مطاوعة لا ترث ، أما إذا كانت مطاوعة فلأنها رضيت بإبطال حقها وإن كانت مكرهة فلم يوجد من الزوج إبطال حقها المتعلق بالإرث لوقوع الفرقة بفعل غيره ، وإن كانت البيونة من قبل المرأة كما إذا قبلت ابن زوجها أو أباه بشهوة طائعة أو مكرهة أو اختارت نفسها في خيار الإدراك أو العتاق أو عدم الكفاءة فإن كان ذلك في حال الصحة فإنهما لا يتوارثان بالإجماع كما إذا كانت البيونة من قبل الزوج ، وكذا إذا ارتدت بخلاف ردة الزوج في حال صحته .

                                                                                                                                ووجه الفرق أن ردة الزوج في معنى مرض موته ; لأنها تفضي إلى الموت إلا أن احتمال الصحة باحتمال الإسلام قائم فإذا قتل على الردة أو مات عليها فقد زال الاحتمال ، وكذا إذا ألحق بدار الحرب ; لأن الظاهر أنه لا يعود فتقرر المرض فتبين أن سبب الاستحقاق كان ثابتا في وقت الاستحقاق وهو مرض الموت وأن سبب الفرقة وجد في مرض الموت فترث منه كما لو كان مريضا حقيقة فأما ردتها فليست في معنى مرض موتها ليقال ينبغي أن يرث الزوج منها وإن كانت هي لا ترث منه ; لأنها لا تفضي إلى الموت ; لأنها لا تقتل عندنا فلم يكن النكاح القائم حال ردتها سببا لاستحقاق الإرث في حقه لانعدامه وقت الاستحقاق وهو مرض الموت لذلك افترقا ، والله عز وجل أعلم .

                                                                                                                                وإن كان في حال المرض فإن كان في حال مرض الزوج لا ترث منه وإن كانت في العدة لعدم شرط الإرث وهو عدم رضاها بسبب الفرقة ولحصول الفرقة بفعل غير الزوج ، ويرث الزوج منها إن كان سبب الفرقة منها في مرضها وماتت قبل انقضاء عدتها لوجوب سبب الاستحقاق في حقه وهو النكاح في وقت الاستحقاق وهو مرض موتها ولوجود سبب إبطال حقه منها في حال المرض ، والقياس فيما إذا ارتدت في مرضها ثم ماتت في العدة أن لا يرثها زوجها وإنما يرثها استحسانا .

                                                                                                                                وجه القياس أن الفرقة لم تقع بفعلها ; لأن فعلها الردة والفرقة لا تقع بها وإنما تقع باختلاف الدينين ولا صنيع لها في ذلك فلم يوجد منها في مرضها إبطال حق الزوج ليرد عليها فلا يرث منها .

                                                                                                                                وجه الاستحسان ما ذكرنا ولسنا نسلم أن الفرقة لم تقع بفعلها فإن الردة من أسباب الفرقة وقد حصلت منها في حال تعلق حقه بالإرث وهو مرض موتها فيرث منها والله عز وجل أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية