الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما الذي يرجع إلى المنفق خاصة فيساره في قرابة غير الولاد من الرحم المحرم فلا يجب على غير الموسر في هذه القرابة نفقة وإن كان قادرا على الكسب ; لأن وجوب هذه النفقة من طريق الصلة والصلات تجب على الأغنياء لا على الفقراء وإذا كان يسار المنفق شرط وجوب النفقة عليه في قرابة ذي الرحم ; فلا بد من معرفة حد اليسار الذي يتعلق به وجوب هذه النفقة .

                                                                                                                                روي عن أبي يوسف فيه أنه اعتبر نصاب الزكاة قال : ابن سماعة قال في نوادره : سمعت أبا يوسف قال : لا أجبر على نفقة ذي الرحم المحرم من لم يكن معه ما تجب فيه الزكاة ، ولو كان معه مائتا درهم إلا درهما وليس له عيال وله أخت محتاجة لم أجبره على نفقتها وإن كان يعمل بيده ويكتسب في الشهر خمسين درهما .

                                                                                                                                وروى هشام عن محمد أنه قال : إذا كان له نفقة شهر وعنده فضل عن نفقة شهر له ولعياله ; أجبره على نفقة ذي الرحم المحرم قال محمد : وأما من لا شيء له وهو يكتسب كل يوم درهما يكتفي منه بأربعة دوانيق فإنه يرفع لنفسه ولعياله ما يتسع به وينفق فضله على من يجبر على نفقته ، وجه رواية هشام عن محمد أن من كان عنده كفاية شهر فما زاد عليها فهو غني عنه في الحال والشهر يتسع للاكتساب ; فكان عليه صرف الزيادة إلى أقاربه ، وجه قول أبي يوسف أن نفقة ذي الرحم صلة والصلات إنما تجب على الأغنياء كالصدقة وحد الغنى في الشريعة ما تجب فيه الزكاة وما قاله محمد أوفق وهو أنه إذا كان له كسب دائم وهو غير محتاج إلى جميعه فما زاد على كفايته يجب صرفه إلى أقاربه كفضل ماله إذا كان له مال ولا يعتبر النصاب ; لأن النصاب إنما يعتبر في وجوب حقوق الله تعالى المالية والنفقة حق العبد فلا معنى للاعتبار بالنصاب فيها وإنما يعتبر فيها إمكان الأداء ، ولو طلب الفقير العاجز عن الكسب من ذي الرحم المحرم منه نفقة فقال : أنا فقير وادعى هو أنه غني فالقول قول المطلوب ; لأن الأصل هو الفقر والغنى عارض فكان الظاهر شاهدا له فمحمد يحتاج إلى الفرق بينه وبين نفقة الزوجات والفرق له أن الإقدام على النكاح دليل القدرة فبطلت شهادة الظاهر .

                                                                                                                                وأما قرابة الولاد فينظر إن كان المنفق هو الأب ; فلا يشترط يساره لوجوب النفقة عليه بل قدرته على الكسب كافية حتى تجب عليه النفقة على أولاده الصغار والكبار الذكور الزمنى الفقراء والإناث الفقيرات وإن كن صحيحات وإن كان معسرا بعد أن كان قادرا على الكسب ; لأن الإنفاق عليهم عند حاجتهم وعجزهم عن الكسب إحياؤهم وإحياؤهم إحياء نفسه ; لقيام الجزئية والعصبية وإحياء نفسه واجب ، ولو كان لهم جد موسر لم يفرض النفقة على الجد ولكن يؤمر [ ص: 36 ] الجد بالإنفاق عليهم عند حاجتهم ثم يرجع به على ابنه ; لأن النفقة لا تجب على الجد مع وجود الأب إذا كان الأب قادرا على الكسب .

                                                                                                                                ألا ترى أنه لا يجب عليه نفقة ابنه فنفقة أولاده أولى وإن لم يكن الأب قادرا على الكسب بأن كان زمنا قضي بنفقتهم على الجد ; لأن عليه نفقة أبيهم فكذا نفقتهم .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه قال في صغير له والد محتاج وهو زمن فرضت نفقته على قرابته من قبل أبيه دون قرابته من قبل أمه كل من أجبرته على نفقة الأب أجبرته على نفقة الغلام إذا كان زمنا ; لأن الأب إذا كان زمنا كانت نفقته على قرابته فكذا نفقة ولده ; لأنه جزؤه قال : فإن لم يكن له قرابة من قبل أبيه قضيت بنفقته على أبيه وأمرت الخال أن ينفق عليه ويكون ذلك دينا على الأب ، ووجه الفرق بين قرابة الأب وقرابة الأم أن قرابة الأب تجب عليهم نفقة الأب إذا كان زمنا فكذا نفقة ولده الصغير فأما قرابة الأم فلا يجب عليهم نفقة الأب ولا نفقة الولد ; لأن الأب لا يشاركه أحد في نفقة ولده وإن كان المنفق هو الابن وهو معسر مكتسب ينظر في كسبه فإن كان فيه فضل عن قوته يجبر على الإنفاق على الأب من الفضل ; لأنه قادر على إحيائه من غير خلل يرجع إليه وإن كان لا يفضل من كسبه شيء يؤمر فيما بينه وبين الله عز وجل أن يواسي أباه ; إذ لا يحسن أن يترك أباه ضائعا جائعا يتكفف الناس وله كسب وهل يجبر على أن ينفق عليه وتفرض عليه النفقة إذا طلب الأب الفرض أو يدخل عليه في النفقة إذا طلب الأب ذلك قال عامة الفقهاء : إنه لا يجبر على ذلك وقال بعضهم : يجبر عليه واحتجوا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لو أصاب الناس السنة لأدخلت على أهل كل بيت مثلهم فإن الناس لم يهلكوا على أنصاف بطونهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم { طعام الواحد يكفي الاثنين } وجه قول العامة أن الجبر على الإنفاق والإشراك في نفقة الولد المعسر يؤدي إلى إعجازه عن الكسب ; لأن الكسب لا يقوم إلا بكمال القوة وكمال القوة بكمال الغذاء فلو جعلناه نصفين ; لم يقدر على الكسب وفيه خوف هلاكهما جميعا ، وذكر في الكتاب : أرأيت لو كان الابن يأكل من طعام رجل غني يعطيه كل يوم رغيفا أو رغيفين أيؤمر الابن أن يعطي أحدهما أباه ؟ قال : لا يؤمر به ، ولو قال الأب للقاضي : إن ابني هذا يقدر على أن يكتسب ما يفضل عن كسبه مما ينفق علي لكنه يدع الكسب عمدا يقصد بذلك عقوقي ; ينظر القاضي في ذلك : فإن كان الأب صادقا في مقالته أمر الابن بأن يكتسب فينفق على أبيه ، وإن لم يكن صادقا بأن علم أنه غير قادر على اكتساب زيادة ; تركه ، هذا إذا كان الولد واحدا .

                                                                                                                                فإن كان له أولاد صغار وزوجة ولا يفضل من كسبه شيء ينفق على أبيه فطلب الأب من القاضي أن يدخله في النفقة على عياله يدخله القاضي ههنا ; لأن إدخال الواحد على الجماعة لا يخل بطعامهم خللا بينا بخلاف إدخال الواحد على الواحد هذا إذا لم يكن الأب عاجزا عن الكسب فأما إذا كان عاجزا عنه بأن كان زمنا يشارك الابن في قوته ويدخل عليه فيأكل معه وإن لم يكن له عيال ; لأنه ليس في المشاركة خوف الهلاك وفي ترك المشاركة خوف هلاك الأب فتجب المشاركة وكذلك الأم إذا كانت فقيرة تدخل على ابنها فتأكل معه لكن لا يفرض لهما عليه نفقة على حدة ، والله عز وجل أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية