الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ومنها أن يكون معلوم النوع والقدر وسواء كان معلوم الصفة أو لا ، وهو من شرائط الانعقاد ، فإن كان مجهول القدر أو مجهول النوع لم ينعقد .

                                                                                                                                وإن كان معلوم النوع والقدر مجهول الصفة جازت المكاتبة ، والأصل أن الجهالة متى فحشت منعت جواز المكاتبة ، وإلا فلا ، وجهالة النوع والقدر جهالة فاحشة ، وجهالة الصفة غير فاحشة ، فإنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه أجاز المكاتبة على الوصفاء بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فيكون إجماعا على الجواز .

                                                                                                                                والإجماع على الجواز إجماع على سقوط اعتبار هذا النوع من الجهالة في باب الكتابة ، وبيان هذا الأصل في مسائل : إذا كاتب عبده على ثوب أو دابة أو حيوان أو دار لم تنعقد حتى لا يعتق ، وإن أدى ; لأن الثوب والدار والحيوان مجهول النوع لاختلاف أنواع كل جنس وأشخاصه اختلافا متفاحشا ، وكذا الدور تجري مجرى الأجناس المختلفة لتفاحش التفاوت بين دار ودار في الهيئة والتقطيع وفي القيمة باختلاف المواضع من البلدان والمحال والسكك ، ولهذا منعت هذه الجهالة صحة التسمية والإعتاق على مال والنكاح والخلع والصلح عن دم العمد فصارت هذه الأشياء لكثرة التفاوت في أنواعها وأشخاصها بمنزلة الأجناس المختلفة ، فيصير كأنه كاتبه على ثوب أو دابة أو حيوان أو دار فأدى طعاما ، ولو كان كذلك لا يعتق ، وإن أدى أعلى الثياب والدواب والدور بخلاف ما إذا كاتبه على قيمة فأدى القيمة أنه يعتق ; لأن التفاوت بين القيمتين لا يلحقهما بجنسين فكانت جهالة القيمة مفسدة للعقد لا مبطلة له ، وإن كاتبه على ثوب هروي أو عبد أو جارية أو فرس جازت المكاتبة ; لأن الجهالة ههنا جهالة الوصف ، أنه جيد أو رديء أو وسط ، وأنها لا تمنع صحة التسمية كما في النكاح والخلع ، والأصل أن الحيوان يثبت دينا في الذمة في مبادلة المال بغير المال كما في النكاح ونحوه ، فتصح التسمية ويقع على الوسط كما في باب الزكاة والدية والنكاح ، وكذا لو كاتبه على وصيف يجوز ، ويقع على الوسط ، ولو جاء العبد بقيمة الوسط في هذه المواضع يجبر المولى على القبول كما في النكاح والخلع ونحوهما ، ولو كاتبه على لؤلؤة أو ياقوتة لم ينعقد ; لأن الجهالة متفاحشة ، ولو كاتبه على كر حنطة أو ما أشبه ذلك من المكيل والموزون ولم يصف يجوز وعليه الوسط من جنسه ; لأنه ثبت دينا في الذمة في مبادلة المال بالمال إذا كان موصوفا ، ويثبت في مبادلة ما ليس بمال بمال وإن لم يكن موصوفا كالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد والإعتاق على مال ، والمكاتبة معاوضة ما ليس بمال بمال في جانب المولى فتجوز المكاتبة عليه ، ويجب الوسط ، ولو كاتبه على حكمه أو على حكم نفسه لم تنعقد ; لأن الجهالة ههنا أفحش من جهالة النوع والقدر ; لأن البدل هناك مسمى ، ولا تسمية للبدل ههنا رأسا فكانت الجهالة أكثر ، وإلى هذا أشار في الأصل فقال : أرأيت لو حكم المولى عليه بملء الأرض ذهبا كان يلزمه ؟ أو حكم العبد على نفسه بفلس هل كان يعتق ؟ فلم ينعقد العقد أصلا فلا يعتق بالحكم ، وإن كاتب على ألف درهم إلى العطاء أو إلى الدياس أو إلى الحصاد أو نحو ذلك مما يعرف من الأجل جاز استحسانا ، والقياس أن لا يجوز ; لأن الأجل مجهول وجهالة الأجل تبطل البيع فتبطل المكاتبة ، وجه الاستحسان أن الجهالة لم تدخل في صلب العقد ; لأنها لا ترجع إلى البدل وإنما دخلت في أمر زائد ، ثم هي غير متفاحشة فلا توجب فساد المكاتبة كجهالة الوصف بخلاف البيع إلى هذه الأوقات ، أنه يفسد ; لأن الجهالة لا توجب فساد العقد لذاتها بل لإفضائها إلى المنازعة ، والمنازعة قلما تجري في هذا القدر في المكاتبة ; لأن مبناها على المسامحة ، [ ص: 139 ] بخلاف البيع فإن مبناه على المماكسة فيفضي إلى المنازعة ، ولهذا جازت الكفالة إلى هذه الأوقات ، ولم يجز تأجيل الثمن إليها في البيع ، بخلاف المكاتبة إلى مجيء المطر وهبوب الريح ; لأنه ليس لذلك وقت معلوم ففحشت الجهالة .

                                                                                                                                فإن كاتبه إلى العطاء فأخر العطاء فإن الأجل يحل في مثل الوقت الذي كان يخرج فيه العطاء ; لأن المراد به العرف والعادة وقت العطاء لا عين العطاء ، وكذا في الحصاد والدياس ، ولو كاتبه على قيمته فالمكاتبة فاسدة ; لأن القيمة تختلف بتقويم المقومين فكان البدل مجهول القدر ، وإنه مجهول جهالة فاحشة ، ولهذا منعت صحة التسمية في باب النكاح حتى عدل إلى مهر المثل فتمنع صحة المكاتبة بل أولى ; لأن النكاح يجوز بدون تسمية البدل ولا جواز للمكاتبة من غير تسمية البدل ، فلما لم تصح تسمية القيمة هناك فلأن لا تصح ههنا أولى ، ولأن جهالة القيمة موجب للعقد الفاسد فكان ذكرها نصا على الفساد ، بخلاف ما إذا كاتبه على عبد ; لأن جهالة العبد جهالة الوصف ، أي جيد أو رديء أو وسط ، فعند الإطلاق يقع على الوسط والوسط معلوم عندهم ، ألا ترى أن أبا حنيفة جعل قيمة الوسط أربعين دينارا .

                                                                                                                                فأما المكاتبة على القيمة فليست بمكاتبة على بدل معلوم عند الناس عند إطلاق الاسم ، فصار كما لو كاتبه على ألف أو على ألفين .

                                                                                                                                غير أنه إذا أدى القيمة عتق ; لأن العقد الفاسد له حكم في الجملة عندنا كالبيع الفاسد إذا اتصل به القبض ، والنكاح الفاسد إذا اتصل به الدخول ، حتى يثبت الملك في البيع ، وتجب العدة والعقر ويثبت النسب في النكاح ، وكذا المكاتبة الفاسدة ، ولو قال كاتبتك على دراهم فالمكاتبة باطلة ولو أدى ثلاثة دراهم لا يعتق ; لأن البدل مجهول جهالة متفاحشة وليس للدراهم وسط معلوم حتى يقع عليه الاسم بخلاف ما إذا قال أعتقتك على دراهم فقبل العبد عتق وتلزمه قيمة نفسه ; لأن العتق هناك وقع بالقبول ، والجهالة متفاحشة فلزمه قيمة نفسه ، ولو كاتبه على أن يخدمه شهرا فهو جائز استحسانا ، والقياس أن لا يجوز ، وجه القياس أن الخدمة مجهولة ; لأنها مختلفة ولا يدري في أي شيء يستخدمه وأنه يستخدمه في الحضر أو في السفر ، وجهالة البدل تمنع صحة الكتابة ، وجه الاستحسان أن الخدمة المطلقة تنصرف إلى الخدمة المعهودة فتصير معلومة بالعادة ، وبحال المولى أنه في أي شيء يستخدمه وبحال العبد أنه لأي شيء يصلح فصار كما لو عينها نصا ، ولهذا جازت الإجارة على هذا الوجه فالمكاتبة أولى ; لأنها أقبل للجهالة من الإجارة ولو كاتبه على أن يخدم رجلا شهرا فهو جائز في القياس ، كذا ذكره في الأصل ولم يرد به قياس الأصل ; لأن ذلك يقتضي أن لا يجوز لما ذكرنا وإنما أراد به القياس على الاستحسان الذي ذكرنا ويجوز القياس على موضع الاستحسان ، إذا كان الحكم في الاستحسان معقول المعنى كقياس الجماع ناسيا على قياس الأكل والشرب ناسيا ، ولأن المنافع أموال في العقود ، وأنها تصير معلومة بذكر المدة ، فلا فرق بين أن يستأجر رجلا ليخدمه أو ليخدم غيره ، وكذلك لو كاتبه على أن يحفر بئرا قد سمى له طولها وعمقها ومكانها ، أو على أن يبني له دارا آجرها وجصها وما يبني بها ; لأنه كاتبه على بدل معلوم ، ألا ترى أن الإجارة عليه جائزة ؟ فالكتابة أولى ، ولو كاتبه على أن يخدمه ولم يذكر الوقت فالكتابة فاسدة ; لأن البدل مجهول .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية