الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وإذا كان الجنس أحد ، وصفي علة ربا الفضل ، وعلة ربا النسيئة عندنا ، وشرط علة ربا الفضل عنده فلا بد من معرفة الجنس من كل ما يجري فيه الربا فنقول - وبالله التوفيق - : الحنطة كلها على اختلاف أنواعها ، وأوصافها ، وبلدانها أنها جنس واحد ، وكذلك الشعير ، وكذلك دقيقهما ، وكذا سويقهما ، وكذلك التمر ، وكذلك الملح ، وكذلك العنب ، وكذلك الزبيب ، وكذلك الذهب ، والفضة فلا يجوز بيع كل مكيل من ذلك بجنسه متفاضلا في الكيل ، وإن تساويا في النوع ، والصفة بلا خلاف ، وأما متساويا في الكيل متفاضلا في النوع والصفة فنقول : لا خلاف في أنه يجوز بيع الحنطة بالحنطة السقية بالسقية والنحسية بالنحسية ، وإحداهما بالأخرى ، والجيدة بالجيدة ، والرديئة بالرديئة وإحداهما بالأخرى ، والجديدة بالجديدة ، والعتيقة بالعتيقة وإحداهما بالأخرى ، والمقلوة بالمقلوة .

                                                                                                                                وكذلك الشعير على هذا ، وكذلك دقيق الحنطة ، ودقيق الشعير فيجوز بيع دقيق الحنطة بدقيق الحنطة ، وسويق الحنطة بسويق الحنطة ، وكذا دقيق الشعير ، وسويقه ، وكذا التمر بالتمر البرني بالمعقلي ، والجيد بالرديء ، والجديد بالجديد ، والعتيق بالعتيق ، وأحدهما بالآخر ، وكذلك العنب بالعنب ، والزبيب اليابس بالزبيب اليابس ، ولا خلاف في أنه لا يجوز بيع حنطة مقلية بحنطة غير مقلية ، والمطبوخة بغير مطبوخة .

                                                                                                                                وبيع [ ص: 188 ] الحنطة بدقيق الحنطة ، وبسويق الحنطة ، وبيع تمر مطبوخ بتمر غير مطبوخ متفاضلا في الكيل ، أو متساويا فيه ; لأن المقلية ينضم بعض أجزائها إلى بعض يعرف ذلك بالتجربة ; فيتحقق الفضل من حيث القدر في الكيل فيتحقق الربا ، وكذا المطبوخة بغير المطبوخة ; لأن المطبوخ ينتفخ بالطبخ فكان غير المطبوخة أكثر قدرا عند العقد فيتحقق الفضل ، وكذلك بيع الحنطة بدقيق الحنطة ; لأن في الحنطة دقيقا إلا أنه مجتمع ; لوجود المانع من التفرق ، وهو التركيب ، وذلك أكثر من الدقيق المتفرق عرف ذلك بالتجربة إلا أن الحنطة إذا طحنت ازداد دقيقها على المتفرق .

                                                                                                                                ومعلوم أن الطحن لا أثر له في زيادة القدر فدل أنه كان أزيد في الحنطة ; فيتحقق الفضل من حيث القدر بالتجربة عند العقد فيتحقق الربا .

                                                                                                                                وأما بيع الحنطة المبلولة بالمبلولة ، أو الندية بالندية ، أو الرطبة بالرطبة ، أو المبلولة ، أو اليابسة باليابسة ، وبيع التمر بالرطب ، والرطب بالرطب ، أو بالتمر ، والمنقع بالمنقع ، والعنب بالزبيب اليابس ، واليابس بالمنقع ، والمنقع بالمنقع متساويا في الكيل فهل يجوز ؟ قال أبو حنيفة رحمه الله : كل ذلك جائز ، وقال أبو يوسف رحمه الله : كله جائز إلا بيع التمر بالرطب ، وقال محمد رحمه الله : كله فاسد إلا بيع الرطب بالرطب ، والعنب بالعنب ، وقال الشافعي رحمه الله : كله باطل .

                                                                                                                                ويجوز بيع الكفرى بالتمر ، والرطب بالبسر متساويا ، ومتفاضلا بالإجماع ; لعدم الجنس ، والكيل إذ هو اسم لوعاء الطلع فأبو حنيفة رحمه الله يعتبر المساواة في الحال عند العقد ، ولا يلتفت إلى النقصان في المآل ، ومحمد رحمه الله يعتبرها حالا ومآلا ، واعتبار أبي يوسف مثل اعتبار أبي حنيفة إلا في الرطب بالتمر فإنه يفسده بالنص ، وأصل الشافعي رحمه الله ما ذكرنا في مسألة علة الربا أن حرمة بيع المطعوم بجنسه هي الأصل ، والتساوي في المعيار الشرعي مع اليد مخلص إلا أنه يعتبر التساوي ههنا في المعيار الشرعي في أعدل الأحوال ، وهي حالة الجفاف ، واحتج أبو يوسف ، ومحمد بما روي عن سعد بن أبي ، وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع الرطب بالتمر ، وقال عليه الصلاة والسلام إنه ينقص إذا جف } بين عليه الصلاة والسلام الحكم ، وعلته ، وهي النقصان عند الجفاف فمحمد عدى هذا الحكم إلى حيث تعدت العلة ، وأبو يوسف قصره على محل النص ; لكونه حكما ثبت على خلاف القياس ، ولأبي حنيفة رحمه الله الكتاب الكريم ، والسنة المشهورة أما الكتاب : فعمومات البيع من نحو قوله تعالى { ، وأحل الله البيع } ، وقوله - عز شأنه - { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } فظاهر النصوص يقتضي جواز كل بيع إلا ما خص بدليل ، وقد خص البيع متفاضلا على المعيار الشرعي ; فبقي البيع متساويا على ظاهر العموم وأما السنة المشهورة فحديث أبي سعيد الخدري ، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما حيث { جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع الحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر مثلا بمثل } عاما مطلقا من غير تخصيص ، وتقييد ، ولا شك أن اسم الحنطة ، والشعير يقع على كل جنس الحنطة ، والشعير على اختلاف أنواعهما وأوصافهما ، وكذلك اسم التمر يقع على الرطب ، والبسر ; لأنه اسم لتمر النخل لغة فيدخل فيه الرطب ، واليابس ، والمذنب والبسر ، والمنقع .

                                                                                                                                وروي أن { عامل خيبر أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرا جنيبا فقال عليه الصلاة والسلام أوكل تمر خيبر هكذا ؟ وكان أهدى إليه رطبا } فقد أطلق عليه الصلاة والسلام اسم التمر على الرطب .

                                                                                                                                وروي أنه { نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع التمر حتى يزهو أي : يحمر ، أو يصفر ، وروي حتى يحمار ، أو يصفار } ، والاحمرار ، والاصفرار من ، أوصاف البسر فقد أطلق عليه الصلاة والسلام اسم التمر على البسر فيدخل تحت النص .

                                                                                                                                وأما الحديث فمداره على زيد بن عياش ، وهو ضعيف عند النقلة فلا يقبل في معارضة الكتاب والسنة المشهورة ; ولهذا لم يقبله أبو حنيفة رحمه الله في المناظرة في معارضة الحديث المشهور مع أنه كان من صيارفة الحديث ، وكان من مذهبه تقديم الخبر ، وإن كان في حد الآحاد على القياس بعد أن كان راويه عدلا ظاهر العدالة ، أو بأدلة فيحمله على بيع الرطب بالتمر نسيئة ، أو تمرا من مال اليتيم توفيقا بين الدلائل صيانة لها عن التناقض ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم وكذلك الذهب ، والفضة لا يجوز بيع كل بجنسه متفاضلا في الوزن سواء اتفقا في النوع ، والصفة بأن كانا مضروبين دراهم ، أو دنانير ، أو مصوغين ، أو تبرين جيدين ، أو رديئين ، أو اختلفا للحديث المشهور { مثلا بمثل ، والفضل [ ص: 189 ] ربا } .

                                                                                                                                وأما متساويا في الوزن متفاضلا في النوع ، والصفة كالمصوغ بالتبر ، والجيد بالرديء فيجوز عندنا ، وقال الشافعي رحمه الله : لا يجوز بيع الجيد بالرديء ، واحتج بالحديث المشهور مثلا بمثل ، ولا مماثلة بين الجيد ، والرديء في القيمة .

                                                                                                                                وأما الحديث المشهور مثلا بمثل فالمراد منه المماثلة في الوزن ، وكذا روي في بعض الروايات { وزنا بوزن } ، وقوله عليه الصلاة والسلام { جيدها ، ورديئها سواء } ، وبه تبين أن الجودة عند المقابلة بجنسها لا قيمة لها شرعا فلا يظهر الفضل .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية