الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) الحيوان مع اللحم فإن اختلف الأصلان فهما جنسان مختلفان كالشاة الحية مع لحم الإبل ، والبقر فيجوز بيع البعض بالبعض مجازفة نقدا ، ونسيئة ; لانعدام الوزن ، والجنس فلا يتحقق الربا أصلا ، وإن اتفقا كالشاة الحية مع لحم الشاة ، من مشايخنا من اعتبرهما جنسين مختلفين ، وبنوا عليه جواز بيع لحم الشاة بالشاة الحية مجازفة عند أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وعللوا لهما بأنه باع الجنس بخلاف الجنس .

                                                                                                                                ( ومنهم ) من اعتبرهما جنسا واحدا ، وبنوا مذهبهما على أن الشاة ليست بموزونة ، وجريان ربا الفضل يعتمد اجتماع الوصفين : الجنس مع القدر فيجوز بيع أحدهما بالآخر مجازفة ، ومفاضلة بعد أن يكون يدا بيد ، وهو الصحيح على ما عرف في الخلافيات ، وقال محمد : لا يجوز إلا على ، وجه الاعتبار على أن يكون وزن اللحم الخالص أكثر من اللحم الذي في الشاة الحية بالحزر والظن فيكون اللحم بإزاء اللحم ، والزيادة بإزاء خلاف الجنس من الأطراف ، والسقط من الرأس ، والأكارع ، والجلد ، والشحم فإن كان اللحم الخالص مثل قدر اللحم الذي في الشاة الحية ، أو أقل ، أو لا يدرى لا يجوز .

                                                                                                                                وعلى هذا الخلاف إذا باع الشاة الحية بشحم الشاة ، أو بأليتها ، وهذا مذهب أصحابنا ، وقال الشافعي رحمه الله : اللحوم كلها جنس واحد فلا يجوز بيع اللحم بالحيوان كيف ما كان سواء اتفق الأصلان ، أو اختلفا باع مجازفة ، أو على طريق الاعتبار ، وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الشاة بلحم الشاة نسيئة لوجود الجنس المحرم للنساء ; لأن اللحم الخالص من جنس اللحم الذي في الشاة [ ص: 190 ]

                                                                                                                                وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع دهن السمسم بالسمسم إلا على طريق الاعتبار ، وهو أن يكون الدهن الخالص أكثر من الدهن الذي في السمسم حتى يكون الدهن بإزاء الدهن والزائد بإزاء الزائد خلاف جنسه وهو الكسب ، وكذلك دهن الجوز بلب الجوز .

                                                                                                                                ( وأما ) دهن الجوز بالجوز فقد اختلف المشايخ فيه ، قال بعضهم : يجوز مجازفة ، وقال بعضهم : لا يجوز إلا على طريق الاعتبار ، وأجمعوا على أن بيع النصال بالحديد غير المصنوع جائز مجازفة بعد أن يكون يدا بيد ، أما الكلام مع الشافعي رحمه الله فهو بنى مذهبه على أصل له ذكرناه غير مرة ، وهو أن حرمة بيع مأكول بجنسه هو العزيمة ، والجواز عند التساوي في المعيار الشرعي رخصة ، ولا يعرف التساوي بين اللحم الخالص وبين اللحم الذي في الشاة فيبقى على أصل الحرمة ، وقد أبطلنا هذا الأصل في علة الربا .

                                                                                                                                ( وأما ) الكلام مع أصحابنا ( فوجه ) قول محمد رحمه الله أن في تجويز المجازفة ههنا احتمال الربا ; فوجب التحرز عنه ما أمكن ، وأمكن بمراعاة طريق الاعتبار فلزم مراعاته قياسا على بيع الدهن بالسمسم ، والدليل على أن فيه الربا أن اللحم موزون ، فيحتمل أن يكون اللحم المنزوع أقل من اللحم الذي في الشاة وزنا ، فيكون شيء من اللحم مع السقط زيادة ، ويحتمل أن يكون مثله في الوزن فيكون السقط زيادة فوجب مراعاة طريق الاعتبار تحرزا عن الربا عند الإمكان ، ولهذا لم يجز بيع الدهن بالسمسم ، والزيت بالزيتون إلا على طريق الاعتبار كذا هذا ، ولهذا قلنا : إن هذا بيع الموزون بما ليس بموزون يدا بيد فيجوز مجازفة ومفاضلة ، استدلالا ببيع الحديد الغير المصنوع بالنصال مجازفة ، يدا بيد ، ودلالة الوصف أن اللحم المنزوع وإن كان موزونا - فاللحم الذي في الشاة ليس بموزون ; لأن الموزون ما له طريق إلى معرفة مقدار ثقله ، ولا طريق إلى معرفة ثقل اللحم الذي في الشاة ; لأن الطريق إما أن يكون الوزن بالقبان ، وإما أن يكون الاستدلال بالتجربة ، وإما أن يكون بالحزر والتخمين من غير تفاوت فاحش ، وشيء من ذلك لا يصلح طريقا لمعرفة مقدار اللحم الذي في الشاة .

                                                                                                                                ( أما ) الوزن بالقبان فلأن الشاة لا توزن بالقبان عرفا ولا عادة ، ولو صلح الوزن طريقا لوزن ; لأن إمكان الوزن ثابت ، والحاجة إلى معرفة مقدار اللحم الذي فيها ماسة حتى يتعرف المشتري ذلك بالجس والمس باليد ، والرفع من الأرض ونحو ذلك ، ولأن الحي يثقل بنفسه مرة ويخف أخرى فيختلف وزنه ، فدل أن الوزن لا يصلح طريق المعرفة .

                                                                                                                                ( وأما ) التجربة فإن ذلك بالذبح ، ووزن المذبوح ليعرف اللحم الذي كان فيها عند العقد بطريق الظهور - لا يمكن ; لأن الشاة تحتمل الزيادة والنقصان والسمن والهزال ساعة فساعة ، فلا يعرف به مقدار ثقله حالة العقد بالتجربة .

                                                                                                                                ( وأما ) الحزر والظن فإنه لا حزر لمن لا بصارة له في هذا الباب ، بل يخطئ لا محالة ، ومن له بصارة يغلط أيضا ظاهرا وغالبا ، ويظهر تفاوت فاحش ، فدل أنه لا طريق لمعرفة اللحم الذي في الشاة الحية ، فلم يكن موزونا ، فلا يكون محلا لربا الفضل ، بخلاف بيع دهن السمسم بالسمسم ; لأن ذلك بيع الموزون بالموزون ; لأنه يمكن معرفة مقدار الدهن في السمسم بالتجربة ، بأن يوزن قدر من السمسم فيستخرج دهنه فيظهر وزن دهنه الذي في الجملة بالقياس عليه ، أو يعصر الجملة فيظهر قدر الدهن الذي كان فيها حالة العقد ، أو يعرف بالحزر والتخمين أنه كم يخرج من الدهن من هذا القدر من غير تفاوت فاحش يلحق الضرر بأحد العاقدين ؟ فكان ذلك بيع الموزون بالموزون مجازفة ، فلم يجز لاحتمال الربا والله سبحانه وتعالى أعلم ولو باع شاة مذبوحة غير مسلوخة بلحم شاة - لا يجوز إلا على طريق الاعتبار بالإجماع ; لأن اللحم الذي في الشاة المذبوحة موزون ، فقد باع الموزون بجنسه وبخلاف جنسه ، فيراعى فيه طريق الاعتبار ، بخلاف اللحم الذي في الشاة الحية فإنه غير موزون لما قلنا ، فلم يتحقق الربا ، فجازت المجازفة فيه ولو باع شاة حية بشاة مذبوحة غير مسلوخة مجازفة جاز بالإجماع ، أما عندهما فظاهر ; لأنه باع الموزون بما ليس بموزون فلا يتحقق الربا ، كما لو باع شاة حية بلحم الشاة وأما عند محمد فلأن اللحم يقابل اللحم ، وزيادة اللحم في إحداهما مع سقطها يكون بمقابلة سقط الأخرى ، فلا يتحقق الربا وكذلك لو باع شاتين حيتين بشاة واحدة مذبوحة غير مسلوخة جاز بالإجماع على اختلاف الأصلين ولو باع شاتين مذبوحتين غير مسلوختين بشاة واحدة مذبوحة غير مسلوخة يجوز ويكون اللحم بمقابلة اللحم ، وزيادة اللحم في أحد الجانبين مع السقط يكون بمقابلة سقط [ ص: 191 ] الأخرى ولو باع شاتين مذبوحتين بشاة واحدة مذبوحة غير مسلوخة يجوز ، ويقابل اللحم باللحم ، ومقابلة اللحم من المسلوختين بمقابلة سقط الأخرى ولو باع شاتين مذبوحتين غير مسلوختين بشاة مذبوحة مسلوخة لا يجوز ; لأن زيادة اللحم من غير المسلوختين مع السقط لا يقابله عوض فيكون ربا ولو باع شاتين مسلوختين بشاة مسلوخة لا يجوز ; لأنهما مالان جمعهما الوزن فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر مفاضلة ومجازفة ، حتى لو كانا مستويين في الوزن يجوز يدا بيد .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية