الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) التوكيل بحقوق العباد فنقول - وبالله التوفيق : حقوق العباد على نوعين ، نوع لا يجوز استيفاؤه مع الشبهة ، كالقصاص ، وقد مر حكم التوكيل بإثباته واستيفائه ، ونوع يجوز استيفاؤه وأخذه مع الشبهة ، كالديون والإعتاق ، وسائر الحقوق سوى القصاص ، فنقول : لا خلاف أنه يجوز التوكيل بالخصومة في إثبات الدين ، والعين ، وسائر الحقوق ، برضا الخصم ، حتى يلزم الخصم جواب التوكيل .

                                                                                                                                والأصل فيه ما روي عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أن سيدنا عليا رضي الله عنه كان لا يحضر الخصومة ، وكان يقول : إن لها لحما يحضرها الشياطين ، فجعل الخصومة إلى عقيل رضي الله عنه فلما كبر ورق حولها إلي ، وكان علي يقول : ما قضي لوكيلي فلي وما قضي على وكيلي فعلي .

                                                                                                                                ومعلوم أن سيدنا عليا رضي الله عنه لم يكن ممن لا يرضى أحد بتوكيله ، فكان توكيله برضا الخصم ، فدل على الجواز برضا الخصم ، واختلف في جوازه بغير رضا الخصم ، قال أبو حنيفة - عليه الرحمة : لا يجوز من غير عذر المرض والسفر .

                                                                                                                                وقال أبو يوسف ، ومحمد : يجوز في الأحوال كلها وهو قول الشافعي - رحمه الله - وذكر الجصاص أنه لا فصل في ظاهر الرواية بين الرجل والمرأة ، والبكر والثيب لكن المتأخرين من أصحابنا استحسنوا في المرأة إذا كانت مخدرة غير بريزة ، فجوزوا توكيلها ، وهذا استحسان في موضعه وقال ابن أبي ليلى : لا يجوز إلا توكيل البكر ، وهذا غير سديد لما يذكر .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهم أن التوكيل بالخصومة صادف حق الموكل ، فلا يقف على رضا الخصم ، كالتوكيل باستيفاء الدين ، ودلالة ذلك أن الدعوى حق المدعي ، والإنكار حق المدعى عليه ، فقد صادف التوكيل من المدعي والمدعى عليه حق نفسه ، فلا يقف على رضا خصمه ، كما لو كان خاصمه بنفسه ، ولأبي حنيفة - رحمه الله - أن الحق هو الدعوى الصادقة ، والإنكار الصادق ، ودعوى المدعي خبر يحتمل الصدق ، والكذب ، والسهو والغلط ، وكذا إنكار المدعى عليه ، فلا يزداد الاحتمال في خبره بمعارضة خبر المدعي ، فلم يكن كل ذلك حقا ، فكان الأصل أن لا يلزم به جواب إلا أن الشرع ألزم الجواب لضرورة فصل الخصومات ، وقطع المنازعات المؤدية إلى الفساد ، وإحياء الحقوق الميتة ، وحق الضرورة يصير مقضيا بجواب الموكل ، فلا تلزم الخصومة عن جواب الوكيل من غير ضرورة ، مع ما أن الناس في الخصومات على التفاوت بعضهم أشد خصومة من الآخر ، فربما يكون الوكيل ألحن بحجته ، فيعجز من يخاصمه عن إحياء حقه ، فيتضرر به ، فيشرط رضا الخصم ، ليكون لزوم الضرر مضافا إلى التزامه وإذا كان الموكل مريضا ، أو مسافرا ، فهو عاجز عن الدعوى ، وعن الجواب بنفسه ، فلو لم يملك النقل إلى غيره بالتوكيل لضاعت الحقوق ، وهلكت ، وهذا لا يجوز .

                                                                                                                                وكذلك إذا كانت المرأة مخدرة مستورة ; لأنها تستحيي عن الحضور لمحافل الرجال ، وعن الجواب بعد الخصومة بكرا كانت أو ثيبا ; فيضيع حقها .

                                                                                                                                ( وأما ) في مسألتنا فلا ضرورة ، ولو وكل بالخصومة ، واستثنى الإقرار وتزكية الشهود في عقد التوكيل بكلام منفصل جاز ، ويصير وكيلا بالإنكار ، سواء كان التوكيل من الطالب أو من المطلوب في ظاهر الرواية .

                                                                                                                                وروي عن محمد أنه إذا وكل الطالب ، واستثنى الإقرار ، يجوز ، وإن وكل المطلوب لا يجوز ، والصحيح جواب ; ظاهر الرواية ; لأن استثناء الإقرار في عقد التوكيل إنما جاز لحاجة الموكل إليه ; لأن الوكيل بالخصومة يملك الإقرار على موكله عند أصحابنا الثلاثة .

                                                                                                                                ولو أطلق التوكيل من غير استثناء لتضرر به الموكل ، وهذا المعنى لا يوجب الفصل بين التوكيل من الطالب والمطلوب ; لأن كل واحد منهما يحتاج إلى التوكيل بالخصومة ، هذا إذا وكل بالخصومة ، واستثنى الإقرار في العقد فأما إذا وكل مطلقا ، ثم استثنى الإقرار في كلام منفصل ، يصح عند أبي يوسف ، وعند محمد لا يصح .

                                                                                                                                ( وأما ) التوكيل بالإقرار : فذكر في الأصل ، أنه يجوز .

                                                                                                                                وذكر الطحاوي أنه لا يجوز ويجوز التوكيل بالخصومة من المضارب ، والشريك شركة العنان ، والمفاوضة ، والعبد المأذون ، والمكاتب ; لأنهم يملكون الخصومة بأنفسهم ، فيملكون تفويضها إلى غيرهم بالتوكيل .

                                                                                                                                ويجوز من الذمي كما يجوز من المسلم ; لأن حقوقهم مصونة مرعية عن الضياع كحقوقنا ويجوز التوكيل بقبض الدين ; لأن الموكل قد لا يقدر على الاستيفاء بنفسه فيحتاج [ ص: 23 ] إلى التفويض إلى غيره كالوكيل بالبيع والشراء وسائر التصرفات ، إلا أن التوكيل بقبض رأس مال السلم وبدل الصرف ، إنما يجوز في المجلس ; لأن الموكل إنما يملك القبض فيه لا في غيره ، وإذا قبض الدين من الغريم برئ الغريم ; لأن القبض الصحيح يوجب البراءة ، وتجوز الوكالة بقضاء الدين ; لأنه يملك القضاء بنفسه وقد لا يتهيأ له القضاء بنفسه فيحتاج إلى التفويض إلى غيره سواء كان الموكل حرا أو عبدا مأذونا أو مكاتبا ; لأنهما يملكان القضاء بأنفسهما فيملكان التفويض إلى غيرهما أيضا ، ويجوز بطلب الشفعة وبالرد بالعيب وبالقسمة ; لأن هذه حقوق يتولاها المرء بنفسه ، فيملك توليتها غيره .

                                                                                                                                ويجوز بالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد والكتابة والإعتاق على مال والصلح على إنكار ; لأنه يملك هذه التصرفات بنفسه فيملك تفويضها إلى غيره : وتجوز الهبة والصدقة والإعارة والإيداع والرهن والاستعارة والاستيهاب والارتهان ، لما قلنا ويجوز بالشركة ، والمضاربة لما قلنا .

                                                                                                                                ويجوز بالإقراض والاستقراض ، إلا أن في التوكيل بالاستقراض لا يملك الموكل ما استقرضه الوكيل ، إلا إذا بلغ على وجه الرسالة بأن يقول : أرسلني فلان إليك ليستقرض كذا ويجوز التوكيل بالصلح وبالإبراء ويجوز بالطلاق والعتاق والإجارة والاستئجار لما قلنا ويجوز بالسلم والصرف ; لأنه يملكهما بنفسه ، فيملك تفويضهما إلى غيره إلا أن قبض البدل في المجلس شرط بقاء العقد على الصحة ، والعبرة لبقاء العاقدين وافتراقهما ; لأن حقوق العقد راجعة إليهما لما نذكر فإذا تقابض الوكيلان في المجلس فقد وجد القبض المستحق قبل الافتراق فيبقى العقد على الصحة بخلاف الرسولين إذا تقابضا في المجلس ثم افترقا أنه يبطل العقد ; لأن حقوق العقد لا ترجع إلى الرسول ، فلا يقع قبضهما عن المستحق بالعقد ، فإذا افترقا ، فقد حصل الافتراق لا عن قبض فيبطل العقد بخلاف الوكيلين على ما مر ولا تعتبر مفارقة الموكل ; لأن الحقوق لا ترجع إليه ، بل هو أجنبي عنها ، فبقاؤه وافتراقه بمنزلة واحدة ، ويجوز التوكيل بالبيع والشراء ; لأنهما مما يملك الموكل مباشرتهما بنفسه فيملك التفويض إلى غيره إلا أن لجواز التوكيل بالشراء شرطا ، وهو الخلو عن الجهالة الكثيرة في أحد نوعي الوكالة دون النوع الآخر وبيان ذلك أن التوكيل بالشراء نوعان : عام وخاص فالعام : أن يقول له : اشتر لي ما شئت ، أو ما رأيت ، أو أي ثوب شئت ، أو أي دار شئت ، أو ما تيسر لك من الثياب ، ومن الدواب ، ويصح مع الجهالة الفاحشة من غير بيان النوع والصفة والثمن لأنه فوض الرأي إليه فيصح مع الجهالة الفاحشة كالبضاعة ، والمضاربة .

                                                                                                                                والخاص : أن يقول : اشتر لي ثوبا أو حيوانا أو دابة أو جوهرا أو عبدا أو جارية أو فرسا أو بغلا ، أو حمارا أو شاة والأصل فيه أن الجهالة إن كانت كثيرة تمنع صحة التوكيل ، وإن كانت قليلة لا تمنع وهذا استحسان .

                                                                                                                                والقياس أن يمنع قليلها وكثيرها ، ولا يجوز إلا بعد بيان النوع والصفة ومقدار الثمن ; لأن البيع والشراء لا يصحان مع الجهالة اليسيرة ، فلا يصح التوكيل بهما أيضا .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان ما روي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { دفع دينارا إلى حكيم بن حزام ليشتري له به أضحية ، } ولو كانت الجهالة القليلة مانعة من صحة التوكيل بالشراء لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأن جهالة الصفة لا ترتفع بذكر الأضحية ، وبقدر الثمن ; ولأن الجهالة القليلة في باب الوكالة لا تفضي إلى المنازعة ; لأن مبنى التوكيل على الفسحة والمسامحة فالظاهر أنه لا تجوز المنازعة فيه عند قلة الجهالة بخلاف البيع لأن مبناه على المضايقة ، والمماكسة لكونه معاوضة المال بالمال فالجهالة فيه وإن قلت تفضي إلى المنازعة فتوجب فساد العقد فهو الفرق .

                                                                                                                                وإذا ثبت أن الجهالة القليلة غير مانعة ففي كل موضع قلت الجهالة ، صح التوكيل بالشراء وإلا فلا ، فينظر إن كان اسم ما وقع التوكيل بشرائه مما يقع على أنواع مختلفة لا يجوز التوكيل به ، إلا بعد بيان النوع وذلك نحو أن يقول : اشتر لي ثوبا لأن اسم الثوب يقع على أنواع مختلفة من ثوب الإبريسم والقطن والكتان وغيرهم ، فكانت الجهالة كثيرة ، فمنعت صحة التوكيل ، فلا يصح .

                                                                                                                                وإن سمى الثمن ; لأن الجهالة بعد بيان الثمن متفاحشة فلا تقل ، إلا بذكر النوع : بأن يقول : اشتر لي ثوبا هرويا فإن سكت عنه كثرت الجهالة ، فلم يصح التوكيل ، وكذا إذا قال : اشتر لي حيوانا ، أو قال : اشتر لي دابة ، أو أرضا أو مملوكا أو جوهرا أو حبوبا ; لأن كل واحد منها اسم جنس ، يدخل تحته أنواع مختلفة ، فلا بد من ذكر النوع بأن يقول : ثوبا هرويا فإذا سكت عنه كثرت الجهالة فلم يصح التوكيل ، وكذا إذا قال : [ ص: 24 ] اشتر لي دارا لا يصح ; لأن بين الدار والدار تفاوتا فاحشا فإن عين الدار يجوز وإن لم يعين ، ولكنه بين الثمن جاز أيضا ويقع على دور المصر الذي وقع فيه الوكيل ; لأن الجهالة تقل بعد بيان الثمن .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه لا يصح التوكيل بعد بيان الثمن حتى يعين مصرا من الأمصار ولو قال : اشتر لي دارا في موضع كذا ، أو حبة لؤلؤ أو فص ياقوت أحمر ولم يسم الثمن لا يجوز ; لأن التفاوت متفاحش والصفة لا تصير معلومة بحال الموكل فلا بد من بيان الثمن وإن كان اسم ما وقع التوكيل بشرائه لا يقع إلا على نوع واحد يكتفى فيه بذكر أحد أمرين : إما الصفة بأن قال : اشتر لي عبدا تركيا ، أو مقدار الثمن بأن قال : اشتر لي عبدا بألف درهم ; لأن الجهالة تقل بذكر أحدهما ، وبحال الموكل ; لأن الصفة تصير معلومة بذكر الثمن وإن لم يذكرها وإذا ذكر الصفة يصير الثمن معلوما بحال الآمر ، فيما يشتريه أمثاله عادة حتى إنه لو خرج المشتري عن عادة أمثاله لا يلزم الموكل .

                                                                                                                                كذا روي عن أبي يوسف فيمن قال : اشتر لي خادما من جنس كذا أن ذلك يقع على ما يتعامله الناس من ذلك الجنس ، فإن كان الثمن كثيرا ، لا يتعامل الناس به لم يجز على الآمر ، وكذا البدوي إذا قال : اشتر لي خادما حبشيا فهو على ما يعتاده أهل البادية ، وهذا كله اعتبار حال الموكل فإن لم يذكر أحدهما أصلا فالوكالة باطلة ; لأن الجهالة فحشت بترك ذكرهما جميعا ، فمنعت صحة الوكالة ولو قال : اشتر لي حمارا أو بغلا أو فرسا أو بعيرا ولم يذكر له صفة ولا ثمنا قالوا إنه يجوز ; لأن النوع صار معلوما بذكر الحمار والبغل والفرس والبعير ، والصفة تصير معلومة بحال الموكل وكذا الثمن فينظر إن اشترى حمارا بمثل قيمته أو بأقل ، أو بأكثر ، قدر ما يتغابن الناس في مثله جاز على الموكل ، إذا كان الحمار مما يشتري مثله الموكل ، وإن كان مما لا يشتري مثله الموكل لا يجوز على الموكل ، ويلزم الوكيل وإن اشتراه بمثل قيمته نحو أن يكون الموكل مكاريا فاشترى الوكيل حمارا مصريا يصلح للركوب ; لأن مثله يشتري الحمار للعمل والحمل لا للركوب .

                                                                                                                                ولو قال : اشتر لي شاة ، أو بقرة ، ولم يذكر صفة ولا ثمنا لا يجوز ; لأن الشاة والبقرة لا تصير معلومة الصفة بحال الموكل ولا بد وأن يكون أحدهما معلوما لما بينا .

                                                                                                                                ولو قال : اشتر لي حنطة لا يصح التوكيل ما لم يذكر أحد شيئين : إما : قدر الثمن ، وإما قدر المثمن وهو المكيل ; لأن الجهالة لا تقل إلا بذكر أحدهما وعلى هذا جميع المقدرات من المكيلات ، والموزونات .

                                                                                                                                ولو وكله ليشتري له طيلسانا لا يصح إلا بعد بيان الثمن والنوع ; لأن الجهالة لا تقل إلا بعد بيان أحدهما والله عز وجل أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية