الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان ما يخرج به الوكيل عن الوكالة : فنقول - وبالله التوفيق - : الوكيل يخرج عن الوكالة بأشياء ( منها ) : عزل الموكل إياه ونهيه ; لأن الوكالة عقد غير لازم ، فكان محتملا للفسخ بالعزل والنهي ولصحة العزل شرطان : أحدهما علم الوكيل به ; لأن العزل فسخ للعقد ، فلا يلزم حكمه إلا بعد العلم به ، كالفسخ فإذا عزله وهو حاضر انعزل ، - وكذا لو كان غائبا فكتب إليه كتاب العزل ، فبلغه الكتاب ، وعلم بما فيه ، انعزل ; لأن الكتاب من الغائب كالخطاب من الحاضر ; وكذلك لو أرسل إليه رسولا ، فبلغ الرسالة .

                                                                                                                                وقال : إن فلانا أرسلني إليك ، ويقول : إني عزلتك عن الوكالة ، فإنه ينعزل كائنا ما كان الرسول عدلا كان أو غير عدل ، حرا كان أو عبدا ، صغيرا كان أو كبيرا ، بعد أن بلغ الرسالة على الوجه الذي ذكرنا ; لأن الرسول قائم مقام المرسل معبر وسفير عنه فتصح سفارته بعد أن صحت عبارته على أي صفة كان .

                                                                                                                                وإن لم يكتب كتابا ، ولا أرسل رسولا ، ولكن أخبره بالعزل رجلان عدلان كانا أو غير عدلين أو رجل واحد عدل ، ينعزل في قولهم جميعا ، سواء صدقه الوكيل أو لم يصدقه إذا ظهر صدق الخبر ; لأن خبر الواحد مقبول في المعاملات .

                                                                                                                                فإن لم يكن عدلا فخبر العدلين أو العدل أولى ، وإن أخبره واحد غير عدل : فإن صدقه ينعزل بالإجماع ، وإن كذبه لا ينعزل وإن ظهر صدق الخبر في قول أبي حنيفة .

                                                                                                                                وعندهما ينعزل إذا ظهر صدق الخبر وإن كذبه .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما أن الإخبار عن العزل من باب المعاملات ، فلا يشترط فيه العدد ، ولا العدالة كما في الإخبار في سائر المعاملات .

                                                                                                                                ( وجه ) قول أبي حنيفة أن الإخبار عن العزل له شبه الشهادة ; لأن فيه التزام حكم المخبر به وهو العزل ، وهو لزوم الامتناع من التصرف ، ولزوم العهدة فيما يتصرف فيه بعد العزل ، فأشبه الشهادة ; فيجب اعتبار أحد شروطها وهو العدالة أو العدد - وعلى هذا الاختلاف : الشفيع إذا أخبره بالبيع واحد غير عدل فلم يصدقه ، ولم يطلب الشفعة حتى ظهر عنده صدق الخبر فهو على شفعته عند أبي حنيفة

                                                                                                                                وعندهما بطلت شفعته ، وعلى هذا الاختلاف إذا جنى العبد جناية في بني آدم ، ثم أخبر واحد غير عدل مولاه أن عبده قد جنى ، فلم يصدقه حتى أعتقه ، لا يصير المولى مختارا للفداء عند أبي حنيفة وعندهما : يصير مختارا للفداء .

                                                                                                                                وعلى هذا الاختلاف : العبد المأذون إذا بلغه حجر المولى من غير عدل ، فلم يصدقه لا يصير محجورا عنده ، وعندهما : يصير محجورا .

                                                                                                                                وإن عزله الموكل ، وأشهد على عزله ، وهو غائب ، ولم يخبره بالعزل أحد ، لا ينعزل ، ويكون تصرفه قبل العلم بعد العزل كتصرفه قبل العزل في جميع الأحكام التي بيناها .

                                                                                                                                وعن أبي يوسف : في الموكل : إذا عزل الوكيل ولم يعلم به ، فباع الوكيل وقبض الثمن فهلك الثمن في يد الوكيل ومات [ ص: 38 ] العبد قبل التسليم إلى المشتري ، كان للمشتري أن يرجع بالثمن على الوكيل ، ويرجع الوكيل على الموكل كما قبل العزل سواء ; لأن العزل لم يصح لانعدام شرط صحته ، وهو العلم .

                                                                                                                                والثاني - أن لا يتعلق بالوكالة حق الغير ، فأما إذا تعلق بها حق الغير فلا يصح العزل بغير رضا صاحب الحق ; لأن في العزل إبطال حقه من غير رضاه ولا سبيل إليه ، وهو كمن رهن ماله عند رجل بدين له عليه أو وضعه على يدي عدل ، وجعل المرتهن أو العدل مسلطا على بيعه ، وقبض ثمنه عند حل الأجل ، فعزل الراهن المسلط على البيع ، لا يصح به عزله لما ذكرنا .

                                                                                                                                وكذلك إذا وكل المدعى عليه وكيلا بالخصومة مع المدعي بالتماس المدعي ، فعزله المدعى عليه بغير حضرة المدعي، لا ينعزل لما ذكرنا .

                                                                                                                                واختلف المشايخ فيمن وكل رجلا بطلاق امرأته إن غاب ثم عزله الزوج من غير حضرة المرأة ثم غاب قال بعضهم : لا يصح عزله ; لأنه تعلق بهذه الوكالة حق المرأة فأشبه الوكيل بالخصومة .

                                                                                                                                وقال بعضهم : يصح عزله ; لأنه غير مجبور على الطلاق ولا على التوكيل به وإنما فعله باختياره ، فيملك عزله كما في سائر الوكالات .

                                                                                                                                ولو وكل وكالة غير جائز الرجوع ، يعني بالفارسية وكيلي دماركست ، هل يملك عزله ؟ اختلف المشايخ .

                                                                                                                                قال بعضهم : إن كان ذلك في الطلاق ، والعتاق لا يملك ; لأنه لما وكله وكالة ثابتة غير جائز الرجوع عنها ، فقد ألحق حكم هذا التوكيل بالأمر ، ثم لو جعل أمر امرأته إلى رجل يطلقها متى شاء ، أو أمر عبده إلى رجل يعتقه متى شاء لا يملك الرجوع عنه ، وكذا إذا قال لرجل : طلق امرأتي - إن شئت أو أعتق عبدي إن شئت - لا يملك عزله ، كذا هذا ، وإن كان في البيع والشراء والإجارة والنكاح ونحوه يملك عزله ، وقال بعضهم : إنه يملك العزل في الكل ; لأن الوكالة ليست بلازمة ، بل هي إباحة ، وللمبيح حق المنع عن المباح .

                                                                                                                                ولو قال وقت التوكيل : كلما عزلتك فأنت وكيلي وكالة مستقبلة فعزله ينعزل ، ولكنه يصير وكيلا ثانيا وكالة مستقبلة كما شرط ; لأن تعليق الوكالة بالشرط جائز .

                                                                                                                                ولو قال الموكل للوكيل : كنت وكلتك وقلت لك : كلما عزلتك فأنت وكيلي فيه وقد عزلتك عن ذلك كله لا يصير وكيلا بعد ذلك إلا بتوكيل جديد ; لأن من علق التوكيل بشرط ثم عزله عن الوكالة قبل وجود الشرط ينعزل الوكيل ، ولا يصير وكيلا بعد ذلك بوجود الشرط .

                                                                                                                                وقال بعضهم في التوكيل المعلق : لا يملك العزل قبل وجود الشرط ، ويكون الوكيل على وكالته بعد العزل وكالة مستقبلة ، والأول أصح ; لأنه لما ملك العزل في المرسل ففي المعلق أولى .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية