الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما صفات الحدود فنقول - وبالله التوفيق : لا خلاف في حد الزنا والشرب والسكر والسرقة أنه لا يحتمل العفو والصلح والإبراء بعد ما ثبت بالحجة ; لأنه حق الله تعالى خالصا ، لا حق للعبد فيه فلا يملك إسقاطه ، وكذا يجري [ ص: 56 ] فيه التداخل ; حتى لو زنى مرارا أو شرب الخمر مرارا أو سكر مرارا - لا يجب عليه إلا حد واحد ; لأن المقصود من إقامة الحد هو الزجر وأنه يحصل بحد واحد ، فكان في الثاني والثالث احتمال عدم حصول المقصود ، فكان فيه احتمال عدم الفائدة ، ولا يجوز إقامة الحد مع احتمال عدم الفائدة ، ولو زنى أو شرب أو سكر أو سرق فحد ، ثم زنى أو شرب أو سرق يحد ثانيا ; لأنه تبين أن المقصود لم يحصل ، وكذا إذا سرق سرقات من أناس مختلفة فخاصموا جميعا فقطع لهم - كان القطع عن السرقات كلها ، والكلام في الضمان نذكره في كتاب السرقة - إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                ( وأما ) حد القذف إذا ثبت بالحجة فكذلك عندنا لا يجوز العفو عنه والإبراء والصلح ، وكذلك إذا عفا المقذوف قبل المرافعة ، أو صالح على مال - فذلك باطل ويرد به الصلح ، وله أن يطالبه بعد ذلك ، وعند الشافعي - رحمه الله - يصح ذلك كله ، وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف - رحمه الله - وكذا يجري فيه التداخل عندنا حتى لو قذف إنسانا بالزنا بكلمة ، أو قذف كل واحد بكلام على حدة - لا يجب عليه إلا حد واحد سواء حضروا جميعا أو حضر واحد ، وقال الشافعي - رحمه الله - إذا قذف كل واحد بكلام على حدة - فعليه لكل واحد حد على حدة ، ولو ضرب القاذف تسعة وسبعين سوطا ، ثم قذف آخر ضرب السوط الأخير فقط عندنا ، وعنده يضرب السوط الأخير للأول وثمانين سوطا أخر للثاني ، ولو قذف رجلا فحد ، ثم قذف آخر - يحد للثاني بلا خلاف ، وكذا هذا الحد لا يورث عند أصحابنا رضي الله عنهم ، وعندهم يورث ، ويقسم بين الورثة على فرائض الله - عز شأنه - في قول ، وفي قول يقسم بين الورثة إلا الزوج والزوجة ، والكلام في هذا الفرع بناء على أصل مختلف بيننا وبينه ، وهو أن حد القذف خالص حق الله - سبحانه وتعالى - أو المغلب فيه حقه ، وحق العبد مغلوب عندنا ، وعنده هو حق العبد أو المغلب حق العبد .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن سبب وجوب هذا الحد ; هو القذف ، والقذف جناية على عرض المقذوف بالتعرض ، وعرضه حقه بدليل أن بدل نفسه حقه وهو القصاص في العمد ، أو الدية في الخطأ ، فكان البدل حقه ، والجزاء الواجب على حق الإنسان حقه كالقصاص ، والدليل عليه أنه يشترط فيه الدعوى ، والدعوى لا تشترط في حقوق الله - تبارك وتعالى - كسائر الحقوق ، إلا أنه لم يفوض استيفاؤه إلى المقذوف لأجل التهمة ; لأن ضرب القذف أخف الضربات في الشرع ، فلو فوض إليه إقامة هذا الحد - فربما يقيمه على وجه الشدة ; لما لحقه من الغيظ بسبب القذف ففوض استيفاؤه إلى الإمام ; دفعا للتهمة لا لأنه حق الله - تعالى عز شأنه .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن سائر الحدود إنما كانت حقوق الله - تبارك وتعالى - على الخلوص ; لأنها وجبت لمصالح العامة وهي دفع فساد يرجع إليهم ويقع حصول الصيانة لهم ، فحد الزنا وجب ; لصيانة الأبضاع عن التعرض ، وحد السرقة وقطع الطريق وجب ; لصيانة الأموال والأنفس عن القاصدين ، وحد الشرب وجب ; لصيانة الأنفس والأموال والأبضاع في الحقيقة بواسطة صيانة العقول عن الزوال والاستتار بالسكر ، وكل جناية يرجع فسادها إلى العامة ومنفعة جزائها يعود إلى العامة ، كان الجزاء الواجب بها حق الله - عز شأنه - على الخلوص تأكيدا للنفع والدفع ; كي لا يسقط بإسقاط العبد وهو معنى نسبة هذه الحقوق إلى الله - تبارك وتعالى ، وهذا المعنى موجود في حد القذف ; لأن مصلحة الصيانة ودفع الفساد يحصل للعامة بإقامة هذا الحد ، فكان حق الله عز شأنه على الخلوص كسائر الحدود ، إلا أن الشرع شرط فيه الدعوى من المقذوف ، وهذا لا ينفي كونه حقا لله - تعالى عز شأنه - على الخلوص ، كحد السرقة أنه خالص حق الله - عز شأنه - وإن كانت الدعوى من المسروق منه شرطا .

                                                                                                                                ثم نقول : إنما شرط فيه الدعوى وإن كان خالص حق الله - تعالى عز اسمه ; لأن المقذوف يطالب القاذف ظاهرا أو غالبا ; دفعا للعار عن نفسه فيحصل ما هو المقصود من شرع الحد كما في السرقة ; ولأن حقوق العباد تجب بطريق المماثلة إما صورة ومعنى ، وإما معنى لا صورة ; لأنها تجب بمقابلة المحل جبرا ، والجبر لا يحصل إلا بالمثل ، ولا مماثلة بين الحد والقذف لا صورة ولا معنى ; فلا يكون حقه .

                                                                                                                                وأما حقوق الله - سبحانه وتعالى - فلا يعتبر فيها المماثلة ; لأنها تجب جزاء للفعل كسائر الحدود .

                                                                                                                                ( ولنا ) أيضا دلالة الإجماع من وجهين : أحدهما - أن ولاية الاستيفاء للإمام بالإجماع ولو كان حق المقذوف لكان ولاية الاستيفاء له كما في القصاص .

                                                                                                                                ( والثاني ) - أنه يتنصف برق القاذف ، [ ص: 57 ] وحق الله - تعالى - هو الذي يحتمل التنصيف بالرق لا حق العبد ; لأن حقوق الله - تعالى - تجب جزاء للفعل ، والجزاء يزداد بزيادة الجناية وينتقص بنقصانها ، والجناية تتكامل بكمال حال الجاني وتنتقص بنقصان حاله ، فأما حق العبد فإنه يجب بمقابلة المحل ولا يختلف باختلاف حال الجاني ، وإذا ثبت أن حد القذف حق الله - تعالى - خالصا أو المغلب فيه حقه فنقول : لا يصح العفو عنه ; لأن العفو إنما يكون من صاحب الحق ، ولا يصح الصلح والاعتياض ; لأن الاعتياض عن حق الغير لا يصح ولا يجري فيه الإرث ; لأن الإرث إنما يجري في المتروك من ملك أو حق للمورث على ما قال { عليه الصلاة والسلام من ترك مالا أو حقا فهو لورثته } ولم يوجد شيء من ذلك فلا يورث ولا يجري فيه التداخل ; لما ذكرنا ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية