الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما كيفية وجوب القصاص فهو أنه واجب عينا حتى لا يملك الولي أن يأخذ الدية من القاتل من غير رضاه ، ولو مات القاتل أو عفا الولي سقط الموجب أصلا ، وهذا عندنا ، وللشافعي - رحمه الله - قولان : في قول : القصاص ليس بواجب عينا بل الواجب أحد الشيئين غير عين ( إما ) القصاص ( وإما ) الدية ، وللولي خيار التعيين إن شاء استوفى القصاص ، وإن شاء أخذ الدية من غير رضا القاتل ، فعلى هذا القول إذا مات القاتل يتعين المال واجبا ، فإذا عفا الولي سقط الموجب أصلا ، وفي قول القصاص واجب عينا لكن للولي أن يأخذ المال من غير رضا القاتل ، وإذا عفا له أن يأخذ المال ، وإذا مات القاتل سقط الموجب أصلا احتج بقوله تعالى { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } .

                                                                                                                                معناه فليتتبع وليؤد الدية ، أوجب سبحانه وتعالى على القاتل أداء الدية إلى الولي مطلقا عن شرط الرضا ; لأن أداء الدية صيانة النفس عن الهلاك ، وإنه واجب قال الله تعالى جل شأنه { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } ، ولأن ضمان القتل يجب حقا للمقتول ; لأن الجناية وردت على حقه فكان الواجب بها حقا له ، وحق العبد ما ينتفع به .

                                                                                                                                والمقتول لا ينتفع بالقصاص ، وينتفع بالمال ; لأنه تقضى منه ديونه ، وتنفذ منه وصاياه ، وكان ينبغي أن لا يشرع القصاص أصلا إلا أنه شرع لحكمة الزجر ; لأن الإنسان لا يمتنع من قتل عدوه خوفا من لزوم المال ، فشرع ضمانا زاجرا كان ينبغي أن يجمع بينهما كما في شرب خمر الذمي إلا أنه تعذر الجمع ; لأن الدية بدل النفس ، وفي القصاص معنى البدلية قال الله تبارك وتعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ، والباء تستعمل في الإبدال فتؤدي إلى الجمع بين البدلين ، وهذا لا يجوز فخير بينهما .

                                                                                                                                ( ولنا ) قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } ، وهذا يفيد تعين القصاص موجبا ، ويبطل مذهب الإبهام جميعا ، أما الإبهام فلأنه أخبر عن كون القصاص واجبا فيصدق القول عليه بأنه واجب ، وإن كان عليه أحد حقين لا يصدق القول على أحدهما بأنه أوجب ( وأما ) التعيين فلأنه إذا أوجب القصاص على الإشارة إليه بطل القول بوجوب الدية بضرورة النص ; لأنه لا يقابل بالجمع بينهما ، فبطل القول باختيار الدية من غير رضا القاتل ; ولأن القصاص إذا كان عين حقه كانت الدية بدل حقه ، وليس لصاحب الحق أن يعدل من غير الحق إلى بدله من غير رضا من عليه الحق كمن عليه حنطة موصوفة فأراد صاحب الحق أن يأخذ منه قيمتها من غير رضاه ليس له ذلك ، كذا هذا ، وقوله عليه الصلاة والسلام { العمد قود } وجه الاستدلال به على نحو وجه الاستدلال بالآية الشريفة ; ولأن ضمان العدوان الوارد على حق العبد مقيد بالمثل ، والقصاص وهو القتل الثاني مثل القتل الأول لأنه ينوب مناب الأول ويسد مسده ، ومثل الشيء غيره الذي ينوب منابه ، ويسد مسده ، وأخذ المال لا ينوب مناب القتل ، ولا يسد مسده ، فلا يكون مثلا له فلا يصلح ضمانا للقتل العمد ، وكان ينبغي أن لا يجب أصلا إلا أن الوجوب في قتل الخطأ ثبت شرعا تخفيفا على الخاطئ نظرا له إظهارا لخطر الدم صيانة له عن الهدر ، والعامد لا يستحق التخفيف ، والصيانة تحصل بالقصاص ، فبقي ضمانا أصليا في الباب .

                                                                                                                                ( وأما ) الآية الشريفة فالمراد من قوله سبحانه وتعالى { فمن عفي له من أخيه شيء } هو الولي لا القاتل ; لأنه قال الله تبارك وتعالى { فمن عفي له } ، والقاتل معفو عنه لا معفو له ، ولأنه قال تعالى اسمه { فاتباع بالمعروف } فليتبع ، وإنه أمر لمن دخل تحت كلمة فمن ، ومعلوم أن القاتل لا يتبع أحدا بل هو المتبع ، وإنما المتبع هو الولي ، فكان هو الداخل تحت كلمة فمن فكان معنى الآية الكريمة فمن بذل له ، وأعطي له من أخيه شيء بطريق الفضل ، والسهولة فليتبع بالمعروف ، ويجوز استعمال لفظ العفو بمعنى الفضل لغة قال الله سبحانه وتعالى { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } أي الفضل ، وتقول العرب خذ ما أتاك عفوا أي فضلا ، ونحن به نقول : إنه يجوز أخذ المال من القاتل برضاه ، وقيل الآية [ ص: 242 ] الشريفة نزلت في الصلح عن دم العمد ، وقيل نزلت في دم بين نفر يعفو أحدهم عن القاتل فللباقين أن يتبعوا بالمعروف في نصيبهم ; لأنه قال سبحانه وتعالى { فمن عفي له من أخيه شيء } ، وهو العفو عن بعض الحق ، ونحن به نقول : أوقع الاحتمال في المراد بالآية فلا يصح الاحتجاج بها مع الاحتمال ، وقوله : في دفع الدية صيانة نفس القاتل عن الهلاك ، وأنه واجب ، قلنا : نعم لكن قضيته أن يصير آثما بالامتناع لا أن يملك الولي أخذه من غير رضاه كمن أصابته مخمصة ، وعند صاحبه طعام يبيعه بمثل قيمته يجب عليه أن يشتريه دفعا للهلاك عن نفسه ، فإن امتنع عن الشراء ليس لصاحب الطعام أن يدفع الطعام إليه ، ويأخذ الثمن من غير رضاه ، كذا هذا ، وقوله المقتول : لا ينتفع بالقصاص ، قلنا : ممنوع ، بل ينتفع به أكثر مما ينتفع بالمال ; لأن فيه إحياءه بإكفاء ورثته أحياء ، وهذا لا يحصل بالمال على ما عرف ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية