الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما الجناية على ما دون النفس مطلقا فالكلام في هذه الجناية يقع في موضعين : أحدهما : في بيان أنواعها ، والثاني في بيان حكم كل نوع منها ، أما الأول فالجناية على ما دون النفس مطلقا أنواع أربعة : أحدها : إبانة الأطراف ، وما يجري مجرى الأطراف ، والثاني : إذهاب معاني الأطراف مع إبقاء أعيانها ، والثالث : الشجاج ، والرابع : الجراح ، أما النوع الأول فقطع اليد والرجل والأصبع والظفر والأنف واللسان والذكر والأنثيين والأذن والشفة وفقء العينين وقطع الأشفار والأجفان وقلع الأسنان وكسرها وحلق شعر الرأس واللحية والحاجبين والشارب .

                                                                                                                                وأما النوع الثاني فتفويت السمع والبصر والشم والذوق والكلام والجماع والإيلاد والبطش والمشي ، وتغير لون السن إلى السواد والحمرة والخضرة ونحوها مع قيام المحال الذي تقوم بها هذه المعاني ، ويلحق بهذا الفصل إذهاب العقل .

                                                                                                                                وأما النوع الثالث : فالشجاج أحد عشر أولها : الخارصة ، ثم الدامعة ، ثم الدامية ، ثم الباضعة ، ثم المتلاحمة ، ثم السمحاق ، ثم الموضحة ، ثم الهاشمة ، ثم المنقلة ، ثم الآمة ، ثم الدامغة .

                                                                                                                                ( فالخارصة ) : هي التي تخرص الجلد أي تشقه ، ولا يظهر منها الدم والدامعة : هي التي يظهر منها الدم ولا يسيل كالدمع في العين والدامية : هي التي يسيل منها الدم والباضعة : هي التي تبضع اللحم أي تقطعه والمتلاحمة : هي التي تذهب في اللحم أكثر مما تذهب الباضعة فيه هكذا روى أبو يوسف وقال محمد : المتلاحمة قبل الباضعة ، وهي التي يتلاحم منها الدم ويسود والسمحاق : اسم لتلك الجلدة إلا أن الجراحة سميت بها والموضحة : التي تقطع السمحاق ، وتوضح العظم أي : تظهره والهاشمة : هي التي تهشم العظم أي تكسره والمنقلة : هي التي تنقل العظم بعد الكسر أي : تحوله من موضع إلى موضع والآمة : هي التي تصل إلى أم الدماغ ، وهي جلدة تحت العظم فوق الدماغ والدامغة : هي التي تخرق تلك الجلدة ، وتصل إلى الدماغ فهذه إحدى عشر شجة ، ومحمد ذكر الشجاج تسعا ، ولم يذكر الخارصة ولا الدامغة ; لأن الخارصة لا يبقى لها أثر عادة ، والشجة التي لا يبقى لها أثر لا حكم لها في الشرع ، والدامغة لا يعيش الإنسان معها عادة بل تصير نفسا ظاهرا وغالبا فتخرج من أن تكون شجة فلا معنى لبيان حكم الشجة فيها ; لذلك ترك محمد ذكرهما والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                ( وأما ) النوع الرابع فالجراح نوعان : جائفة وغير جائفة ، فالجائفة : هي التي تصل إلى الجوف ، والمواضع التي تنفذ الجراحة منها إلى الجوف : هي الصدر ، والظهر ، والبطن ، والجنبان ، وما بين الأنثيين والدبر ، ولا تكون في اليدين والرجلين ولا في الرقبة والحلق جائفة ; لأنه لا يصل إلى الجوف .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف إن ما وصل من الرقبة إلى الموضع الذي لو وصل إليه من الشراب قطرة يكون جائفة ; لأنه لا يقطر إلا إذا وصل إلى الجوف ، ولا تكون الشجة إلا في الرأس والوجه وفي مواضع العظم مثل : الجبهة ، والوجنتين ، والصدغين ، والذقن دون الخدين ، ولا تكون الآمة إلا في الرأس والوجه ، وفي الموضع الذي تتخلص منه إلى الدماغ ، ولا يثبت حكم هذه الجراحات إلا في هذه المواضع عند عامة العلماء رضي الله عنهم وقال بعض الناس : يثبت حكم هذه الجراحات في كل البدن ، وهذا غير سديد ; لأن هذا القائل إن رجع في ذلك إلى اللغة فهو غلط ; لأن العرب تفصل بين الشجة وبين مطلق الجراحة فتسمي ما كان في الرأس والوجه في مواضع العظم منها شجة ، وما كان في سائر البدن جراحة ، فتسمية الكل شجة يكون غلطا في اللغة ، وإن رجع فيه إلى المعنى فهو خطأ ; لأن حكم هذه الشجاج يثبت للشين الذي يلحق المشجوج ببقاء أثرها بدليل أنها لو برئت ولم يبق لها أثر لم يجب بها أرش والشين إنما يلحق فيها فيما يظهر في البدن ، وذلك هو الوجه والرأس ، وأما ما سواهما فلا يظهر بل لعلها يغطى عادة فلا يلحق الشين فيه مثل ما يلحق في الوجه والرأس [ ص: 297 ] والله - سبحانه وتعالى - الموفق .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية