الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ومنها محاذاة المرأة الرجل في صلاة مطلقة يشتركان فيها فسدت صلاته عندنا استحسانا والقياس أن لا تكون المحاذاة مفسدة صلاة الرجل وبه أخذ الشافعي ، حتى لو قامت امرأة خلف الإمام ونوت صلاته وقد نوى الإمام إمامة النساء ثم حاذته فسدت صلاته عندنا ، وعنده لا تفسد .

                                                                                                                                وجه القياس أن الفساد لا يخلو إما أن يكون لخساستها أو لاشتغال قلب الرجل بها والوقوع في الشهوة ، لا وجه للأول ; لأن المرأة لا تكون أخس من الكلب والخنزير ومحاذاتهما غير مفسدة ; ولأن هذا المعنى يوجد في المحاذاة في صلاة لا يشتركان فيها والمحاذاة فيها غير مفسدة بالإجماع ولا سبيل إلى الثاني لهذا أيضا ، ولأن المرأة تشارك الرجل في هذا المعنى فينبغي أن تفسد صلاتها أيضا ولا تفسد بالإجماع ، والدليل عليه أن المحاذاة في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة غير مفسدة فكذا في سائر الصلوات .

                                                                                                                                وجه الاستحسان ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : أخروهن من حيث أخرهن الله } عقيب قوله { خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها } والاستدلال بهذا الحديث من وجهين : أحدهما أنه لما أمر بالتأخير صار التأخير فرضا من فرائض الصلاة فيصير بتركه التأخير تاركا فرضا من فرائضها فتفسد ، والثاني أن الأمر بالتأخير أمر بالتقدم عليها ضرورة فإذا لم تؤخر ولم يتقدم فقد قام مقاما ليس بمقام له فتفسد كما إذا تقدم على الإمام ، والحديث ورد في صلاة مطلقة مشتركة فبقي غيرها على أصل القياس وإنما لا تفسد صلاتها ; لأن خطاب التأخير يتناول الرجل ويمكنه تأخيرها من غير أن تتأخر هي بنفسها ويتقدم عليها فلم يكن التأخير فرضا عليها فتركه لا يكون مفسدا ، ويستوي الجواب بين محاذاة البالغة وبين محاذاة المراهقة التي تعقل الصلاة في حق فساد صلاة الرجل استحسانا ، والقياس أن لا تفسد محاذاة غير البالغة ; لأن صلاتها تخلق واعتياد لا حقيقة صلاة .

                                                                                                                                وجه الاستحسان أنها مأمورة بالصلاة مضروبة عليها كما نطق به الحديث فجعلت المشاركة في أصل الصلاة والمشاركة في أصل الصلاة تكفي للفساد إذا وجدت المحاذاة ، وإذا عرف أن المحاذاة مفسدة فنقول : إذا قامت في الصف امرأة فسدت صلاة رجل عن يمينها ورجل عن يسارها ورجل خلفها بحذائها ; لأن الواحدة تحاذي هؤلاء الثلاثة ولا تفسد صلاة غيرهم ; لأن هؤلاء [ ص: 240 ] صاروا حائلين بينها وبين غيرهم بمنزلة أسطوانة أو كارة من الثياب فلم تتحقق المحاذاة ولو كانتا اثنتين أو ثلاثا فالمروي عن محمد أن المرأتين تفسدان صلاة أربعة نفر من على يمينهما ومن على يسارهما ومن خلفهما بحذائهما ، والثلاث منهن يفسدن صلاة من على يمينهن ومن على يسارهن وثلاثة خلفهن إلى آخر الصفوف ، وعن أبي يوسف روايتان في رواية قال : الثنتان يفسدان صلاة أربعة نفر من على يمينهما ومن على يسارهما واثنان من خلفهما بحذائهما ، والثلاث يفسدن صلاة خمسة نفر من كان على يمينهن ومن كان على شمالهن وثلاثة خلفهن بحذائهن ، وفي رواية اثنتان تفسدان صلاة رجلين عن يمينهما ويسارهما وصلاة رجلين رجلين إلى آخر الصفوف والثلاث يفسدن صلاة رجل عن يمينهن ورجل عن يسارهن وصلاة ثلاثة ثلاثة إلى آخر الصفوف ، ولا خلاف في أنهن إذا كن صفا تاما فسدت صلاة الصفوف التي خلفهن وإن كانوا عشرين صفا .

                                                                                                                                وجه الرواية الأولى لأبي يوسف أن فساد الصلاة ليس لمكان الحيلولة ; لأن الحيلولة إنما تقع بالصف التام من النساء بالحديث ، ولم توجد وإنما يثبت الفساد بالمحاذاة ولم توجد المحاذاة إلا بهذا القدر .

                                                                                                                                وجه الرواية الثانية له أن للمثنى حكم الثلاث بدليل أن الإمام يتقدم الاثنين ويصطفان خلفه كالثلاثة ثم حكم الثلاثة هذا فكذا حكم الاثنين .

                                                                                                                                وجه المروي عن محمد أن المرأتين لا تحاذيان إلا أربعة نفر فلا تفسدان صلاة غيرهم وفي الصف التام ، القياس هكذا أن تفسد صلاة صف واحد خلفهن لا غير لانعدام محاذاتهن لمن وراء هذا الصف الواحد إلا أنا استحسنا فحكمنا بفساد صلاة الصفوف أجمع لحديث عمر موقوفا ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { : من كان بينه وبين الإمام نهر أو طريق أو صف من النساء فلا صلاة له } جعل صف النساء حائلا كالنهر والطريق ففي حق الصف الذي يليهن من خلفهن وجد ترك التأخير منهم والحيلولة بينهم وبين الإمام بهن وفي حق الصفوف الأخر وجدت الحيلولة لا غير وكل واحد من المعنيين بانفراده علة كاملة للفساد ثم الثنتان ليستا بجمع حقيقة فلا يلحقان بالصف من النساء التي هي اسم جمع فانعدمت الحيلولة فيتعلق الفساد بالمحاذاة لا غير والمحاذاة لم توجد إلا بهذا القدر فأما الثلاث منهن فجمع حقيقة فألحقن بصف كامل في حق من صرن حائلات بينه وبين الإمام ففسدت صلاة ثلاثة ثلاثة إلى آخر الصفوف وفسدت صلاة واحد عن يمينهن وواحد عن يسارهن ; لأن هناك الفساد بالمحاذاة لا بالحيلولة ولم توجد المحاذاة إلا بهذا القدر والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية