الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( ومنها ) كون المال ناميا ; لأن معنى الزكاة وهو النماء لا يحصل إلا من المال النامي ولسنا نعني به حقيقة النماء ; لأن ذلك غير معتبر وإنما نعني به كون المال معدا للاستنماء بالتجارة أو بالإسامة ; لأن الإسامة سبب لحصول الدر والنسل والسمن ، والتجارة سبب لحصول الربح فيقام السبب مقام المسبب ، وتعلق الحكم به كالسفر مع المشقة والنكاح مع الوطء والنوم مع الحدث ، ونحو ذلك ، وإن شئت قلت : ومنها كون المال فاضلا عن الحاجة الأصلية ; لأن به يتحقق الغنى ومعنى النعمة وهو التنعم وبه يحصل الأداء عن طيب النفس إذ المال المحتاج إليه حاجة أصلية لا يكون صاحبه غنيا عنه ولا يكون نعمة إذ التنعم لا يحصل بالقدر المحتاج إليه حاجة أصلية ; لأنه من ضرورات حاجة البقاء وقوام البدن فكان شكره شكر نعمة البدن .

                                                                                                                                ولا يحصل الأداء عن طيب نفس فلا يقع الأداء بالجهة المأمور بها ; لقوله صلى الله عليه وسلم { : وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم } فلا تقع زكاة إذ حقيقة الحاجة أمر باطن لا يوقف عليه فلا يعرف الفضل عن الحاجة فيقام دليل الفضل عن الحاجة مقامه وهو الإعداد للإسامة والتجارة وهذا قول عامة العلماء ، وقال مالك : هذا ليس بشرط لوجوب الزكاة ، وتجب الزكاة في كل مال سواء كان ناميا فاضلا عن الحاجة الأصلية أو لا كثياب البذلة والمهنة ، والعلوفة ، والحمولة ، والعمولة من المواشي ، وعبيد الخدمة والمسكن ، والمراكب ، وكسوة الأهل وطعامهم ، وما يتجمل به من آنية أو لؤلؤ أو فرش ومتاع لم ينو به التجارة ، ونحو ذلك .

                                                                                                                                واحتج بعمومات الزكاة من غير فصل بين مال ومال نحو قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } وقوله عز وجل : { وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } وقوله تعالى { : وآتوا الزكاة } وغير ذلك ; ولأنها وجبت شكرا لنعمة المال ومعنى النعمة في هذه الأموال أتم وأقرب ; لأنها متعلق البقاء فكانت أدعى إلى الشكر ، ولنا أن معنى النماء والفضل عن الحاجة الأصلية لا بد منه لوجوب الزكاة لما ذكرنا من الدلائل ولا يتحقق ذلك في هذه الأموال وبه تبين أن المراد من العمومات الأموال النامية الفاضلة عن الحوائج الأصلية ، وقد خرج الجواب عن قوله : أنها نعمة لما ذكرنا أن معنى النعمة فيها يرجع إلى البدن ; لأنها تدفع الحاجة الضرورية وهي حاجة دفع الهلاك عن البدن ، فكانت تابعة لنعمة البدن فكان شكرها شكر نعمة البدن وهي العبادات البدنية من الصلاة والصوم وغير ذلك ، وقوله تعالى { : وآتوا الزكاة } دليلنا ; لأن الزكاة عبارة عن النماء وذلك من المال النامي على التفسير الذي ذكرناه وهو أن يكون معدا للاستنماء وذلك بالإعداد للإسامة في المواشي والتجارة في أموال التجارة ، إلا أن الإعداد للتجارة في الأثمان المطلقة من الذهب والفضة ثابت بأصل الخلقة ; لأنها لا تصلح للانتفاع بأعيانها في دفع الحوائج الأصلية فلا حاجة إلى الإعداد من العبد للتجارة بالنية ، إذ النية للتعيين وهي متعينة للتجارة بأصل الخلقة فلا حاجة إلى التعيين بالنية فتجب الزكاة فيها ، نوى التجارة أو لم ينو أصلا أو نوى النفقة .

                                                                                                                                وأما فيما سوى الأثمان من العروض فإنما يكون الإعداد فيها للتجارة بالنية ; لأنها كما تصلح للتجارة تصلح للانتفاع بأعيانها بل المقصود الأصلي منها ذلك فلا بد من التعيين للتجارة وذلك بالنية .

                                                                                                                                وكذا في المواشي لا بد فيها من نية الإسامة ; لأنها لا تصلح للدر والنسل تصلح للحمل والركوب واللحم ، فلا بد من النية ثم نية التجارة والإسامة لا تعتبر ما لم تتصل بفعل التجارة والإسامة ; لأن مجرد النية لا عبرة به في الأحكام لقول النبي صلى الله عليه وسلم { : إن الله عفا عن أمتى ما تحدثت به أنفسهم ما لم يتكلموا به أو يفعلوا } ثم نية التجارة قد تكون صريحا وقد تكون دلالة أما الصريح فهو أن ينوي عند عقد التجارة أن يكون المملوك به للتجارة بأن اشترى سلعة ونوى أن تكون للتجارة عند الشراء فتصير للتجارة سواء كان الثمن الذي اشتراها به من الأثمان المطلقة أو من عروض التجارة أو مال البذلة والمهنة أو أجر داره بعرض بنية [ ص: 12 ] التجارة فيصير ذلك مال التجارة لوجود صريح نية التجارة مقارنا لعقد التجارة أما الشراء فلا شك أنه تجارة .

                                                                                                                                وكذلك الإجارة ; لأنها معاوضة المال بالمال وهو نفس التجارة ; ولهذا ملك المأذون بالتجارة الإجارة .

                                                                                                                                والنية المقارنة للفعل معتبرة .

                                                                                                                                ولو اشترى عينا من الأعيان ونوى أن تكون للبذلة والمهنة دون التجارة لا تكون للتجارة سواء كان الثمن من مال التجارة أو من غير مال التجارة ; لأن الشراء بمال التجارة إن كان دلالة التجارة فقد وجد صريح نية الابتذال ولا تعتبر الدلالة مع الصريح بخلافها .

                                                                                                                                ولو ملك عروضا بغير عقد أصلا بأن ورثها ونوى التجارة لم تكن للتجارة ; لأن النية تجردت عن العمل أصلا فضلا عن عمل التجارة ; لأن الموروث يدخل في ملكه من غير صنعه .

                                                                                                                                ولو ملكها بعقد ليس مبادلة أصلا كالهبة والوصية والصدقة أو بعقد هو مبادلة مال بغير مال كالمهر ، وبدل الخلع ، والصلح عن دم العمد ، وبدل العتق ونوى التجارة يكون للتجارة عند أبي يوسف ، وعند محمد لا يكون للتجارة ، كذا ذكر الكرخي ، وذكر القاضي الشهيد الاختلاف على القلب فقال في قول أبي حنيفة وأبي يوسف : لا يكون للتجارة ، وفي قول محمد : يكون للتجارة .

                                                                                                                                وجه قول من قال : إنه لا يكون للتجارة أن النية لم تقارن عملا هو تجارة وهي مبادلة المال بالمال فكان الحاصل مجرد النية فلا تعتبر .

                                                                                                                                ووجه القول الآخر أن التجارة عقد اكتساب المال وما لا يدخل في ملكه إلا بقبوله فهو حاصل بكسبه فكانت نيته مقارنة لفعله فأشبه قرانها بالشراء والإجارة .

                                                                                                                                والقول الأول أصح ; لأن التجارة كسب المال ببدل ما هو مال ، والقبول اكتساب المال بغير بدل أصلا فلم تكن من باب التجارة فلم تكن النية مقارنة عمل التجارة .

                                                                                                                                ولو استقرض عروضا ونوى أن تكون للتجارة اختلف المشايخ فيه ، قال بعضهم : يصير للتجارة ; لأن القرض ينقلب معاوضة المال بالمال في العاقبة ، وإليه أشار في الجامع أن من كان له مائتا درهم لا مال له غيرها فاستقرض قبل حولان الحول بيوم من رجل خمسة أقفزة لغير التجارة ولم تستهلك الأقفزة حتى حال الحول لا زكاة عليه في المائتين ويصرف الدين إلى مال الزكاة دون الجنس الذي ليس بمال الزكاة فقوله : استقرض لغير التجارة دليل أنه لو استقرض للتجارة يصير للتجارة وقال بعضهم : لا يصير للتجارة وإن نوى ; لأن القرض إعارة وهو تبرع لا تجارة فلم توجد نية التجارة مقارنة للتجارة فلا تعتبر .

                                                                                                                                ولو اشترى عروضا للبذلة والمهنة ثم نوى أن تكون للتجارة بعد ذلك لا تصير للتجارة ما لم يبعها فيكون بدلها للتجارة ، فرق بين هذا وبين ما إذا كان له مال التجارة فنوى أن يكون للبذلة حيث يخرج من أن يكون للتجارة وإن لم يستعمله ; لأن النية لا تعتبر ما لم تتصل بالفعل وهو ليس بفاعل فعل التجارة فقد عزبت النية عن فعل التجارة فلا تعتبر للحال بخلاف ما إذا نوى الابتذال ; لأنه نوى ترك التجارة وهو تارك لها في الحال فاقترنت النية بعمل هو ترك التجارة فاعتبرت .

                                                                                                                                ونظير الفصلين السفر مع الإقامة وهو أن المقيم إذا نوى السفر لا يصير مسافرا ما لم يخرج عن عمران المصر ، والمسافر إذا نوى الإقامة في مكان صالح للإقامة يصير مقيما للحال .

                                                                                                                                ونظيرهما من غير هذا الجنس الكافر إذا نوى أن يسلم بعد شهر لا يصير مسلما للحال ، والمسلم إذا قصد أن يكفر بعد سنين والعياذ بالله فهو كافر للحال .

                                                                                                                                ولو أنه اشترى بهذه العروض التي اشتراها للابتذال بعد ذلك عروضا أخر تصير بدلها للتجارة بتلك النية السابقة .

                                                                                                                                وكذلك في الفصول التي ذكرنا أنه نوى للتجارة في الوصية والقرض ومبادلة مال بما ليس بمال إذا اشترى بتلك العروض عروضا أخر صارت للتجارة ; لأن النية قد وجدت حقيقة إلا أنها لم تعمل للحال ; لأنها لم تصادف عمل التجارة فإذا وجدت التجارة بعد ذلك عملت النية السابقة عملها فيصير المال للتجارة لوجود نية التجارة مع التجارة .

                                                                                                                                وأما الدلالة فهي أن يشتري عينا من الأعيان بعرض التجارة ، أو يؤاجر داره التي للتجارة بعرض من العروض فيصير للتجارة وإن لم ينو التجارة صريحا ; لأنه لما اشترى بمال التجارة فالظاهر أنه نوى به التجارة .

                                                                                                                                وأما الشراء بغير مال التجارة فلا يشكل .

                                                                                                                                وأما إجارة الدار فلأن بدل منافع عين معدة للتجارة كبدل عين معدة للتجارة في أنه للتجارة كذا ذكر في كتاب الزكاة من الأصل .

                                                                                                                                وذكر في الجامع ما يدل على أنه لا يكون للتجارة إلا بالنية صريحا فإنه قال : وإن كانت الأجرة جارية تساوي ألف درهم .

                                                                                                                                وكانت عند المستأجر للتجارة فأجر المؤجر داره بها وهو يريد التجارة شرط النية عند الإجارة لتصير الجارية للتجارة ولم يذكر أن الدار للتجارة أو لغير التجارة فهذا يدل على أن النية شرط ليصير بدل منافع الدار [ ص: 13 ] المستأجرة للتجارة وإن كانت الدار معدة للتجارة فكان في المسألة روايتان ومشايخ بلخ كانوا يصححون رواية الجامع ويقولون : إن العين وإن كانت للتجارة لكن قد يقصد ببدل منافعها المنفعة فيؤاجر الدابة لينفق عليها والدار للعمارة فلا تصير للتجارة مع التردد إلا بالنية وأما إذا اشترى عروضا بالدراهم أو بالدنانير أو بما يكال أو يوزن موصوفا في الذمة فإنها لا تكون للتجارة ما لم ينو التجارة عند الشراء وإن كانت الدراهم والدنانير أثمانا والموصوف في الذمة من المكيل والموزون أثمان عند الناس ; ولأنها كما جعلت ثمنا لمال التجارة جعلت ثمنا لشراء ما يحتاج إليه للابتذال والقوت فلا يتعين الشراء به للتجارة مع الاحتمال وعلى هذا لو اشترى المضارب بمال المضاربة عبيدا ثم اشترى لهم كسوة وطعاما للنفقة كان الكل للتجارة .

                                                                                                                                وتجب الزكاة في الكل ; لأن نفقة عبيد المضاربة من مال المضاربة فمطلق تصرفه ينصرف إلى ما يملك دون ما لا يملك حتى لا يصير خائنا وعاصيا عملا بدينه وعقله ، وإن نص على النفقة ، وبمثله المالك إذا اشترى عبيدا للتجارة ثم اشترى لهم ثيابا للكسوة وطعاما للنفقة فإنه لا يكون للتجارة ; لأن المالك كما يملك الشراء للتجارة يملك الشراء للنفقة والبذلة وله أن ينفق من مال التجارة وغير مال التجارة فلا يتعين للتجارة إلا بدليل زائد .

                                                                                                                                وأما الأجراء الذين يعملون للناس نحو الصباغين والقصارين والدباغين إذا اشتروا الصبغ والصابون والدهن ونحو ذلك مما يحتاج إليه في عملهم ونووا عند الشراء أن ذلك للاستعمال في عملهم هل يصير ذلك مال التجارة ؟ روى بشر بن الوليد عن أبي يوسف أن الصباغ إذا اشترى العصفر والزعفران ليصبغ ثياب الناس فعليه فيه الزكاة ، والحاصل أن هذا على وجهين : إن كان شيئا يبقى أثره في المعمول فيه كالصبغ والزعفران والشحم الذي يدبغ به الجلد فإنه يكون مال التجارة ; لأن الأجر يكون مقابلة ذلك الأثر وذلك الأثر مال قائم فإنه من أجزاء الصبغ والشحم لكنه لطيف فيكون هذا تجارة ، وإن كان شيئا لا يبقى أثره في المعمول فيه مثل الصابون والأشنان والقلي والكبريت فلا يكون مال التجارة ; لأن عينها تتلف ولم ينتقل أثرها إلى الثوب المغسول حتى يكون له حصة من العوض بل البياض أصلي للثوب يظهر عند زوال الدرن فما يأخذ من العوض يكون بدل عمله لا بدل هذه الآلات فلم يكن مال التجارة .

                                                                                                                                وأما آلات الصناع وظروف أمتعة التجارة لا تكون مال التجارة ; لأنها لا تباع مع الأمتعة عادة وقالوا في نخاس الدواب إذا اشترى المقاود والجلال والبراذع أنه إن كان يباع مع الدواب عادة يكون للتجارة ; لأنها معدة لها وإن كان لا يباع معها ولكن تمسك وتحفظ بها الدواب فهي من آلات الصناع فلا يكون مال التجارة ، إذا لم ينو التجارة عند شرائها وقال أصحابنا في عبد التجارة قتله عبد خطأ فدفع به أن الثاني للتجارة ; لأنه عوض مال التجارة .

                                                                                                                                وكذا إذا فدى بالدية من العروض والحيوان .

                                                                                                                                وأما إذا قتله عمدا فصالح المولى من الدية على العبد القاتل أو على شيء من العروض لا يكون مال التجارة ; لأنه عوض القصاص لا عوض العبد المقتول ، والقصاص ليس بمال والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية