الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان جنس الواجب وقدره وصفته أما جنسه وقدره فهو نصف صاع من حنطة ، أو صاع من شعير ، أو صاع من تمر وهذا عندنا .

                                                                                                                                وقال الشافعي : من الحنطة صاع .

                                                                                                                                واحتج بما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : كنت أؤدي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من بر ، ولنا ما روينا من حديث ثعلبة بن صغير العذري أنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال { : أدوا عن كل حر وعبد نصف صاع من بر ، أو صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير } وذكر إمام الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي أن عشرة من الصحابة رضي الله عنهم منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر نصف صاع من بر واحتج بروايتهم .

                                                                                                                                وأما حديث أبي سعيد فليس فيه دليل الوجوب بل هو حكاية عن فعله فيدل على الجواز وبه نقول فيكون الواجب نصف صاع وما زاد يكون تطوعا على أن المروي من لفظ أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال { : كنت أخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام ، صاعا من تمر ، صاعا من شعير } وليس فيه ذكر البر فيجعل قوله صاعا من تمر صاعا من شعير تفسيرا لقوله { صاعا من طعام } ، ودقيق الحنطة وسويقها كالحنطة ، ودقيق الشعير وسويقه كالشعير عندنا ، وعند الشافعي لا يجزئ بناء على أصله من اعتبار المنصوص عليه ، وعندنا المنصوص عليه معلول بكونه مالا متقوما على الإطلاق لما نذكر وذكر المنصوص عليه للتيسير ; لأنهم كانوا يتبايعون بذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الدقيق منصوص عليه لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { أدوا قبل الخروج زكاة الفطر فإن على كل مسلم مدا من قمح ، أو دقيق } .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه قال : الدقيق أحب إلي من الحنطة ، والدراهم أحب إلي من الدقيق ، والحنطة ; لأن ذلك أقرب إلى دفع حاجة الفقير واختلفت الرواية عن أبي حنيفة في الزبيب ذكر في الجامع الصغير نصف صاع وروى الحسن وأسد بن عمرو عن أبي حنيفة صاعا من زبيب .

                                                                                                                                وهو قول أبي يوسف ومحمد

                                                                                                                                وجه هذه الرواية ما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من تمر ، أو صاعا من زبيب وكان طعامنا الشعير ولأن الزبيب لا يكون مثل الحنطة في التغذي بل يكون أنقص منها كالشعير ، والتمر فكان التقدير فيه بالصاع كما في الشعير ، والتمر .

                                                                                                                                وجه رواية الجامع أن قيمة الزبيب تزيد على قيمة الحنطة في العادة ثم اكتفي من الحنطة بنصف صاع فمن الزبيب أولى .

                                                                                                                                ويمكن التوفيق بين القولين بأن يجعل الواجب فيه بطريق القيمة فكانت قيمته في عصر أبي حنيفة مثل قيمة الحنطة وفي عصرهما كانت قيمته مثل قيمة الشعير ، والتمر وعلى هذا أيضا يحمل اختلاف الروايتين عن أبي حنيفة .

                                                                                                                                وأما الأقط [ ص: 73 ] فتعتبر فيه القيمة لا يجزئ إلا باعتبار القيمة ، وقال مالك : يجوز أن يخرج صاعا من أقط وهذا غير سديد ; لأنه غير منصوص عليه من وجه يوثق به وجواز ما ليس بمنصوص عليه لا يكون إلا باعتبار القيمة كسائر الأعيان التي لم يقع التنصيص عليها من النبي صلى الله عليه وسلم وقال الشافعي : لا أحب أن يخرج الأقط فإن أخرج صاعا من أقط لم يتبين لي أن عليه الإعادة ، والصاع ثمانية أرطال بالعراقي عند أبي حنيفة ومحمد ، وعند أبي يوسف خمسة أرطال وثلث رطل بالعراقي وهو قول الشافعي .

                                                                                                                                وجه قوله إن صاع المدينة خمسة أرطال وثلث رطل ونقلوا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفا عن سلف ولهما ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال { : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ، والمد رطلان ويغتسل بالصاع ، والصاع ثمانية أرطال } وهذا نص ولأن هذا صاع عمر رضي الله عنه .

                                                                                                                                ونقل أهل المدينة لم يصح ; لأن مالكا من فقهائهم يقول : صاع المدينة ثبت بتحري عبد الملك بن مروان فلم يصح النقل وقد ثبت أن صاع عمر رضي الله عنه ثمانية أرطال فالعمل بصاع عمر أولى من العمل بصاع عبد الملك ، ثم المعتبر أن يكون ثمانية أرطال وزنا وكيلا وروى الحسن عن أبي حنيفة وزنا وروي عن محمد كيلا حتى لو وزن وأدى جاز عند أبي حنيفة وعند محمد لا يجوز قال الطحاوي : الصاع ثمانية أرطال فيما يستوي كيله ووزنه وهو العدس ، والماش ، والزبيب ، وإذا كان الصاع يسع ثمانية أرطال من العدس ، والماش فهو الصاع الذي يكال به الشعير ، والتمر .

                                                                                                                                وجه ما ذكره الطحاوي أن من الأشياء بما لا يختلف كيله ووزنه كالعدس ، والماش وما سواهما يختلف منها ما يكون وزنه أكثر من كيله كالشعير ومنها ما يكون كيله أكثر من وزنه كالملح فيجب تقدير المكاييل بما لا يختلف وزنه وكيله كالعدس ، والماش فإذا كان المكيال يسع ثمانية أرطال من ذلك فهو الصاع الذي يكال به الشعير ، والتمر .

                                                                                                                                وجه قول محمد إن النص ورد باسم الصاع وأنه مكيال لا يختلف وزن ما يدخل فيه خفة وثقلا فوجب اعتبار الكيل المنصوص عليه .

                                                                                                                                وجه قول أبي حنيفة إن الناس إذا اختلفوا في صاع يقدرونه بالوزن فدل أن المعتبر هو الوزن وأما صفة الواجب فهو أن وجوب المنصوص عليه من حيث إنه مال متقوم على الإطلاق لا من حيث إنه عين فيجوز أن يعطي عن جميع ذلك القيمة دراهم ، أو دنانير ، أو فلوسا ، أو عروضا ، أو ما شاء وهذا عندنا .

                                                                                                                                وقال الشافعي : لا يجوز إخراج القيمة وهو على الاختلاف في الزكاة .

                                                                                                                                وجه قوله إن النص ورد بوجوب أشياء مخصوصة ، وفي تجويز القيمة يعتبر حكم النص وهذا لا يجوز ولنا أن الواجب في الحقيقة إغناء الفقير لقوله صلى الله عليه وسلم { أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم } ، والإغناء يحصل بالقيمة بل أتم وأوفر ; لأنها أقرب إلى دفع الحاجة وبه تبين أن النص معلول بالإغناء وأنه ليس في تجويز القيمة يعتبر حكم النص في الحقيقة .

                                                                                                                                والله الموفق .

                                                                                                                                ولا يجوز أداء المنصوص عليه بعضه عن بعض باعتبار القيمة سواء كان الذي أدى عنه من جنسه ، أو من خلاف جنسه بعد أن كان منصوصا عليه ، فكما لا يجوز إخراج الحنطة عن الحنطة باعتبار القيمة بأن أدى نصف صاع من حنطة جيدة عن صاع من حنطة وسط لا يجوز إخراج غير الحنطة عن الحنطة باعتبار القيمة بأن أدى نصف صاع من تمر تبلغ قيمته قيمة نصف صاع من الحنطة عن الحنطة بل يقع عن نفسه وعليه تكميل الباقي وإنما كان كذلك ; لأن القيمة لا تعتبر في المنصوص عليه وإنما تعتبر في غيره وهذا يؤيد قول من يقول من أهل الأصول إن الحكم في المنصوص عليه يثبت بعين النص لا بمعنى النص وإنما يعتبر المعنى لإثبات الحكم في غير المنصوص عليه وهو مذهب مشايخ العراق وأما التخريج على قول من يقول إن الحكم في المنصوص عليه يثبت بالمعنى أيضا وهو قول مشايخنا بسمرقند وأما في الجنس فظاهر ; لأن بعض الجنس المنصوص عليه إنما يقوم مقام كله باعتبار القيمة وهي الجودة ، والجودة في أموال الربا لا قيمة لها شرعا عند مقابلتها بجنسها لقول النبي صلى الله عليه وسلم { جيدها ورديئها سواء } أسقط اعتبار الجودة ، ، والساقط شرعا ملحق بالساقط حقيقة .

                                                                                                                                وأما في خلاف الجنس فوجه التخريج أن الواجب في ذمته في صدقة الفطر عند هجوم وقت الوجوب أحد شيئين إما عين المنصوص عليه وإما القيمة ومن عليه بالخيار إن شاء أخرج العين وإن شاء أخرج القيمة ولأيهما اختار تبين أنه هو الواجب من الأصل فإذا أدى بعض عين المنصوص عليه تعين واجبا [ ص: 74 ] من الأصل فيلزمه تكميله وهذا التخريج في صدقة الفطر صحيح ; لأن الواجب ههنا في الذمة .

                                                                                                                                ألا ترى أنه لا يسقط بهلاك النصاب بخلاف الزكاة فإن الواجب هناك في النصاب ; لأنه ربع العشر وهو جزء من النصاب حتى يسقط بهلاك النصاب لفوات محل الوجوب .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية