الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما المتمتع في عرف الشرع : فهو اسم لآفاقي يحرم بالعمرة ، ويأتي بأفعالها من الطواف والسعي ، أو يأتي بأكثر ركنها .

                                                                                                                                وهو الطواف أربعة أشواط أو أكثر في أشهر الحج ، ثم يحرم بالحج في أشهر الحج ، ويحج من عامه ذلك قبل أن يلم بأهله فيما بين ذلك إلماما صحيحا ، فيحصل له النسكان في سفر واحد ، سواء حل من إحرام العمرة بالحلق أو التقصير ، أو لم يحل ، إذا كان ساق الهدي لمتعته فإنه لا يجوز التحلل بينهما .

                                                                                                                                ويحرم بالحج قبل أن يحل من إحرام العمرة ، وهذا عندنا .

                                                                                                                                وقال الشافعي : سوق الهدي لا يمنع من التحلل فصار المتمتع نوعين : متمتع لم يسق الهدي ، ومتمتع ساق الهدي فالذي لم يسق الهدي يجوز له التحلل إذا فرغ من أفعال العمرة بلا خلاف ، وإذا تحلل صار حلالا كسائر المتحللين إلى أن يحرم بالحج ; لأنه إذا تحلل من العمرة فقد خرج منها ، ولم يبق عليه شيء فيقيم بمكة حلالا أي لا يلم بأهله ; لأن الإلمام بالأهل يفسد التمتع .

                                                                                                                                وأما الذي ساق الهدي ، فإنه لا يحل له التحلل إلا يوم النحر بعد الفراغ من الحج عندنا ، وعند الشافعي يحل له التحلل ، وسوق الهدي لا يمنع من التحلل ، والصحيح قولنا لما روي عن أنس رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلقوا إلا من كان معه الهدي } ، وفي حديث أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من كان معه هدي فليقم على إحرامه ومن لم يكن معه هدي فليحلق } .

                                                                                                                                وروي { أنه لما أمر أصحابه أن يحلقوا قالوا له : إنك لم تحل ، فقال : إني سقت الهدي فلا أحل من إحرامي إلى يوم النحر } .

                                                                                                                                وقال : صلى الله عليه وسلم { لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي وتحللت كما أحلوا } فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي منعه من الحل سوق الهدي ، ولأن لسوق الهدي أثرا في الإحرام حتى يصير به داخلا في الإحرام ، فجاز أن يكون له أثر في حال البقاء حتى يمنع من التحلل ، وسواء كان إحرامه للعمرة في أشهر الحج أو قبلها عندنا ، بعد أن يأتي بأفعال العمرة أو ركنها أو بأكثر الركن في الأشهر أنه يكون متمتعا .

                                                                                                                                وعند الشافعي شرط كونه متمتعا : الإحرام بالعمرة في الأشهر ، حتى لو أحرم بها قبل الأشهر لا يكون متمتعا ، وإن أتى بأفعالها في الأشهر ، والكلام فيه بناء على أصل قد ذكرناه فيما تقدم ، وهو أن الإحرام عنده ركن فكان من أفعال العمرة ، فلا بد من وجود أفعال العمرة في أشهر الحج ، ولم يوجد بل وجد بعضها في الأشهر .

                                                                                                                                وعندنا ليس بركن ، بل هو شرط فتوجد [ ص: 169 ] أفعال العمرة في الأشهر فيكون متمتعا ، وليس لأهل مكة ، ولا لأهل داخل المواقيت التي بينها وبين مكة : قران ولا تمتع .

                                                                                                                                وقال الشافعي : يصح قرانهم وتمتعهم .

                                                                                                                                وجه قوله قوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } من غير فصل بين أهل مكة وغيرهم ، ولنا قوله تعالى : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } جعل التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام على الخصوص ; لأن اللام للاختصاص ثم حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة وأهل الحل الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة .

                                                                                                                                وقال مالك : هم أهل مكة خاصة ; لأن معنى الحضور لهم .

                                                                                                                                وقال الشافعي : هم أهل مكة .

                                                                                                                                ومن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة ; لأنه إذا كان كذلك كان من توابع مكة ، وإلا فلا ، والصحيح قولنا ; لأن الذين هم داخل المواقيت الخمسة منازلهم من توابع مكة ، بدليل أنه يحل لهم أن يدخلوا مكة لحاجة بغير إحرام ، فكانوا في حكم حاضري المسجد الحرام .

                                                                                                                                وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال : ليس لأهل مكة تمتع ، ولا قران ، ولأن دخول العمرة في أشهر الحج ثبت رخصة لقوله تعالى : { الحج أشهر معلومات } قيل في بعض وجوه التأويل : أي للحج أشهر معلومات ، واللام للاختصاص فيقتضي اختصاص هذه الأشهر بالحج ، وذلك بأن لا يدخل فيها غيره إلا أن العمرة دخلت فيها رخصة للآفاقي ضرورة تعذر إنشاء السفر للعمرة نظرا له بإسقاط أحد السفرين ، وهذا المعنى لا يوجد في حق أهل مكة .

                                                                                                                                ومن بمعناهم فلم تكن العمرة مشروعة في أشهر الحج في حقهم .

                                                                                                                                وكذا روي عن ذلك الصحابي أنه قال : كنا نعد العمرة في أشهر الحج من أكبر الكبائر ثم رخص ، والثابت بطريق الرخصة يكون ثابتا بطريق الضرورة ، والضرورة في حق أهل الآفاق لا في حق أهل مكة على ما بينا ، فبقيت العمرة في أشهر الحج في حقهم معصية ، ولأن من شرط التمتع أن تحصل العمرة والحج للمتمتع في أشهر الحج من غير أن يلم بأهله فيما بينهما .

                                                                                                                                وهذا لا يتحقق في حق المكي ; لأنه يلم بأهله فيما بينهما لا محالة فلم يوجد شرط التمتع في حقه .

                                                                                                                                ولو جمع المكي بين العمرة والحج في أشهر الحج فعليه دم ، لكن دم كفارة الذنب لا دم نسك ، شكرا للنعمة عندنا حتى لا يباح له أن يأكل منه ، ولا يقوم الصوم مقامه إذا كان معسرا ، وعنده هو دم نسك ، يجوز له أن يأكل منه ، ويقوم الصوم مقامه إذا لم يجد الهدي .

                                                                                                                                ولو أحرم الآفاقي بالعمرة قبل أشهر الحج فدخل مكة محرما بالعمرة ، وهو يريد التمتع فينبغي أن يقيم محرما حتى تدخل أشهر الحج فيأتي بأفعال العمرة ، ثم يحرم بالحج ويحج من عامه ذلك فيكون متمتعا ، فإن أتى بأفعال العمرة أو بأكثرها قبل أشهر الحج ثم دخل أشهر الحج فأحرم بالحج وحج من عامه ذلك ، لم يكن متمتعا ; لأنه لم يتم له الحج والعمرة في أشهر الحج .

                                                                                                                                ولو أحرم بعمرة أخرى بعد ما دخل أشهر الحج لم يكن متمتعا في قولهم جميعا ; لأنه صار في حكم أهل مكة بدليل أنه صار ميقاتهم ميقاته ، فلا يصح له التمتع إلا أن يعود إلى أهله ثم يعود إلى مكة محرما بالعمرة في قول أبي حنيفة ، وفي قولهما : إلا أن يعود إلى أهله أو إلى موضع يكون لأهله التمتع والقران على ما نذكر .

                                                                                                                                ولو أحرم من لا تمتع له من المكي ونحوه بعمرة ، ثم أحرم بحجة يلزمه رفض أحدهما ; لأن الجمع بينهما معصية ، والنزوع عن المعصية لازم ثم ينظر : إن أحرم بعمرة ثم أحرم بحجة قبل أن يطوف لعمرته رأسا فإنه يرفض العمرة ; لأنها أقل عملا ، والحج أكثر عملا فكانت العمرة أخف مؤنة من الحجة فكان رفضها أيسر ، ولأن المعصية حصلت بسببها ; لأنها هي التي دخلت في وقت الحج فكانت أولى بالرفض ، ويمضي على حجته ، وعليه لرفض عمرته دم ، وعليه قضاء العمرة لما نذكر ، وإن كان طاف لعمرته جميع الطواف أو أكثره لا يرفض العمرة ، بل يرفض الحج ; لأن العمرة مؤداة ، والحج غير مؤدى فكان رفض الحج امتناعا عن الأداء ، ورفض العمرة إبطالا للعمل ، والامتناع عن العمل دون إبطال العمرة فكان أولى ، وإن كان طاف لها شوطا أو شوطين أو ثلاثة يرفض الحج في قول أبي حنيفة ، وفي قول أبي يوسف ، ومحمد يرفض العمرة .

                                                                                                                                وجه قولهما أن رفض العمرة أدنى ، وأخف مؤنة ، ألا ترى أنها سميت الحجة الصغرى فكانت أولى بالرفض ، ولا عبرة بالقدر المؤدى منها ; لأنه أقل ، والأكثر غير مؤدى ، والأقل بمقابلة الأكثر ملحق بالعدم فكأنه لم يؤد شيئا منها ، والله أعلم .

                                                                                                                                ولأبي حنيفة أن رفض الحجة امتناع من العمل ، ورفض العمرة إبطال للعمل ، والامتناع دون الإبطال فكان أولى ، وبيان ذلك أنه لم يوجد للحج عمل ; لأنه لم يوجد له إلا الإحرام ، وأنه ليس من [ ص: 170 ] الأداء في شيء ; لأنه شرط وليس بركن عندنا على ما بينا فيما تقدم ، فلا يكون رفض الحج إبطالا للعمل بل يكون امتناعا ، فأما العمرة فقد أدى منها شيئا وإن قل ، وكان رفضها إبطالا لذلك القدر من العمل ، فكان الامتناع أولى لما قلنا ، وإذا رفض الحجة عنه فعليه لرفضها دم ، وقضاء حجة ، وعمرة ، وإذا رفض العمرة عندهما فعليه لرفضها دم وقضاء عمرة ، والأصل في جنس هذه المسائل أن كل من لزمه رفض عمرة فرفضها ، فعليه لرفضها دم ; لأنه تحلل منها قبل وقت التحلل ، فيلزمه الدم كالمحصر ، وعليه عمرة مكانها قضاء ; لأنها قد وجبت عليه بالشروع ، فإذا أفسدها يقضيها .

                                                                                                                                وكل من لزمه رفض حجة فرفضها فعليه لرفضها دم ، وعليه حجة وعمرة أما لزوم الدم لرفضها فلما ذكرنا في العمرة .

                                                                                                                                وأما لزوم الحجة والعمرة ، فأما الحجة فلوجوبها بالشروع ، وأما العمرة فلعدم إتيانه بأفعال الحجة في السنة التي أحرم فيها فصار كفائت الحج ، فيلزمه العمرة كما يلزم فائت الحج ، فإن أحرم بالحجة من سنته فلا عمرة عليه ، وكل من لزمه رفض أحدهما فمضى فيها فعليه دم ; لأن الجمع بينهما معصية فقد أدخل النقص في أحدهما فيلزمه دم ، لكنه يكون دم كفارة لا دم متعة ، حتى لا يجوز له أن يأكل منه ، ولا يجزئه الصوم إن كان معسرا .

                                                                                                                                ومما يتصل بهذه المسائل ما إذا أحرم بحجتين معا أو بعمرتين معا ، قال أبو حنيفة وأبو يوسف : لزمتاه جميعا .

                                                                                                                                وقال محمد : لا يلزمه إلا إحداهما ، وبه أخذ الشافعي .

                                                                                                                                وجه قول محمد أنه إذا أحرم بعبادتين لا يمكنه المضي فيهما جميعا ، فلا ينعقد إحرامه بهما جميعا ، كما لو أحرم بصلاتين أو صومين ، بخلاف ما إذا أحرم بحجة وعمرة ; لأن المضي فيهما ممكن فيصح إحرامه بهما كما لو نوى صوما وصلاة ، ولأبي حنيفة وأبي يوسف أنه أحرم بما يقدر عليه في وقتين ، فيصح إحرامه كما لو أحرم بحجة وعمرة معا ، وثمرة هذا الاختلاف تظهر في وجوب الجزاء ، إذا قتل صيدا عندهما يجب جزاءان لانعقاد الإحرام بهما جميعا .

                                                                                                                                وعنده يجب جزاء واحد لانعقاد الإحرام بإحداهما ، ثم اختلف أبو حنيفة وأبو يوسف في وقت ارتفاض إحداهما عند أبي يوسف يرتفض عقيب الإحرام بلا فصل ، وعن أبي حنيفة روايتان : في الرواية المشهورة عنه يرتفض إذا قصد مكة ، وفي رواية لا يرتفض حتى يبتدئ بالطواف .

                                                                                                                                ولو أحرم الآفاقي بالعمرة فأداها في أشهر الحج وفرغ منها ، وحل من عمرته ، ثم عاد إلى أهله حلالا ، ثم رجع إلى مكة وأحرم بالحج ، وحج من عامه ذلك : لم يكن متمتعا حتى لا يلزمه الهدي بل يكون مفردا بعمرة ، ومفردا بحجة ; لأنه ألم بأهله بين الإحرامين إلماما صحيحا ، وهذا يمنع التمتع .

                                                                                                                                وقال الشافعي : لا أعرف الإلمام ، ونحن نقول : إن كنت لا تعرف معناه لغة فمعناه في اللغة القرب ، يقال : ألم به أي قرب منه .

                                                                                                                                وإن كنت لا تعرف حكمه شرعا ، فحكمه أن يمنع التمتع لما روي عن عمر ، وابن عمر : رضي الله عنهما أن المتمتع إذا أقام بمكة صح تمتعه ، وإن عاد إلى أهله بطل تمتعه

                                                                                                                                وكذا روي عن جماعة من التابعين مثل سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النخعي ، وطاوس ، وعطاء رضي الله عنهم أنهم قالوا كذلك ، ومثل هذا لا يعرف رأيا واجتهادا ، فالظاهر سماعهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن التمتع في حق الآفاقي ثبت رخصة ليجمع بين النسكين ، ويصل أحدهما بالآخر في سفر واحد من غير أن يتخلل بينهما ما ينافي النسك ، وهو الارتفاق ، ولما ألم بأهله فقد حصل له مرافق الوطن فبطل الاتصال ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية