الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وأما تدبير الحركة والسكون ، وهو الرياضة ، فنذكر منها فصلا يعلم منه مطابقة هديه في ذلك لأكمل أنواعه وأحمدها وأصوبها ، فنقول :

من المعلوم افتقار البدن في بقائه إلى الغذاء والشراب ، ولا يصير الغذاء بجملته جزءا من البدن ، بل لا بد أن يبقى منه عند كل هضم بقية ما ، إذا كثرت على ممر الزمان اجتمع منها شيء له كمية وكيفية ، فيضر بكميته بأن يسد ويثقل البدن ، ويوجب أمراض الاحتباس ، وإن استفرغ تأذى البدن بالأدوية ، لأن أكثرها سمية ، ولا تخلو من إخراج الصالح المنتفع به ، ويضر بكيفيته بأن يسخن بنفسه ، أو بالعفن ، أو يبرد بنفسه ، أو يضعف الحرارة الغريزية عن إنضاجه .

وسدد الفضلات لا محالة ضارة تركت ، أو استفرغت ، والحركة أقوى [ ص: 226 ] الأسباب في منع تولدها ، فإنها تسخن الأعضاء ، وتسيل فضلاتها ، فلا تجتمع على طول الزمان ، وتعود البدن الخفة والنشاط ، وتجعله قابلا للغذاء ، وتصلب المفاصل ، وتقوي الأوتار والرباطات ، وتؤمن جميع الأمراض المادية وأكثر الأمراض المزاجية إذا استعمل القدر المعتدل منها في وقته ، وكان باقي التدبير صوابا .

ووقت الرياضة بعد انحدار الغذاء ، وكمال الهضم ، والرياضة المعتدلة هي التي تحمر فيها البشرة ، وتربو ويتندى بها البدن ، وأما التي يلزمها سيلان العرق فمفرطة ، وأي عضو كثرت رياضته قوي ، وخصوصا على نوع تلك الرياضة ، بل كل قوة فهذا شأنها ، فإن من استكثر من الحفظ قويت حافظته ، ومن استكثر من الفكر قويت قوته المفكرة ، ولكل عضو رياضة تخصه، فللصدر القراءة ، فليبتدئ فيها من الخفية إلى الجهر بتدريج ، ورياضة السمع بسمع الأصوات والكلام بالتدريج ، فينتقل من الأخف إلى الأثقل ، وكذلك رياضة اللسان في الكلام ، وكذلك رياضة البصر ، وكذلك رياضة المشي بالتدريج شيئا فشيئا .

وأما ركوب الخيل ورمي النشاب ، والصراع ، والمسابقة على الأقدام ، فرياضة للبدن كله ، وهي قالعة لأمراض مزمنة ، كالجذام والاستسقاء ، والقولنج .

ورياضة النفوس بالتعلم والتأدب ، والفرح والسرور ، والصبر والثبات ، والإقدام والسماحة ، وفعل الخير ، ونحو ذلك مما ترتاض به النفوس ، ومن أعظم رياضتها : الصبر والحب ، والشجاعة والإحسان ، فلا تزال ترتاض بذلك شيئا فشيئا حتى تصير لها هذه الصفات هيئات راسخة ، وملكات ثابتة .

وأنت إذا تأملت هديه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، وجدته أكمل هدي حافظ للصحة والقوى ، ونافع في المعاش والمعاد .

ولا ريب أن الصلاة نفسها فيها من حفظ صحة البدن ، وإذابة أخلاطه وفضلاته ما هو من أنفع شيء له سوى ما فيها من حفظ صحة الإيمان ، وسعادة [ ص: 227 ] الدنيا والآخرة ، وكذلك قيام الليل من أنفع أسباب حفظ الصحة ، ومن أمنع الأمور لكثير من الأمراض المزمنة ، ومن أنشط شيء للبدن والروح والقلب ، كما في " الصحيحين " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة : عليك ليل طويل ، فارقد ، فإن هو استيقظ ، فذكر الله انحلت عقدة ، فإن توضأ انحلت عقدة ثانية ، فإن صلى انحلت عقده كلها ، فأصبح نشيطا طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ) .

وفي الصوم الشرعي من أسباب حفظ الصحة ورياضة البدن والنفس ما لا يدفعه صحيح الفطرة .

وأما الجهاد وما فيه من الحركات الكلية التي هي من أعظم أسباب القوة ، وحفظ الصحة ، وصلابة القلب والبدن ، ودفع فضلاتهما ، وزوال الهم والغم والحزن ، فأمر إنما يعرفه من له منه نصيب .

وكذلك الحج وفعل المناسك ، وكذلك المسابقة على الخيل وبالنصال ، والمشي في الحوائج ، وإلى الإخوان ، وقضاء حقوقهم ، وعيادة مرضاهم ، وتشييع جنائزهم ، والمشي إلى المساجد للجمعات والجماعات ، وحركة الوضوء ، والاغتسال ، وغير ذلك .

وهذا أقل ما فيه الرياضة المعينة على حفظ الصحة ، ودفع الفضلات ، وأما ما شرع له من التوصل به إلى خيرات الدنيا والآخرة ، ودفع شرورهما ، فأمر وراء ذلك .

فعلمت أن هديه فوق كل هدي في طب الأبدان والقلوب ، وحفظ صحتها ، ودفع أسقامهما ، ولا مزيد على ذلك لمن قد أحضر رشده ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية