الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              فإن التصرفات العدلية في الأرض جنسان : معاوضات ، ومشاركات .

              فالمعاوضات : كالبيع والإجارة .

              والمشاركات : شركة الأملاك ، وشركة العقد .

              ويدخل في ذلك اشتراك المسلمين في مال بيت المال ، واشتراك الناس في المباحات ، كمنافع المساجد والأسواق المباحة والطرقات ، وما يحيا من الموات ، أو يوجد من المباحات ، واشتراك الورثة في الميراث ، واشتراك الموصى لهم والموقوف عليهم في الوصية والوقف ، واشتراك التجار والصناع شركة عنان أو أبدان ونحو ذلك . وهذان الجنسان هما منشأ الظلم ، كما قال تعالى عن داود عليه السلام : ( وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ) [ص : 24 ] .

              [ ص: 234 ] والتصرفات الأخرى هي الفضلية ، كالقرض والعارية والهبة والوصية . وإذا كانت التصرفات المبنية على المعادلة هي معاوضة أو مشاركة ، فمعلوم قطعا : أن المساقاة والمزارعة ونحوهما من جنس المشاركة ، ليسا من جنس المعاوضة المحضة ، والغرر إنما حرم بيعه في المعاوضة ; لأنه أكل مال بالباطل . وهنا لا يأكل أحدهما مال الآخر ; لأنه إن لم ينبت الزرع فإن رب الأرض [لم يأخذ] منفعة الآخر ، إذ هو لم يستوفها ولا ملكها بالعقد ولا هي مقصوده ، بل ذهبت منفعة بدنه ، كما ذهبت منفعة أرض هذا ، ورب الأرض لم يحصل له شيء حتى يكون قد أخذه ، والآخر لم يأخذ شيئا ، بخلاف بيوع الغرر وإجارة الغرر ، فإن أحد المتعاوضين يأخذ شيئا والآخر يبقى تحت الخطر ، فيفضي إلى ندم أحدهما وخصومتهما . وهذا المعنى منتف في هذه المشاركات التي مبناها على المعادلة المحضة التي ليس فيها ظلم ألبتة ، لا في غرر ولا في غير غرر .

              ومن تأمل هذا تبين له مأخذ هذه الأصول ، وعلم أن جواز هذه أشبه بأصول الشريعة ، وأعرف في العقول ، وأبعد عن كل محذور من جواز إجارة الأرض ، بل ومن جواز كثير من البيوع والإجارات المجمع عليها ، حيث هي مصلحة محضة للخلق بلا فساد . وإنما وقع اللبس فيها على من حرمها من إخواننا الفقهاء بعد ما فهموه من الآثار : من جهة أنهم اعتقدوا هذا إجارة على عمل مجهول لما فيها من عمل بعوض . وليس كل من عمل لينتفع بعمله يكون أجيرا ، كعمل الشريكين في المال المشترك ، وعمل الشريكين في شركة [ ص: 235 ] الأبدان ، وكاشتراك الغانمين في المغانم ونحو ذلك مما لا يعد ولا يحصى ، نعم ، لو كان أحدهما يعمل بمال يضمنه له الآخر لا يتولد من عمله : كان هذا إجارة .

              الوجه الثاني : أن هذه من جنس المضاربة . فإنها عين تنمو بالعمل عليها ، فجاز العمل عليها ببعض نمائها ، كالدراهم والدنانير ، والمضاربة جوزها الفقهاء كلهم ، اتباعا لما جاء فيها عن الصحابة - رضي الله عنهم - مع أنه لا يحفظ فيها بعينها سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولقد كان أحمد يرى أن يقيس المضاربة على المساقاة والمزارعة ; لأنها ثبتت بالنص ، فتجعل أصلا يقاس عليه ، وإن خالف فيها من خالف . وقياس كل منهما على الآخر صحيح ، فإن من ثبت عنده جواز أحدهما أمكنه أن يستعمل فيه حكم الآخر لتساويهما .

              فإن قيل : الربح في المضاربة ليس من عين الأصل ، بل الأصل يذهب ويجيء بدله . فالمال المقسم حصل بنفس العمل ، بخلاف الثمر والزرع فإنه من نفس الأصل .

              قيل : هذا الفرق فرق في الصورة ، وليس له تأثير شرعي . فإنا نعلم بالاضطرار أن المال المستفاد إنما حصل بمجموع منفعة بدن العامل ومنفعة رأس المال . ولهذا يرد إلى رب المال مثل رأس ماله ويقتسمان الربح ، كما أن العامل يبقى بنفسه التي هي نظير الدراهم . وليست إضافة الربح إلى عمل بدن هذا بأولى من إضافته إلى منفعة مال هذا .

              ولهذا فالمضاربة التي تروونها عن عمر ، إنما حصلت بغير عقد لما أقرض أبو موسى الأشعري لابني عمر من مال بيت المال فتحملاه إلى أبيهما . فطلب عمر جميع الربح ; لأنه رأى ذلك [ ص: 236 ] كالغصب ، حيث أقرضهما ولم يقرض غيرهما من المسلمين ، والمال مشترك ، وأحد الشركاء إذا اتجر في المال المشترك بدون إذن الآخر فهو كالغاصب في نصيب الشريك ، وقال له ابنه عبد الله : " الضمان كان علينا ، فيكون الربح لنا " فأشار عليه بعض الصحابة بأن يجعله مضاربة .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية