الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  معلومات الكتاب

                                                                  موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

                                                                  القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

                                                                  بيان الطريق في معالجة الكبر واكتساب التواضع :

                                                                  اعلم أن الكبر من المهلكات وإزالته فرض عين ، ولا يزول بمجرد التمني ، بل بالمعالجة ، وفي معالجته مقامان :

                                                                  أحدهما : قلع شجرته من مغرسها في القلب .

                                                                  الثاني : دفع العارض منه بالأسباب التي قد يتكبر بها .

                                                                  المقام الأول في استئصال أصله :

                                                                  علاجه علمي وعملي ، ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما :

                                                                  أما العلمي : فهو أن يعرف نفسه ويعرف ربه تعالى ، ويكفيه ذلك في إزالة الكبر ، فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه لا يليق به إلا التواضع ، وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله . أما معرفته ربه وعظمته ومجده فالقول فيه يطول ، وأما معرفته نفسه فهو أيضا يطول ولكنا نذكر من ذلك ما ينفع في إثارة التواضع ، ويكفيه أن يعرف معنى آية واحدة في كتاب الله ، فإن في القرآن علم الأولين والآخرين لمن فتحت بصيرته ، قال تعالى : ( قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره ) [ عبس : 17 22 ] فقد أشارت الآية إلى أول خلق الإنسان وإلى آخر أمره وإلى وسطه ، فلينظر الإنسان ذلك ليفهم معنى هذه الآية ، أما أول الإنسان فهو أنه لم يكن شيئا مذكورا ، وقد كان في حيز العدم دهورا ، وأي شيء أخس من العدم ، ثم خلقه الله من أقذر الأشياء إذ خلقه من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم جعله عظما ثم كسا العظم لحما ، فهذا بداية وجوده ، فما صار شيئا مذكورا إلا وهو على أخس الأوصاف والنعوت ، إذ لم يخلق في ابتدائه كاملا ، بل خلقه جمادا ميتا لا يسمع ، ولا يبصر ، ولا يحس ، ولا يتحرك ، ولا ينطق ، ولا يبطش ، ولا يدرك ، ولا يعلم ، فبدأ بموته قبل حياته ، وبضعفه قبل قوته ، وبجهله قبل علمه ، وبعماه قبل بصره ، وبصممه قبل سمعه ، وببكمه قبل نطقه ، وبضلاله قبل هداه ، وبفقره قبل غناه ، وبعجزه قبل قدرته ، فهذا معنى قوله تعالى : ( من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ) [ عبس : 18 ، 19 ] ثم امتن عليه فقال : ( ثم السبيل يسره ) [ عبس : 20 ] وهذا إشارة إلى ما تيسر له في مدة حياته إلى الموت . وإنما خلقه من التراب الذليل الذي يوطأ بالأقدام والنطفة القذرة بعد عدمها ليعرف خسة ذاته فيعرف بها ذاته ، فيعرف بها نفسه ، وإنما أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربه ويعلم بها عظمته وجلاله ، وأنه لا يليق الكبرياء إلا به جل وعلا .

                                                                  [ ص: 249 ] فمن كان هذا بدأه وهذه أحواله فمن أين له البطر والكبرياء والفخر والخيلاء ، وهو على التحقيق أضعف الضعفاء ، ولكن هذه عادة الخسيس إذا رفع من خسته شمخ بأنفه وتعظم ، وذلك لدلالة خسة أوله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

                                                                  نعم ، لو أكمله وفوض إليه أمره وأدام له الوجود باختياره لجاز أن يطغى وينسى المبدأ والمنتهى ، ولكنه سلط عليه في دوام وجوده الأمراض والآفات يهدم البعض من أجزائه البعض شاء أم أبى ، فيجوع كرها ويعطش كرها ، ويمرض كرها ، ويموت كرها ، لا يملك لنفسه نفعا ، ولا ضرا ، ولا خيرا ، ولا شرا .

                                                                  يريد أن يعلم الشيء فيجهله ، ويريد أن يذكر الشيء فينساه ، ويريد أن ينسى الشيء ويغفل عنه فلا يغفل عنه ، ولا يأمن في لحظة من ليله أو نهاره أن يسلب سمعه وبصره ، وتفلج أعضاؤه ، ويختلس عقله ، ويختطف روحه ، ويسلب جميع ما يهواه في دنياه ، فهو مضطر ذليل ، إن ترك بقي وإن اختطف فني ، عبد مملوك لا يقدر على شيء من نفسه ، ولا شيء من غيره ، فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه ، وأنى يليق الكبر به لولا جهله ، فهذا وسط أحواله فليتأمله . وأما آخره فهو الموت المشار إليه بقوله تعالى : ( ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره ) [ عبس : 21 22 ] ومعناه أنه يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحسه وإدراكه وحركته فيعود جمادا كما كان أول مرة ، لا يبقى إلا شكل أعضائه وصورته ، لا حس فيه ، ولا حركة ، ثم يوضع في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة ، ثم تبلى أعضاؤه ، وتتفتت أجزاؤه ، وتنخر عظامه ، ويأكل الدود أجزاءه فيصير روثا في أجواف الديدان ويكون جيفة يهرب منه الحيوان ، ويستقذره كل إنسان ويهرب منه لشدة الإنتان ، وليته بقي كذلك فما أحسنه لو ترك ، لا ، بل يحييه بعد طول البلى ليقاسي شديد البلا ، فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه المتفرقة ، ويخرج إلى أهوال القيامة فينظر إلى قيامة قائمة ، وسماء مشققة ممزقة ، وأرض مبدلة ، وجبال مسيرة ، ونجوم منكدرة ، وشمس منكسفة ، وأحوال مظلمة ، وملائكة غلاظ شداد ، وجهنم تزفر ، وجنة ينظر إليها المجرم فيتحسر ، ويرى صحائف منشورة ، فيقال له : اقرأ كتابك ، فيقول : " وما هو " ؟ فيقال : كان قد وكل بك في حياتك التي كنت تتكبر بنعيمها وتفتخر بأسبابها ملكان رقيبان يكتبان عليك ما تنطق به أو تعمله من قليل أو كثير وصغير وكبير ، قد نسيت ذلك وأحصاه الله عليك ، فهلم إلى الحساب ، واستعد للجواب ، أو تساق إلى دار العذاب ، فينقطع قلبه فزعا من هول هذا الخطاب قبل أن تنتشر الصحيفة ويشاهد ما فيها من مخازيه ، فإذا شاهده قال : ( ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) [ الكهف : 49 ] فهذا آخر أمره ، وهو معنى قوله تعالى : ( ثم إذا شاء أنشره ) [ عبس : 22 ] فما لمن هذا حاله والتكبر والتعظم ؟ ، بل ما له وللفرح فضلا عن البطر ؟ فقد ظهر له أول حاله ووسطه ، ولو ظهر آخره والعياذ بالله تعالى ربما اختار أن يصير مع البهائم ترابا ، ولا يكون إنسانا يسمع خطابا أو يلقى عذابا . فمن هذا حاله في العاقبة إلا أن يعفو الله عنه ، وهو على شك من العفو فكيف يفرح ويبطر ؟ وكيف يتكبر ويتجبر ؟ حقا يكفيه ذلك حزنا وخوفا وإشفاقا ومهانة وذلا . فهذا هو العلاج العلمي القامع لأصل الكبر .

                                                                  وأما العلاج العملي : فهو التواضع لله بالفعل ، ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق [ ص: 250 ] المتواضعين كما وصفناه من شمائل رسوله صلى الله عليه وسلم ومن أحوال الصالحين ، ولا يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالعمل ، ولذلك أمر العرب الذين تكبروا على الله ورسوله بالإيمان وبالصلاة جميعا ، وقيل : الصلاة عماد الدين ، وفي الصلاة أسرار لأجلها كانت عمادا ، ومن جملتها ما فيها من التواضع بالمثول قائما وبالركوع وبالسجود ، وقد كان العرب قديما يأنفون من الانحناء فكان يسقط من يد الواحد سوطه فلا ينحني لأخذه ، وينقطع شراك نعله فلا ينكس رأسه لإصلاحه ، فلما كان السجود عندهم هو منتهى الذلة والضعة أمروا به لتنكسر بذلك خيلاؤهم ويزول كبرهم ويستقر التواضع في قلوبهم . وبه أمر سائر الخلق .

                                                                  المقام الثاني : فيما يعرض من التكبر بالأسباب السبعة المتقدمة :

                                                                  ذكرنا في كتاب ذم الجاه أن الكمال الحقيقي هو العلم والعمل ، فأما ما عداه مما يفنى بالموت فكمال وهمي ، ونحن نذكر طريق العلاج من العلم والعمل في جميع أسبابه السبعة :

                                                                  الأول النسب : فمن يعتريه الكبر من جهة النسب فليداو قلبه بمعرفة أن هذا جهل من حيث إنه تعزز بكمال غيره ، ومن كان خسيسا فمن أين تجبر خسته بكمال غيره وبمعرفة نسبه الحقيقي أعني أباه وجده ، فإن أباه القريب نطفة قذرة ، وجده البعيد تراب ، وقد عرف الله تعالى نسبه فقال ( وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ) [ السجدة : 7 ، 8 ] فإذا كان أصله من التراب وفصله من النطفة فمن أين تأتيه الرفعة ؟ فهذا هو النسب الحقيقي للإنسان ، ومن عرفه لا يتكبر بالنسب .

                                                                  الثاني الكبر بالجمال : ودواؤه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء ، ولا ينظر إلى الظاهر نظر البهائم ، ومهما نظر إلى باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال ، إذ خلق من أقذار ووكل به في جميع أجزائه الأقذار ، وسيموت فيصير جيفة أقذر من سائر الأقذار ، وجماله لا بقاء له ، بل هو في كل حين يتصور أن يزول بمرض أو سبب من الأسباب ، فكم من وجوه جميلة قد سمجت بهذه الأسباب . فمعرفة ذلك تنزع من القلب داء الكبر بالجمال لمن أكثر تأملها .

                                                                  الثالث الكبر بالقوة : ويمنعه من ذلك أن يعلم ما سلط الله عليه من العلل والأمراض ، وأنه لو توجع عرق واحد في يده لصار أعجز من كل عاجز ، أو أن شوكة لو دخلت في رجله لأعجزته ، وأن حمى يوم تحلل من قوته ما لا ينجبر في مدة ; فمن لا يطيق شوكة ، ولا يقاوم بقة فلا ينبغي أن يفتخر بقوته . ثم إن قوي الإنسان فلا يكون أقوى من حمار أو بقرة أو فيل أو جمل ، وأي افتخار في صفة يسبقك بها البهائم .

                                                                  السبب الرابع والخامس الغنى وكثرة المال : وفي معناه كثرة الأتباع والأنصار ، والتكبر بالمناصب والولايات ، وكل ذلك تكبر بمعنى خارج عن ذات الإنسان ، وهذا أقبح أنواع الكبر ، فلو ذهب ماله أو احترقت داره لعاد ذليلا ، وكم في اليهود من يزيد عليه في الغنى والثروة والتجمل ، فأف لشرف يسبقه به يهودي ، أو يأخذه سارق في لحظة فيعود ذليلا مفلسا .

                                                                  [ ص: 251 ] السادس الكبر بالعلم : وهو أعظم الآفات وعلاجه بأمرين :

                                                                  أحدهما أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد ، وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل عشره من العالم ، فإن من عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش وخطره أعظم .

                                                                  ثانيهما : أن يعرف أن الكبر لا يليق إلا بالله عز وجل وحده ، وأنه إذا تكبر صار ممقوتا عن الله بغيضا ، فهذا مما يزيل التكبر ويبعث على التواضع . وإذا دعته نفسه للتكبر على فاسق أو مبتدع فليتذكر ما سبق من ذنوبه وخطاياه لتصغر نفسه في عينه ، وليلاحظ إبهام عاقبته وعاقبة الآخر فلعله يختم له بالسوء ولذاك بالحسنى ، حتى يشغله الخوف عن التكبر عليه ، ولا يمنعه ترك التكبر عليه أن يكرهه ، ويغضب لفسقه ، بل يبغضه ويغضب لربه إذ أمره أن يغضب عليه من غير تكبر عليه .

                                                                  السابع : التكبر بالورع والعبادة : وذلك فتنة عظيمة على العباد ، وسبيله أن يلزم قلبه التواضع لسائر العباد ، قال وهب بن منبه : " ما تم عقل عبد حتى يكون فيه خصال " وعد منها خصلة قال : " بها ساد مجده ، وبها علا ذكره أن يرى الناس كلهم خيرا منه ، وإنما الناس عنده فرقتان : فرقة هي أفضل منه وأرفع ، وفرقة هي شر منه وأدنى ، فهو يتواضع للفرقتين جميعا بقلبه ، وإن رأى من هو خير منه سره ذلك وتمنى أن يلحق به ، وإن رأى من هو شر منه قال : لعل هذا ينجو وأهلك أنا ، فلا تراه إلا خائفا من العاقبة ، ويقول : لعل بر هذا باطن فذلك خير له ، ولا أدري لعل فيه خلقا كريما بينه وبين الله فيرحمه الله ويتوب عليه ، ويختم له بأحسن الأعمال ، وبري ظاهر فذلك شر لي ، فلا يأمن فيما أظهره من الطاعة أن يكون دخلها الآفات فأحبطتها " ، قال : " فحينئذ كمل عقله وساد أهل زمانه " .

                                                                  والذي يدل على فضيلة هذا الإشفاق قوله تعالى : ( يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ) [ المؤمنون : 60 ] أي أنهم يؤتون الطاعات وهم على وجل عظيم من قبولها ، وقال تعالى : ( إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ) [ المؤمنون : 57 ] وقال تعالى : ( إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ) [ الطور : 26 ] .

                                                                  وقد وصف الله تعالى الملائكة عليهم السلام مع تقدسهم عن الذنوب ومواظبتهم على العبادات بالدؤوب على الإشفاق فقال تعالى مخبرا عنهم : ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) [ الأنبياء : 20 ] ، ( وهم من خشيته مشفقون ) [ الأنبياء : 28 ] فمتى زال الإشفاق والحذر غلب الأمن من مكر الله ، وذلك يوجب الكبر ، وهو سبب الهلاك ، فالكبر دليل الأمن والأمن مهلك ، والتواضع دليل الخوف ، وهو مسعد .

                                                                  فإذن ما يفسده العباد بإضمار الكبر واحتقار الخلق أكثر مما يصلحه بظاهر الأعمال .

                                                                  فهذه معارف بها يزال داء الكبر عن القلب ، إلا أن النفس بعد هذه المعرفة قد تضمر التواضع ، وتدعي البراءة من الكبر وهي كاذبة ، فإذا وقعت الواقعة عادت إلى طبعها ، فعن هذا لا [ ص: 252 ] ينبغي أن يكتفى في المداواة بمجرد المعرفة ، بل ينبغي أن تكمل بالعمل ، وتجرب بأفعال المتواضعين في مواقع هيجان الكبر من النفس ، وبيانه أن يمتحن النفس بالامتحانات الدالة على استخراج ما في الباطن ، والامتحانات كثيرة ، فمنها وهو أولها : أن يناظر في مسألة مع واحد من أقرانه ، فإن ظهر شيء من الحق على لسان صاحبه فثقل عليه قبوله والانقياد له والشكر له على تنبيه فذلك يدل على أن فيه كبرا دفينا ، فليتق الله فيه ويشتغل بعلاجه .

                                                                  أما من حيث العلم فبأن يذكر نفسه خسة نفسه ، وخطر عاقبته وأن الكبر لا يليق إلا بالله تعالى .

                                                                  وأما العمل فبأن يكلف نفسه ما ثقل عليه من الاعتراف بالحق ، وأن يطلق اللسان بالحمد والثناء ، ويقر على نفسه بالعجز ، ويشكره على الاستفادة ويقول : " ما أحسن ما فطنت له ، وقد كنت غافلا عنه فجزاك الله خيرا كما نبهتني له " فالحكمة ضالة المؤمن فإذا وجدها ينبغي أن يشكر من دله عليها .

                                                                  فإذا واظب على ذلك مرات متوالية صار ذلك له طبعا ، وسقط ثقل الحق عن قلبه ، وطاب له قبوله ، ومهما ثقل عليه الثناء على أقرانه بما فيهم ففيه كبر .

                                                                  الامتحان الثاني : أن يجتمع مع الأقران والأمثال في المحافل ويقدمهم على نفسه ، ويمشي خلفهم ، ويجلس في الصدور تحتهم ، فإن ثقل ذلك عليه فهو متكبر . فليواظب عليه تكلفا حتى يسقط عنه ثقله ، فبذلك يزايله الكبر .

                                                                  وهاهنا للشيطان مكيدة ، وهو أن يجلس في صف النعال أو يجلس بينه وبين الأقران بعض الأرذال فيظن أن ذلك تواضع ، وهو عين الكبر ، فإن ذلك يخف على نفوس المتكبرين إذ يوهمون أنهم تركوا مكانهم بالاستحقاق والتفضل فيكون قد تكبر بإظهار التواضع أيضا ، بل ينبغي أن يقدم أقرانه ، ويجلس بجنبهم ، ولا ينحط عنهم إلى صف النعال ، فذلك هو الذي يخرج خبث الكبر من الباطن .

                                                                  الامتحان الثالث : أن يجيب دعوة الفقير ، ويمر إلى السوق في حاجة الرفقاء والأقارب ، فإن ثقل ذلك عليه فهو كبر ، فإن هذه الأفعال من مكارم الأخلاق ، والثواب عليها جزيل ، فنفور النفس عنها ليس إلا لخبث في الباطن ، فليشتغل بإزالته بالمواظبة عليه مع تذكر جميع ما ذكرناه من المعارف التي تزيل داء الكبر .

                                                                  الامتحان الرابع : أن يحمل حاجة نفسه وحاجة أهله ورفقائه من السوق إلى البيت ، فإن أبت نفسه ذلك فهو كبر أو رياء .

                                                                  وكل ذلك من أمراض القلوب وعلله المهلكة له إن لم تتدارك . وقد أهمل الناس طب القلوب واشتغلوا بطب الأجساد مع أن الأجساد قد كتب عليها الموت لا محالة ، والقلوب لا تدرك السعادة إلا بسلامتها إذ قال تعالى : ( إلا من أتى الله بقلب سليم ) [ الشعراء : 89 ] .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية