الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            الفصل الثاني : في تضعيف ما أفتى به الجوجري ، وذلك من أربعة وجوه : ثلاثة جدلية وواحد من طريق التحقيق ، فأما الثلاثة الأولى فأحدها أن نقول : لا شك أنه لو جاز لأحد أن يفتي في مسألة بمجرد نظره لها في كتاب أو كتابين من غير أن يكون متقنا لذلك الفن بجميع أطرافه ماهرا فيه متبحرا فيه ، لجاز لآحاد الطلبة أن يفتوا ، بل العوام والسوقة لا يعدم أحد منهم أن يكون عارفا بعدة من المسائل تعلمها من عالم أو رآها في كتاب ، ولا ريب في أنه لا يجوز لأحد منهم أن يفتي ، وقد نص العلماء على أن العامي لو تعلم مسائل وعرفها لم يكن له أن يفتي بها ، إنما يفتي المتبحر في العلم العارف بتنزيل الوقائع الجزئية على الكليات المقررة في الكتب ، وما شرطوا في المفتي أن يكون مجتهدا إلا لهذا المعنى وأمثاله ، والمدار الآن على التبحر ، فمن تبحر في فن أفتى به وليس له أن يتعدى إلى فن لم يتبحر فيه ، ويطلق قلمه فيه وهو لم يقف على متفرقات كلام أرباب ذلك الفن ، فلعله يعتمد على مقالة مرجوحة وهو يظنها عندهم صحيحة ، وهذه المسألة من ذلك كما سنبينه ، وكذلك ليس لأحد أن يفتي في العربية وقصارى أمره النظر في المصنف ، والتوضيح ، ونحو ذلك ، بل حتى يحيط بالفن خبرة ويقف على غرائبه وغوامضه ونوادره ، فضلا عن ظواهره ومشاهيره ، وما مثل من يفتي في النحو وقصارى أمره ما ذكر إلا مثل من قرأ المنهاج واقتصر عليه وأراد أن يفتي في الفقه ، فلو جاءته مسألة من الروضة مثلا فإن كان دينا قال : هذه لم أقف عليها ، وإن كان غير ذلك أنكرها بالكلية وقال : هذا شيء لم يقله أحد ، بل ولا والله لا يكتفى في إباحة الفتوى بحفظ الروضة وحدها ، فماذا يصنع في المسائل التي اختلف فيها الترجيح ، ماذا يصنع في المسائل ذات الصور والأقسام ، ولم يذكر في الروضة بقية صورها وأقسامها ، ماذا يصنع في مسائل لها قيود ومحال تركت من الروضة وهي مفرقة في شرح المهذب وغيره من [ ص: 391 ] الكتب ؟ ماذا يصنع في مسائل خلت عنها الروضة بالكلية ؟ بل لا بد في المفتي من أن يضم إلى الروضة حمل كتب ، فإن لم ينهض إلى ذلك وعسر عليه النظر في كتب الشافعي رضي الله عنه وأصحابه المتقدمين ، فلا أقل من استيعاب كتب المتأخرين ، وقد قال ابن بلبان الحنفي في كتابه زلة القارئ : قال الشيخ أبو عبد الله الجرجاني في خزانة الأكمل : لا يجوز لأحد أن يفتي في هذا الباب - يعني باب اللحن في القراءة - إلا بعد معرفة ثلاثة أشياء : حقيقة النحو ، والقراءات الشواذ ، وأقاويل المتقدمين والمتأخرين من أصحابنا في هذا الباب .

            الوجه الثاني : أن نقول : لا شك في أن القرآن الكريم حاو لجميع العلوم ، وأئمة المفسرين أصناف شتى ، كل صنف منهم غلب عليه فن من العلوم ، فكان تفسيره في غاية الإتقان من حيث ذلك الفن الغالب عليه ، فينبغي لمن أراد التكلم على آية من حيثية أن ينظر تفسير من غلب عليه ذلك الفن الذي تلك الحيثية منه ، فمن أراد التكلم على آية من حيث التفسير الذي هو نقل محض ومعرفة الأرجح فيه ، فالأولى أن ينظر عليها تفاسير أئمة النقل والأثر ، وأجلها تفسير ابن جرير الطبري ؛ فقد قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات : كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنف أحد مثله . وقريب منه من تفاسير المتأخرين تفسير الحافظ عماد الدين ابن كثير . وكذلك من أراد التكلم على آية تتعلق بالأخبار السابقة أو الآتية كأشراط الساعة وأحوال البرزخ والبعث والملكوت ونحو ذلك مما لا مجال للرأي فيه ، فالأولى أخذها من التفسيرين المذكورين ، وسائر تفاسير المحدثين المسندة ؛ كسعيد بن منصور والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ ومن جرى مجراهم ، ومن أراد التكلم على آية من حيث علم الكلام فالأولى أن ينظر عليها تفسير من غلب عليه الكلام واشتهر بالبراعة فيه ، كابن فورك والباقلاني وإمام الحرمين والإمام فخر الدين والأصبهاني ونحوهم ، ومن أراد التكلم عليها من حيث الإعراب فالأولى أن ينظر عليها تفسير أئمة النحو المتبحرين فيه ؛ كأبي حيان ، ومن أراد التكلم عليها من حيث البلاغة فالأولى أن ينظر عليها الكشاف وتفسير الطيبي ونحو ذلك .

            ومسألة تفضيل أبي بكر من علم الكلام ، وكونه هو المراد بالآية من علم التفسير ، فكان الأولى للجوجري قبل الكتابة أن ينظر عليها كتاب ابن جرير ونحوه ؛ لأجل معرفة الأرجح في التفسير ، وكتاب الإمام فخر الدين ونحوه ؛ لأجل معرفة التقرير الكلامي ، ثم ينهض إلى مراجعة كتب أئمة الكلام لينظر كيف قرروا الاستدلال بها على [ ص: 392 ] أفضلية الصديق ، ككتب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فورك والباقلاني والشهرستاني وإمام الحرمين والغزالي ، ومن جرى مجراهم ، ويتعب كل التعب ويجد كل الجد ، ويعتزل الراحة والشغل ، ولا يسأم ولا يضجر ، ويدع الفتيا تمكث عنده الشهر والشهرين والعام والعامين ، فإذا وقف على متفرقات كلام الناس في المسألة ونظر وحقق وأورد على نفسه كل إشكال وأعد له الجواب المقبول ، حطم حينئذ على الكتابة وحكم بين الأمراء وفصل بين العلماء ، وأما الاستعجال في الجواب والكتابة بمجرد ما يخطر بباله ويظهر في بادئ الرأي ، مع الراحة والاتكال على الشهرة ، وعدم التضلع بذلك الفن وما يحتاج إليه فيه ، فإنه لا يليق ، ولهذا تجد الواحد ممن كان بهذه المثابة يكتب ويرجع ويتزلزل بأدنى زلزلة ، ويضطرب قوله في المسألة الواحدة مرات ، ويبحث معه أدنى الطلبة فيشككه ، وأكثر ما يحتج به الواحد منهم إذا صمم على قوله أن يقول : الظاهر كذا أو كذا ، أو هذا الذي ظهر لي ، من غير اعتماد على مستند بيده أو حجة يظهرها ، كأنه الشيخ أبو الحسن الشاذلي إمام أرباب القلوب في زمانه الذي كان يسأل معتمدا على الإلهام الواقع في قلبه ، ذاك إلهامه صواب لا يخطئ ، وبعد موتات ماتها في الله .

            الوجه الثالث : أن نقول : لا شك أن المفتي حكمه حكم الطبيب ، ينظر في الواقعة ويذكر فيها ما يليق بها بحسب مقتضى الحال والشخص والزمان ، فالمفتي طبيب الأديان ، وذلك طبيب الأبدان ، وقد قال عمر بن عبد العزيز : يحدث للناس أحكام بحسب ما أحدثوا من الفجور . قال السبكي : ليس مراده أن الأحكام الشرعية تتغير بتغير الزمان ، بل باختلاف الصور الحادثة ، فإنه قد يحصل بمجموع أمور حكم لا يحصل لكل واحد منها ، فإذا حدثت صورة على صفة خاصة علينا أن ننظر فيها ، فقد يكون مجموعها يقتضي الشرع له حكما خاصا . هذا كلام السبكي ، قرره في كتاب ألفه في شأن رافضي حكم بقتله ، وسماه غيرة الإيمان الجلي لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وقال السبكي أيضا في فتاويه ما معناه : يوجد في فتاوي المتقدمين من أصحابنا أشياء لا يمكن الحكم عليها بأنها المذهب في كل صورة ؛ لأنها وردت على وقائع ، فلعلهم رأوا أن تلك الوقائع يستحق أن يفتى بها بذلك ، ولا يلزم اطراد ذلك واستمراره ، وهذه الواقعة المسئول عنها تتعلق برافضي ، وليته رافضي فقط ، بل زنديق جاهل من كبار الجهلة ، ولقد اجتمعت به مرة فرأيت منه العجب من إنكاره الاحتجاج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد أقواله الشريفة ، ويقول لعنه الله وفض فاه : النبي واسطي ، ما قاله وهو في القرآن فصحيح ، وما قاله وليس [ ص: 393 ] في القرآن . وذكر كلمة لا أستطيع ذكرها ، فرجعت من عنده ولم أجتمع به إلى الآن ، وألفت مؤلفا سميته : مفتاح الجنة في الاعتصام بالسنة ، وكان من جملة أقواله في ذلك المجلس : علي عنده العلم والشجاعة ، وأبو بكر ليس عنده ذلك ، وإنما زوجه بابنته وأنفق عليه ماله فكافأه بالخلافة بعده ، فقلت له : وردت الأحاديث بأن أبا بكر أعلم الصحابة وأشجعهم ، فقال : هذه الأحاديث كذب ، ثم أعاد الآن الكلام في ذلك مع خاير بك وطلب منه الاستدلال على أفضلية أبي بكر بآية من القرآن ؛ لأنه لا يرى الحديث حجة ، فذكر له خاير بك هذه الآية ، ولم يقلها من عند نفسه ، بل رآها في بعض كتب الكلام فذكرها ، فكان لا يليق بالجوجري في مثل هذه الواقعة أن يفتي بأن الآية ليست خاصة بأبي بكر ولا دالة على أفضليته ، فيؤيد مقالة الرافضي ويثبته على معتقده الخبيث ويدحض حجة قررها أئمة كل فرد منهم أعلم بالتفسير والكلام وأصول الفقه من مائة ألف من مثل الجوجري ، والله لو كان هذا القول في الآية هو المرجوح لكان اللائق في مثل هذه الواقعة أن يفتي به ، فكيف وهو الراجح والذي أفتى به الجوجري قول مرجوح ؟ هذه الوجوه الثلاثة الجدلية .

            وأما الوجه الذي يرد به عليه من جهة التحقيق ، فأقول : قال البغوي في معالم التنزيل : يريد بالأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ، يطلب أن يكون عند الله زكيا لا رياء ولا سمعة ، يعني أبا بكرالصديق في قول الجميع ، وقال ابن الخازن في تفسيره : الأتقى هنا أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين ، وقال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره : أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالأتقى أبو بكر ، وذهبت الشيعة إلى أن المراد به علي ، فانظر إلى نقل هؤلاء الأئمة الثلاثة إجماع المفسرين على أن المراد بالأتقى أبو بكر لا كل تقي ، وقال الأصبهاني في تفسيره : خص الصلي بالأشقى والتجنب بالأتقى ، وقد علم أن كل شقي يصلاها ، وكل تقي يجنبها ، لا يختص بالصلي أشقى الأشقياء ، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء ؛ لأن الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل : الأشقى ، وجعل مختصا بالصلي ، كأن النار لم تخلق إلا له . وقيل : الأتقى ، وجعل مختصا بالنجاة ، كأن الجنة لم تخلق إلا له . انتهى .

            وهذا صريح في أن المراد بالأتقى أتقى الأتقياء على الإطلاق ، لا مطلق التقي ، [ ص: 394 ] وأتقى الأتقياء على الإطلاق بعد النبيين أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، وقال النسفي في تفسيره : الأتقى : الأكمل تقوى ، وهو صفة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه . وقال : ودل على فضله على جميع الأمة ، قال تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) انتهى . وقال القرطبي في تفسيره : قال ابن عباس : الأتقى أبو بكر الصديق ، وقال بعض أهل المعاني : أراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي ، كقول طرفة :

            تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد

            أي واحد ووحيد ، فوضع أفعل موضع فعيل . انتهى .

            وهذا الذي نقله عن بعض أهل المعاني هو الذي أفتى به الجوجري عادلا عن قول جميع المفسرين إلى قول بعض أهل النحو ، قال ابن الصلاح : حيث رأيت في كتب التفسير : قال أهل المعاني ، فالمراد به مصنفو الكتب في معاني القرآن كالزجاج والفراء والأخفش وابن الأنباري . انتهى .

            وكذا نقل ابن جرير في تفسيره هذه المقالة عن بعض أهل العربية ، ثم قال : والصحيح الذي جاءت به الآثار عن أهل التأويل أنها في أبي بكر بعتقه من أعتق من المماليك ابتغاء وجه الله .

            فأنت ترى هذه النقول تنادي على أن الذي أفتى به الجوجري مقالة في الآية لبعض النحويين مشى عليها بعض المصنفين في التفسير ، وأن الذي وردت به الآثار وقاله المفسرون من السلف وصححه الخلف اختصاصها بأبي بكر إبقاء للصيغة على بابها . هذا بيان رجحان ذلك من حيث التفسير ، وأما من حيث أصول الفقه والعربية فأقول : قول الجوجري : إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فرع أن يكون في اللفظ عموم حتى يكون العبرة به ، والآية لا عموم فيها أصلا ورأسا ، بل هي نص في الخصوص ، وبيان ذلك من وجهين :

            أحدهما : أن العموم إنما يستفاد في مثل هذه الصيغة من ( أل ) الموصولة والتعريفية ، وليست ( أل ) هذه موصولة قطعا ; لأن الأتقى أفعل تفضيل ، و ( أل ) الموصولة لا توصل بأفعل التفضيل بإجماع النحاة ، وإنما توصل باسم الفاعل والمفعول ، وفي الصفة المشبهة خلاف ، وأما أفعل التفضيل فلا توصل به بلا خلاف ، وأما التعريفية فإنما تفيد العموم إذا دخلت على الجمع ، فإن دخلت على مفرد لم تفده ، كما اختار الإمام فخر [ ص: 395 ] الدين ، ومن قال : إنها تفيده فيه ، قيده بأن لا يكون هناك عهد ، فإن كان لم تفده قطعا ، هذا هو المقرر في علم الأصول . والأتقى مفرد لا جمع ، والعهد فيه موجود فلا عموم فيه قطعا ، فعلم بذلك أنه لا عموم في الأتقى . فتأمل فإنه نفيس فتح الله به علي تأييدا للجناب الصديقي .

            الوجه الثاني : أن الأتقى أفعل تفضيل ، وأفعل التفضيل لا عموم فيه ، بل وضعه للخصوص ; فإنه لتفرد الموصوف بالصفة ، وأنه لا مساوي له فيها ، كما تقول : زيد أفضل الناس ، أو الأفضل ، فإنها صيغة خصوص قطعا عقلا ونقلا ، ولا يجوز أن تتناول غيره أبدا ، فبان بذلك أنه لا عموم في الأتقى ، وإلى ذلك يشير تقرير الأصبهاني حيث قال : فإن قلت : كيف قال : ( لا يصلاها إلا الأشقى ) ( وسيجنبها الأتقى ) . وقد علم أن كل شقي يصلاها ، وكل تقي يجنبها ؟ لا يختص بالصلي أشقى الأشقياء ولا بالنجاة أتقى الأتقياء ، وإن زعمت أنه نكر النار فأراد نارا بعينها مخصوصة بالأشقى ، فما تصنع بقوله : ( وسيجنبها الأتقى ) ، فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة لا الأتقى منهم خاصة .

            قلت : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتهما المتناقضتين فقيل : الأشقى ، وجعل مختصا بالصلي ، كأن النار لم تخلق إلا له ، وقيل : الأتقى ، وجعل مختصا بالنجاة ، كأن الجنة لم تخلق إلا له . هذه عبارته وهي صريحة في إرادة الخصوص ؛ أخذا من صيغة أفعل التفضيل ، ومن جنح من أهل العربية إلى أنها للعموم احتاج إلى تأويل الأتقى بالتقى ليخرج عن التفضيل ، وهذا مجاز قطعا ، والمجاز خلاف الأصل ، ولا يصار إليه إلا بدليل ، ولا دليل يساعده ، بل الدليل يعارضه ، وهو الأحاديث الواردة في سبب النزول ، وإجماع المفسرين كما نقله من تقدم ، فثبت بهذا كله أن الكلام على حقيقته للتفضيل ، وأن اللام للعهد ، وأنه لا عموم فيه أصلا .

            فإن قلت : لم يؤخذ العموم من لفظ ( الأتقى ) بل من لفظ ( الذي يؤتي ) ، فإن ( الذي ) من صيغ العموم .

            قلت : هذه غفلة منك وجهل بالعربية ؛ فإن ( الذي ) وصف للأتقى ، وقد تبين أن الأتقى خاص ، فيجب أن تكون صفته كذلك ، لما تقرر في العربية أن الوصف لا يكون أعم من الموصوف ، بل مساويا له أو أخص منه ، فاشدد بهذا الكلام يديك وعض عليه بناجذيك ، على أن في قوله : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) وقوله : ( ولسوف يرضى ) ما يشير إلى التنصيص على التخصيص ، وقد قرر الإمام فخر الدين اختصاص الآية بأبي [ ص: 396 ] بكر والاستدلال بها على أفضليته بطريق آخر ، فقال : أجمع المفسرون منا على أن المراد بالأتقى أبو بكر ، وذهب الشيعة إلى أن المراد به علي ، والدلالة النقلية ترد ذلك وتؤيد الأول ، وبيان ذلك أن المراد من هذا الأتقى أفضل الخلق ؛ لقوله تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ، والأكرم هو الأفضل ، فالأتقى المذكور هنا هو أفضل الخلق عند الله ، والأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أبو بكر وإما علي ، ولا يمكن حمل الآية على علي ، فتعين حملها على أبي بكر ، وإنما لم يمكن حملها على علي لأنه قال عقيب صفة هذا الأتقى : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) ، وهذا الوصف لا يصدق على علي ؛ لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه أخذه من أبيه ، فكان يطعمه ويسقيه ويكسوه ويربيه ، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم منعما عليه نعمة يجب جزاؤها ، أما أبو بكر فلم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم عليه نعمة دنيوية ، بل أبو بكر كان ينفق على الرسول ، وإنما كان للرسول عليه نعمة الهداية والإرشاد إلى الدين ، وهذه النعمة لا تجزى ؛ لقوله تعالى : ( لا أسألكم عليه أجرا ) ، والمذكور هنا ليس مطلق النعمة ، بل نعمة تجزى ، فعلم أن هذه الآية لا تصلح لعلي ، وإذا ثبت أن المراد بهذه الآية من كان أفضل الخلق ، وثبت أن ذلك الأفضل من الآية إما أبو بكر وإما علي ، وثبت أن الآية غير صالحة لعلي ، تعين حملها على أبي بكر ، وثبت دلالة الآية أيضا على أن أبا بكر أفضل الأمة . انتهى كلام الإمام .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية