الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء


              حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن أبان ، ثنا أبو بكر بن سفيان ، حدثني هارون ، حدثني عبد الله بن صالح ، سمعت ابن السماك ، وكتب ، إلى أخ له : " أما بعد أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك ، ورقيبك في علانيتك ، فاجعل الله في بالك على حالك في ليلك ونهارك ، وحب الله بقدر قربه منك وقدرته عليك ، فاعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره ، ولا من ملكه إلى ملك غيره ، فليعظم منه حذرك ، وليكثر منه وجلك ، واعلم أن الذنب من العاقل أعظم من الذنب من الأحمق ، والذنب من العالم أعظم من الذنب من الجاهل والذنب من الغني أعظم من الذنب من الفقير ، وقد أصبحنا أذلاء رغماء ، والذليل لا ينام في البحر ، وقد كان عيسى عليه السلام يقول : حتى متى تصفون الطريق للذاكرين وأنتم مقيمون في محلة المتجبرين تضعون البعوض من شرابكم وتشترطون الجمال بأجمالها . وقال : إن الزق إذا نقب لم يصلح أن يكون فيه العسل ، وإن قلوبكم قد نقبت فلا تصلح فيها الحكمة ، أي أخي كم من مذكر بالله ناس لله وكم من مخوف بالله جريء على الله وكم من داع إلى الله فار من الله ، [ ص: 207 ] وكم من قارئ لكتاب الله ينسخ من آيات الله والسلام .

              حدثنا أبي ، ثنا أحمد ، ثنا أبو بكر ، ثنا عيسى بن محمد بن سعد الطلحي ، قال : قال ابن السماك : " معرفتك بالله أن تصيب الذنب ، الذي أقللت الحياء من ربك .

              حدثنا محمد بن أحمد بن أبان ، ثنا أبو بكر بن عبيد ، حدثني محمد بن أبي الرجاء القرشي ، قال : قال ابن السماك : أي أخي أسر أعمالك على نفسك ثم قبحها جهدك بعقلك لعله يدعوك بقبحها إلى ترك مهاودتها ، واعلم أنك ليس تبلغ غاية قبحها عند ربك ، فسله أن يمن عليك بعفوه .

              حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا عبد الله بن محمد بن العباس ، ثنا سلمة بن شبيب ، ثنا سهل بن عاصم ، ثنا زهير بن عباد ، سمعت ابن السماك ، يقول : " تعدوا من كتبة الأرباح فاجعل نفسك مما يكتبها تكن تكتب مثلها .

              حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس ، ثنا سلمة بن شبيب ، ثنا سهل بن عاصم ، ثنا عبد الله بن محمد بن عقبة بن أبي الصهباء ، قال : قال محمد بن السماك : لا يغرنكم سكون هذه الصور ، فما أكثر المغمومين فيها ، ولا يغرنكم استواؤها ، فما أشد بقاءهم فيها .

              حدثنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى النيسابوري ، ثنا محمد بن محمد بن عبد الله ، ثنا الحسن بن هارون ، سمعت أبا بكر بن أبي هاشم ، يقول : قال محمد بن السماك : خرجت من العراق أريد بعض الثغور ، فبينا أنا أسير في جبل مظلم إذ نظرت إلى عامل على رأس جبل قد انفرد من المخلوقين واستأنس برب العالمين جل جلاله ، فسلمت عليه فرد علي السلام ثم قال : من أين أقبلت ؟ قلت : من العراق أريد بعض الثغور ، فقال : إلى أمر توقنونه أو إلى أمر لا توقنونه ؟ قلت : لا بل إلى أمر لا نوقنه ثم قال : آه ، قلت : مم يتأوه العابد ؟ قال : ذكرت عيش المستريحين ، وفرحة قلوب الواصلين . فقلت : إني رجل مهموم ، قال : ومم همك ؟ قلت : في ثلاث ، قال : وما هذه ؟ قلت : ما دليل الخوف ؟ قال : الحزن ، قلت : فما دليل الشوق ؟ قال : الطلب ، قلت : فما دليل الرجاء ؟ قال : العمل . قلت : فمن أين ضعفنا ؟ قال : لأنكم وثقتم [ ص: 208 ] بعفو الله عنكم ولو عاجلكم بالعقوبة لهويتم من معصيته إلى طاعته ، ولكن حلمه وستره على معصيته ثم أنشأ يقول :-

              إن كنت تفهم ما أقول وتعقل فارحل بنفسك قبل أن لربك ترحل     وذر التشاغل بالذنوب وخلها
              حتى متى وإلى متى تتملل



              حدثنا محمد بن أحمد بن أبان ، حدثني أبي ، ثنا عبد الله بن محمد ، ثنا الحسن بن عبد الرحمن ، حدثني إبراهيم بن رجاء ، سمعت ابن السماك ، يقول : أصبحت الخليقة على ثلاثة أصناف : صنف من الذنوب موطن نفسه على هجران ذنبه لا يريد أن يرجع إلى شيء من سيئة ، هذا المبرور ، وصنف يذنب ثم يذنب ويذنب ويحزن ويذنب ويبكي ، هذا يرجى له ويخاف عليه ، وصنف يذنب ولا يندم ، ويندم ولا يحزن ، ويذنب ولا يبكي ، فهذا الخائن الحائد عن طريق الجنة إلى النار .

              حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد ، ثنا عبد الله بن محمد بن عبيد ، ثنا سلمة بن شبيب ، ثنا سهل بن عاصم ، عن زهير بن عباد ، سمعت ابن السماك ، يقول : اعلم أن للموعظة غطاء ، وكشف غطائها التفكر ، ولحاجتك إلى العظة أكثر من حاجتك إلى الصلة ، وأخاف أن لا تجد لها موضعا في عقلك مع ما فيها من هموم الدنيا .

              حدثنا أبي ، ثنا أحمد ، ثنا عبد الله بن محمد ، حدثني محمد بن الحسين ، حدثني محمد بن داود بن عبد الله ، حدثني عبد الله بن أبي الحواري ، حدثني ابن السماك ، قال : دخلت البصرة فقلت لرجل كنت أعرفه : دلني على رجل عليه لباس الشعر طويل الصمت ، لا يرفع رأسه إلى أحد ، قال : فجعلت أستطعمه الكلام ، فلا يكلمني فخرجت من عنده ، فقال لي صاحبي : ههنا ابن عجوز ، هل لك فدخلنا عليه ، فقالت العجوز : لا تذكروا لابني شيئا من ذلك من جنة ولا نار فتقتلوه علي فإنه ليس لي غيره ، فدخلنا على شاب عليه من اللباس نحو مما كان على صاحبه منكس الرأس طويل الصمت ، فرفع رأسه فنظر إلينا ، فقال : أما إن للناس موقفا لا تدارسوه ، قلت : بين يدي من ؟ رحمك الله قال : فشهق شهقة فمات . قال ابن السماك : فجاءت العجوز فقالت : قتلتم ولدي؟ قال : فكنت فيمن صلوا عليه .

              قال : وعزى ابن السماك رجلا فقال : إن المصيبة واحدة ، إن جزع [ ص: 209 ] أهلها أو صبروا ، والمصيبة بالأجر ، أعظم من المصيبة بالموت .

              حدثنا أبو عاصم أحمد بن الحسين ثنا بشر بن موسى ، ثنا خلف بن الوليد ، قال : وقف ابن السماك على قبر فقال : يا قاسم حلوه وحلى بك رجعيا ومركان ولو أقمنا ما نفعناك ثم قال : والذي نفسي بيده لو أقاموا على قبر عمر الدنيا ما انتفع بطول إقامتهم عليه ، فقدموا ما تقدمون عليه فإنكم عليه تقدمون وأخروا ما تؤخرون فإنكم إليه لا ترجعون .

              حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا محمد بن موسى ، ثنا محمد بن بكار ، قال : بعث هارون الرشيد إلى ابن السماك فدخل وعنده يحيى بن خالد البرمكي فقال يحيى : إن أمير المؤمنين أرسل إليك لما بلغه من صلاح حالك في نفسك ، وكثرة ذكرك لربك عز وجل ، ودعائك للعامة ، فقال ابن السماك : أما ما بلغ أمير المؤمنين من صلاحنا في أنفسنا فذلك بستر الله علينا ، فلو اطلع الناس على ذنب من ذنوبنا لما أقدم قلب لنا على مودة ، ولا جرى لسان لنا بمدحة ، وإني لأخاف أن أكون بالستر مغرورا ، وبمدح الناس مفتونا ، وإنى لأخاف أن أهلك بهما وبقلة الشكر عليهما ، فدعا بدواة وقرطاس فكتبه إلى الرشيد .

              حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا محمد بن العباس المؤدب ، ثنا عبد الله بن صالح العجلي ، قال : كان رجل من ولد عبد الله بن مسعود يجلس في مجلس ابن السماك فكان يطيل السكوت فقال له ابن السماك ذات يوم : يا فتى ألا تخوض فيما يخوض فيه القوم من الحديث ؟ فقال : إنما قعدت لأسمع ، وأنصت لأفهم ، وما كان من الحديث لغير الله فعاقبته الندم ، فقال : خرجت والله من معدن .

              حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا الحسين بن جعفر القتات ، ثنا عبد الحميد بن صالح البرجمي ، ثنا محمد بن صبيح بن السماك ، عن سفيان الثوري ، أنه قال : احتاجت امرأة العزيز فلبست ثيابها ، فقال لها أهلها : إلى أين ؟ فقالت : إني أريد يوسف فأسأله فقالوا لها : إنا نخافه عليك ، قالت : كلا إنه يخاف الله ولست أخاف ممن يخاف الله ، قال : فجلست على طريقه ، فقامت إليه فقالت : الحمد لله الذي جعل [ ص: 210 ] العبيد بطاعته ملوكا ، وجعل الملوك بمعصيته عبيدا ، أصابتنا حاجة ، فأمر لها بما يصلحها .

              حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا أحمد بن ثعلب النحوي ، ثنا أحمد بن الأعرابي ، قال : كان ابن السماك يتمثل بهذين البيتين :


              الأجل في القبور في خطر     فرده يوما وانظر إلى خطره
              أبرزه الموت من منكبه     ومن معاصيره ومن حجره



              حدثنا محمد بن أحمد ، ثنا أحمد بن محمد بن أبان ، ثنا أبو بكر بن عبيد ، حدثني داود بن محمد بن يزيد ، قال : كان ابن السماك يقول في آخر كلامه : ألا متأهب فيما يوصف له أمامه مستعد ليوم فقره وفاقته ، ألا شاب عادم مبادر لمنيته ليس يغره شبابه ولا شدة قوته .

              حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا محمد بن أحمد بن سليمان الهروي ، ثنا أبو عبد الله ، ثنا الحسين بن عبد الرحمن الوراق ، عن ابن السماك ، قال : أدبت غلاما لامرأة من بني قيس فبعثت إليه بالسوط ، فلما قرب منه رعب بالسوط ، وقالت : ما ترك التقوى أحد إلا سمي عبط .

              حدثنا أبي ، ثنا أبو الحسن بن أبان ، ثنا أبو بكر بن عبيد ، سمعت أبا جعفر الكندي يقول : دخل ابن السماك على داود الطائي وهو في بيت حرب وعليه تراب فقال داود : سجنت نفسك قبل أن تسجن ، وعذبت نفسك قبل أن تعذب ، فاليوم ترى ثواب ما كنت له تعمل .

              حدثنا محمد بن علي ، ثنا أبو طلحة محمد التمار مثله .

              حدثنا حمدون بن علي الواسطي ، سمعت علي بن الجعد ، سمعت ابن السماك يقول : سيد الحلواء الفالوذج ، وسيد الرطب السكر .

              حدثنا عبد الله بن أحمد بن يعقوب المقري ، ثنا أحمد بن إسحاق البلخي ، ثنا أبو العيناء ، ثنا الأصمعي ، سمعت ابن السماك ، يقول : لا تسأل من يفر منك إن تسأله ولكن سل من أمرك أن تسأله .

              · حدثنا أبو محمد بن حيان ، ثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب ، ثنا أبو حاتم [ ص: 211 ] الرازي ، قال محمد بن السماك في مجلس حضره فيه الرشيد بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم : ما يساوي ألف من الخلف واحدا من السلف ، بين الخلف خلف بينهم السلف هؤلاء قوم أمنوا من خوف ربهم ، وأمنت آباؤنا وأجدادنا من خوف أسيافهم ، يا أبا بكر بلغت غاية الائتمار حيث مدحك الملك الجبار ، فقال سبحانه : ( إذ هما في الغار ) يا عمر لم تكن واليا ، إنما كنت والدا يا عثمان قتلت مظلوما ، ولم تزل مدفونا ، وما قولك فيمن وحد الله طفلا صغيرا حتى توفي كهلا كبيرا ، فهذا صاحب الغار ، وهذا إمام الأعصار وهذا أحد الأخيار ، مدحهم الملك الجبار وأسكنهم دار الأبرار .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية