الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              حدثنا عثمان بن محمد ، ثنا أبو بكر البغدادي ، قال : سمعت عبد الله بن سهل الرازي ، يقول : سمعت يحيى بن معاذ ، يقول : قال ذو النون : " حقيقة السخاء أن تلزم البخيل في منعه إياك لوما لأنك إنما لمته واشتغلت به لوقوع ما منعك في قلبك ، ولو هان ذلك عليك لم تشتغل بلومه ، ثم أنشأ يقول :


              كريم كصفو الماء ليس بباخل بشيء ولا مهد ملاما لباخل



              حدثنا عثمان بن محمد ، قال : سمعت أبا الحسن المذكر ، يذكر عن بعض أشياخه عن ذي النون ، قال : " صحبت زنجيا في التيه وكان مفلفل الشعر ، فإذا ذكر الله ابيض ، فورد علي أمر عظيم فقلت : لم يا هذا إنك إذا ذكرت الله تحول لونك وانقلبت عيناك ؟ قال : فجعل يخطر في التيه ويقول :


              ذكرنا وما كنا لننسى فنذكر     ولكن نسيم القلوب يبدو فيظهر
              فأحيي به عني وأحيي به له     إذ الحق عنه مخبر ومعبر



              قال ذو النون : فما طرق سمعي مثل حكمة ذلك الزنجي ، فعلمت أن لله تعالى عبادا تعلو قلوبهم بالأذكار كما تعلو الأطيار في الأوكار ، لو فتشت منهم القلوب لما وجدت فيها غير حب المحبوب . قال : ثم بكى ذو النون ، وأنشأ يقول :


              وأذكر أصنافا من الذكر حشوها     وداد وشوق يبعثان على الذكر
              فذكر أليف الحب ممتزج بها     يحل محل الروح في طرفها يسري
              [ ص: 392 ] وذكر يعز النفس منها لأنه     لها متلف من حيث يدري ولا تدري
              وذكر علا مني المفاوز والذرى     يجل عن الأوصاف بالوهم والفكر



              أخبرنا محمد بن أحمد البغدادي - في كتابه - ، وحدثني عنه عثمان بن محمد ، حدثني أبو محمد عبد الله بن سهل ، قال : سمعت ذا النون المصري أبا الفيض ، وسألته قلت : متى تخلص لله صلاتي ؟ قال : " إذا سكنت معادن الأنوار من قلبك ، ونفذته في ملكوت همك " . قلت : متى يتم زهدي بعد ورعي ؟ قال : " إذا جعلت الفرض لك معلما ، وأقمت الطاعة لك مفهما " . قلت : فمتى أومن ؟ قال : " إذا اشتمل الفرض على أمرك ، وملكت الطاعة على نفسك " قلت : فمتى أتوكل ؟ قال : " اليقين إذا تم سمي توكلا " قلت : متى يتم حبي لربي ؟ قال : " إذا سمجت الدنيا في عينك ، وقذفت أملك فيها بين يديك " . قلت : فمتى أخاف ربي ؟ قال : " إذا سرحت بصرك في عظمته ، ومثلت لنفسك أمثال نقمته " . قلت : فمتى يتم صومي ؟ قال : " إذا جوعت نفسك من البغضاء ، وأمت لسانك من الفحشاء " . قلت : فمتى أعرف ربي ؟ قال : " إذا كان لك جليسا ، ولم تر لنفسك سواه أنيسا " ، قلت : فمتى أحب ربي ؟ قال : " إذا كان ما أسخطه عندك أمر من الصبر " قلت : فمتى أشتاق إلى ربي ؟ قال : " إذا جعلت الآخرة لك قرارا ولم تسم الدنيا لك مسكنا ودارا " ، قلت : فمتى يشتد في بغض الدنيا ؟ قال : " إذا جعلت الدنيا طريق مخافة لا تلتفت إلى ما قطعت منها ، وجعلت الآخرة ساحة مأمونة لا تأمن إلا بالنزول فيها " .

              قلت : فمتى أحب لقاء ربي ؟ قال : " إذا كنت تقدم على حبيب وتصير عن أمر قريب " . قلت : فمتى أستلذ الموت ؟ قال : " إذا جعلت الدنيا خلف ظهرك ، وجعلت الآخرة نصب عينيك " . قلت : فمتى أتقي شهوات مطاعم الأرض ؟ قال : " إذا خالط قلبك الملكوت ومزج في سرائر الجبروت " ، قلت : فمتى تطيب معرفتي ، قال : " إذا استوحشت من الدنيا واشتد فرحك بنزول البلاء " . قلت : فمتى أستقبح الدنيا ؟ قال : " إذا علمت أن زينتها فساد كل معنى ، وأن محاسنها تفضي إلى كل حسرة " . قلت : فمتى أكتفي بأهون الأغذية ؟ قال : " إذا عرفت هلاك الشهوات وسرعة انقطاع عذوبة اللذات " . قلت : فمتى قنوع التمام ؟ قال : " إذا [ ص: 393 ] كان زخرف الدنيا عندك صغيرا ، وكان خوف الآخرة لك ذكرا " . قلت : فمتى أستحق ترك الجمع ؟ قال : " إذا عرفت أنك منقول إلى معاد ، وأنك مأخوذ بتبعات العباد " . قلت : فمتى آمر بالمعروف ؟ قال : " إذا كانت شفقتك على غيرك ، وخالفت العباد لمحبة ربك " . قلت : فمتى أوثر الله ولا أوثر عليه سواه ؟ قال : " إذا أبغضت فيه الحبيب وجانبت فيه القريب " . قلت : فمتى أفزع إلى ذكره وآنس بشكره ؟ قال : " إذا سررت ببلائه ، وفرحت بنزول قضائه " .

              حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : " المستأنس بالله في وقت استئناسه يستأنس بجميع ما يرى ويسمع ويحس به في ملكوت ربه ، والمهيب له يهاب جميع ما يرى ويسمع ويحس به في ملك ربه ويستأنس بالذر فما دونه ويهابه " .

              قال : وقال ذو النون : " ثلاثة من أعلام الإسلام : النظر لأهل الملة ، وكف الأذى عنهم ، والعفو عند القدرة لمسيئهم ، وثلاثة من أعلام الإيمان : إسباغ الطهارات في المكاره ، وارتعاش القلب عند الفرائض حتى يؤديها ، والتوبة عند كل ذنب خوفا من الإصرار . وثلاثة من أعلام التوفيق : الوقوع في الأعمال بلا استعداد له ، والسلامة من الذنب مع الميل وقلة الهرب منه ، واستخراج الدعاء والابتهال . وثلاثة من أعلام الخمول : ترك الكلام لمن يكفيه الكلام ، وترك الحرص في إظهار العلم عند القرناء ، ووجدان الألم لكراهة الكلام عند المحاورة والموعظة . وثلاثة من أعلام الحلم : قلة الغضب عند مخالفة الرأي ، والاحتمال عن الورى إخباتا للرب ، ونسيان إساءة المسيء عفوا عنه واتساعا عليه . وثلاثة من أعلام التقوى : ترك الشهوة المذمومة مع الاستمكان منها ، والوفاء بالصالحات مع نفور النفس منها ، ورد الأمانات إلى أهلها مع الحاجة إليها . وثلاثة من أعلام الاتعاظ بالله : الهرب إليه من كل شيء ، وسؤال كل شيء منه ، والدلال في كل وقت عليه . وثلاثة من أعلام الرجاء : العبادة بحلاوة القلب ، والإنفاق في سبيل الله برؤية الثواب ، والمثابرة على فضائل الأعمال بخالص التنافس . وثلاثة من أعلام الحب في الله : [ ص: 394 ] بذل الشيء لصفاء الود ، وتعطيل الإرادة لإرادة الله ، والسخاء بالنفس والمشاركة في محبوبه ومكروهه بصفة العقد ، وثلاثة من أعلام الحياء : وزن الكلام قبل التفوه به ، ومجانبة ما يحتاج إلى الاعتذار منه ، وترك إجابة السفيه حلما عنه . فأما الحياء من الله تعالى فهو ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام : " أن لا تنسى المقابر والبلا ، وأن تحفظ الرأس وما حوى ، وأن تترك زينة الحياة الدنيا " وثلاثة من أعلام الأفضال : صلة القاطع ، وإعطاء المانع ، والعفو عن الظالم ، وثلاثة من أعلام الصدق : ملازمة الصادقين ، والسكون عند نظر المنفوسين ، ووجدان الكراهة لاطلاع الخلق على السرائر استقامة على الحق سرا وجهرا ، لإيثار رب العالمين .

              وثلاثة من أعلام الانقطاع إلى الله : تقديم العلم ، وتلقين الحكم ، وتأليل الفهم . وثلاثة من أعلام المروءة : إطعام الطعام ، وإفشاء السلام ، ونشر الحسن . وثلاثة من أعلام التودد : التأني في الأحداث ، والتوقر في الزلال ، والترفق في المقال . وثلاثة من أعمال الرشد : حسن المجاورة ، والنصح عند المشاورة ، والبر في المجاورة . وثلاثة من أعلام السعادة : الفقه في الدين ، والتيسير للعمل ، والإخلاص في السعي " .

              أخبرنا محمد بن الحسين بن موسى النيسابوري ، أنبأنا الحسن بن رشيق ، ثنا علي بن يعقوب ، عن سويد الوراق ، ثنا محمد بن إبراهيم البغدادي ، ثنا محمد بن سعيد الخوارزمي ، قال : سمعت ذا النون ، وسئل عن المحبة ، فقال : " أن تحب ما أحب الله ، وتبغض ما أبغض الله ، وتفعل الخير كله ، وترفض كل ما يشغل عن الله ، وأن لا تخاف في الله لومة لائم مع العطف للمؤمنين ، والغلظة للكافرين ، واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين " .

              أخبرنا محمد ، قال : سمعت أبا بكر بن شاذان الرازي ، يقول : سمعت يوسف بن الحسين ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " قال الله تعالى : من كان لي مطيعا كنت له وليا ، فليثق بي ، وليحكم علي ، فوعزتي لو سألني زوال الدنيا لأزلتها له " .

              أخبرني محمد بن أحمد البغدادي - في كتابه - وقد رأيته ، وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني ، قال : سمعت عبد الله بن محمد بن ميمون ، يقول : سمعت ذا النون ، [ ص: 395 ] يقول : " الأنس بالله من صفاء القلب مع الله ، والتفرد بالله الانقطاع إليه من كل شيء سوى الله " .

              أخبرنا محمد بن الحسين ، قال : سمعت منصور بن عبد الله ، يقول : سمعت العباس بن يوسف ، يقول : سمعت سعيد بن عثمان ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " لئن مددت يدي إليك داعيا لطالما كفيتني ساهيا ، فلا أقطع منك رجائي بما عملت يداي ، حسبي من سؤالي علمك بي " .

              قال : وسمعت ذا النون ، يقول : " من أنس بالخلق فقد استمكن من بساط الفراعنة ، ومن غيب عن ملاحظة نفسه فقد استمكن من مجانبة الإخلاص ، ومن كان حظه من الأشياء هواه لا يبالي ما فاته مما هو دونه " .

              حدثنا محمد ، قال : سمعت علي بن محمد ، قال : قال يوسف بن الحسين : سمعت ذا النون يقول : من تزين بعمله كانت حسناته سيئات .

              وسمعت ذا النون يقول : الصدق سيف الله في أرضه ما وضعه على شيء إلا قطعه .

              قال : وسمعت ذا النون ، يقول : " أدنى منازل الأنس أن يلقى في النار فلا يغيب همه عن مأموله " .

              سمعت نصر بن أبي نصر ، يقول : قال ذو النون : " الخوف رقيب العمل ، والرجاء شفيع المحن " .

              أخبرنا محمد بن الحسين ، قال : سمعت أحمد بن علي بن جعفر ، يقول : سمعت الحسن بن سهل ، يقول : سمعت علي بن عبد الله ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " مفتاح العبادة الفكرة ، وعلامة الهوى متابعة الشهوات ، وعلامة التوكل انقطاع المطامع " .

              أخبرنا محمد ، قال : سمعت أبا جعفر الرازي ، يقول : سمعت العباس بن حمزة ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " إن العارف لا يلزم حالة واحدة إنما يلزم ربه في الحالات كلها " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية