الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              حدثنا محمد بن الحسين بن موسى قال : سمعت محمد بن عبد الله الرازي ، يقول : سمعت أبا محمد الجريري ، يقول : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول : " ما أخذنا [ ص: 278 ] التصوف عن القال والقيل ، لكن عن الجوع وترك الدنيا ، وقطع المألوفات ، والمستحسنات ؛ لأن التصوف هو صفاء المعاملة مع الله ، وأصله العزوف عن الدنيا ، كما قال حارثة : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري " .

              حدثنا محمد بن الحسين قال : سمعت أبا بكر الرازي يقول : سمعت أبا محمد الجريري يقول : سمعت الجنيد يقول لرجل ذكر المعرفة فقال الرجل : أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله ، فقال الجنيد : " إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال ، وهذه عندي عظيمة والذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا وإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله ، وإليه رجعوا فيها ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها وإنه لأوكد في معرفتي وأقوى في حالي " .

              أخبرنا جعفر بن محمد في كتابه ، وحدثني عنه محمد بن إبراهيم قال : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول : " حاجة العارفين إلى كلاءته ورعايته ، قال الله عز وجل : ( قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن ) ، ونجح قضاء كل حاجة من الدنيا تركها ، وفتح كل باب شريف بذل المجهود ، قال : ورأيت الجنيد في المنام فقلت : أليس كلام الأنبياء إشارات عن مشاهدات ؟ فتبسم ، وقال : كلام الأنبياء بناء عن حضور ، وكلام الصديقين إشارات عن مشاهدات ، قال : وكتب الجنيد إلى بعض إخوانه : من أشار إلى الله ، وسكن إلى غيره ابتلاه الله وحجب ذكره عن قلبه وأجراه على لسانه فإنه انتبه ، وانقطع عمن سكن إليه ، ورجع إلى من أشار إليه ، كشف الله ما به من المحن والبلوى فإن دام نزع الله على سكونه من قلوب الخلق الرحمة عليه وألبس لباس الطمع لتزداد مطالبته منهم مع فقدان الرحمة من قلوبهم فتصير حياته عجزا وموته كدا ومعاده أسفا ، ونحن نعوذ بالله من السكون إلى غيره " .

              وقال الجنيد : " لو أقبل صادق على الله ألف ألف سنة ، ثم أعرض عنه لحظة كان ما فاته أكثر مما ناله " ، وقال رجل للجنيد : علام يتأسف المحب ؟ قال : على زمان بسط أورث قبضا ، أو زمان أنس أورث وحشة ؟ وأنشأ يقول : [ ص: 279 ]

              قد كان لي مشرب يصفو برؤيتكم فكدرته يد الأيام حين صفا

              كتب إلي جعفر بن محمد ، وأخبرني عنه يوسف بن محمد القواس قال : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول : " إن الله عز وجل يخلص إلى القلوب من بره حسبما خلصت القلوب به إليه من ذكره فانظر ماذا خالط قلبك ؟ " .

              كتب إلي جعفر بن محمد ، وأخبرني عنه محمد بن عبد الله قال : سمعت الجنيد ، يقول : " يا ذاكر الذاكرين بما به ذكروه ، ويا بادئ العارفين بما به عرفوه ، ويا موفق العاملين لصالح ما عملوه ، من ذا الذي يشفع عندك إلا بإذنك ، ومن ذا الذي يذكرك إلا بفضلك " .

              حدثنا علي بن هارون بن محمد قال : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول وكتب إلى بعض إخوانه : " الحمد لله الذي استخلص لنفسه صفوة من خلقه وخصهم بالعلم والمعرفة به فاستعملهم بأحب الأعمال إليه وأقربها من الزلفى لديه ، وبلغهم من ذلك الغاية القصوى والذروة المتناهية العليا ، وبعد فإني أوصيك بترك الالتفات إلى كل حال ماضية فإن الالتفات إلى ما مضى شغل عما يأتي من الحالة الكائنة وأوصيك بترك الملاحظة للحال الكائنة وبترك المنازلة لها بجولان الهمة لملتقى المستقبل من الوقت الوارد بذكر مورده ، ونسق ذكر موجوده فإنك إذا كنت هكذا كنت تذكر من هو أولى ولا تضرك رؤية الأشياء وأوصيك بتجريد الهم وتفريد الذكر ومخالصة الرب بذلك كله واعمل على تخليص همك من همك لهمك واطلب الخالص من ذكر الله جل ثناؤه بقلبك ، وكن حيث يراك لما يراد لك ولا تكن حيث يراد لك لما تريد لنفسك ، واعمل على محو شاهدك من شاهدك حتى يكون الشاهد عليك شاهدا لك بما يخلص من شاهدك ، واعلم أنه إن كنت كلك له كان لك بكل الكل فيما تحبه منه ، فكن مؤثرا له بكل من انبسط له منك ومنه بدا لك ، ومنه به يبسط عليك ما لا يحيط به علمك ، ولا تبلغ إليه أمانيك وآمالك وإذا بليت بمعاشرة طائفة من الناس فعاشرهم على مقادير أماكنهم وكن مشرفا عليهم [ ص: 280 ] بجميل ما آتاك الله وفضلك به ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم " .

              سمعت محمد بن علي بن حبيش ، يقول : سمعت الجنيد بن محمد ، وسئل عن الرضا ، فقال : " سألتم عن العيش الهنيء وقرة العين ، من كان عن الله راضيا ، قال بعض أهل العلم :أهنأ العيش عيش الراضين عن الله ، فالرضا استقبال ما نزل من البلاء بالطاقة والبشر وانتظار ما لم ينزل منه بالتفكر والاعتبار ، وذلك أن ربه عنده أحسن صنعا به وأرحم به وأعلم بما يصلحه ، فإذا نزل القضاء لم يكرهه وكان ذلك إرادته ، مستحسنا ذلك الفعل من ربه ، فإذا عد ما نزل به إحسانا من الله عز وجل فقد رضي ، فالرضا هو الإرادة مع الاستحسان أن يكون مريدا لما صنع محبا راضيا عن الله بقلبه " .

              سمعت أبا الحسن علي بن هارون بن محمد يقول : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول وكتب إلى بعض إخوانه كتابا يقول فيه : " إن الله جل ثناؤه لا يخلي الأرض من أوليائه ولا يعريها من أحبائه ليحفظ بهم من جعلهم سببا لحفظه ويحفظ بهم من جعلهم سببا لكونه ، وأنا أسأل المنان بفضله وطوله أن يجعلنا وإياك من الأمناء على سره الحافظين لما استحفظوه من جليل أمره تجميلا منه لنا بأعظم الرتب وإشرافا بنا على كل ظاهر ومحتجب ، وقد رأيت الله - تعالى وتقدست أسماؤه - زين بسيط أرضه وفسيح سعة ملكه بأوليائه وأولي العلم به وجعلهم أبهج لامع سطع نوره ، وعن لقلوب العارفين ظهوره ، وهم أحسن زينة من السماء البهجة بضياء نجومها ، ونور شمسها وقمرها ، أولئك أعلام لمناهج سبيل هدايته ، ومسالك طرق القاصدين إلى طاعته ، ومنار نور على مدارج الساعين إلى موافقته ، وهم أبين في منافع الخليقة أثرا وأوضح في دفاع المضار عن البرية خيرا من النجوم التي بها في ظلمات البر والبحر يهتدى ، وبآثارها عند ملتبس المسالك يقتدى ؛ لأن دلالات النجوم تكون بها نجاة الأموال والأبدان ، ودلالات العلماء بها تكون سلامة الأديان وشتان ما بين من يفوز بسلامة دينه وبين من يفوز بسلامة دنياه وبدنه " .

              [ ص: 281 ] سمعت عثمان بن محمد العثماني ، يقول : سمعت أبا بكر محمد بن أحمد البغدادي يقول : سئل الجنيد بن محمد عن المحبة : أمن صفات الذات أم من صفات الأفعال ؟ فقال : " إن محبة الله لها تأثير في محبوبه بين ، فالمحبة نفسها من صفات الذات ، ولم يزل الله تعالى محبا لأوليائه وأصفيائه ، فأما تأثيرها فيمن أثرت فيه فإن ذلك من صفات الأفعال ، فاعلم أرشدك الله للصواب " .

              أخبرنا محمد بن أحمد ، في كتابه ، وحدثني عنه عثمان بن محمد قال : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول : " اعلم أنه إذا عظمت فيك المعرفة بالله وامتلأ من ذلك قلبك ، وانشرح بالانقطاع إليه صدرك ، وصفا لذكره فؤادك ، واتصل بالله فهمك ، ذهبت آثارك وامتحيت رسومك ، واستضاءت بالله علومك فعند ذلك يبدو لك علم الحق " .

              سمعت عبد المنعم بن عمر ، يقول : سمعت أبا سعيد ابن الأعرابي ، يقول : سمعت أبا بكر العطار ، يقول : حضرت الجنيد أبا القاسم عند الموت في جماعة من أصحابنا قال : وكان قاعدا يصلي ويثني رجله إذا أراد أن يسجد فلم يزل كذلك حتى خرجت الروح من رجله فثقلت عليه حركتها فمد رجليه ، فرآه بعض أصدقائه ممن حضر ذلك الوقت يقال له البسامي وكانت رجلا أبي القاسم تورمتا ، فقال : ما هذا يا أبا القاسم ؟ قال : " هذه نعم الله ، الله أكبر ، فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجريري : يا أبا القاسم لو اضطجعت ، فقال : يا أبا محمد ، هذا وقت منة ، الله أكبر ، فلم يزل ذلك حاله حتى مات رحمه الله " .

              قال الشيخ : كان الجنيد رحمه الله ممن أحكم علم الشريعة ، فكان عنده اقتباس آثار الذريعة ، وقبوله المدرجة البديعة ، وكان القيام بحقائق الآثار يدفعه عن الرواية والآثار .

              ومن مسانيد حديثه ما حدثناه أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري الحافظ بها قال : حدثني بكير بن أحمد الصوفي بمكة ، ثنا الجنيد أبو القاسم الصوفي ، ثنا الحسن بن عرفة ، ثنا محمد بن كثير الكوفي ، عن عمرو بن قيس الملائي ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احذروا [ ص: 282 ] فراسة المؤمن ؛ فإنه ينظر بنور الله " ، وقرأ : ( إن في ذلك لآيات للمتوسمين ) ، قال : للمتفرسين " .

              حدثنا محمد بن عبد الله بن سعيد ، ثنا عبدان بن أحمد ، ثنا عبد الحميد بن بيان ، ثنا محمد بن كثير ، ثنا عمرو بن قيس ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

              سمعت علي بن هارون بن محمد يقول : سمعت الجنيد بن محمد يدعو بهذا الدعاء فجاءه رجل فشكا إليه الضيق ، فعلمه وقال قل : اللهم إني أسألك منك ما هو لك ، وأستعيذك من كل أمر يسخطك ، اللهم إني أسألك من صفاء الصفاء صفاء أنال به منك شرف العطاء ، اللهم ولا تشغلني شغل من شغله عنك ما أراد منك إلا أن يكون لك ، اللهم اجعلني ممن يذكرك ذكر من لا يريد بذاكره منك إلا ما هو لك ، اللهم اجعل غاية قصدي إليك ما أطلبه منك ، اللهم املأ قلبي بك فرحا ، ولساني بك ذكرا ، وجوارحي فيما يرضيك شغلا ، اللهم امح عن قلبي كل ذكر إلا ذكرك ، وكل حب إلا حبك ، وكل ود إلا ودك ، وكل إجلال إلا إجلالك ، وكل تعظيم إلا تعظيمك ، وكل رجاء إلا لك ، وكل خوف إلا خوفا منك ، وكل رغبة إلا إليك ، وكل رهبة إلا لك ، وكل سؤال إلا منك ، اللهم اجعلني ممن لك يعطي ، ولك يمنع ، وبك يستعين وإليك يلجأ ، وبك يتعزز ، ولك يصبر ، وبحكمك يرضى ، اللهم اجعلني ممن يقصد إليك قصد من لا رجوع له إلا إليك ، اللهم اجعل رضائي بحكمك فيما ابتليتني في كل وقت متصلا غير منفصل ، واجعل صبري لك على طاعتك صبر من ليس له عن الصبر صبر إلا القيام بالصبر ، واجعل تصبري عما يسخطك فيما نهيتني عنه تصبر من استغنى عن الصبر بقوة العصمة منك له ، اللهم واجعلني ممن يستعين بك استعانة من استغنى بقوتك عن جميع خلقك ، اللهم واجعلني ممن يلجأ لجأ من لا ملجأ له إلا إليك ، واجعلني ممن يتعزى بعزائك ويصبر لقضائك أبدا ما أبقيتني ، اللهم وكل سؤال سألته فعن أمر منك لي بالسؤال فاجعل سؤالي لك سؤال محابك ، ولا تجعلني ممن يتعمد بسؤاله مواضع الحظوظ ، بل يسأل القيام بواجب حقك .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية