الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ) وقد اختلف قول أصحابنا وقول المعتزلة في تفسير هذه الآية ، وذلك لأن صرفهم عن الكفار معصية ، فكيف أضافه إلى نفسه ؟ أما أصحابنا فهذا الإشكال غير وارد عليهم ؛ لأن مذهبهم أن الخير والشر بإرادة الله وتخليقه ، فعلى هذا قالوا : معنى هذا الصرف أن الله تعالى رد المسلمين عن الكفار ، وألقى الهزيمة عليهم وسلط الكفار عليهم ، وهذا قول جمهور المفسرين . قالت المعتزلة : هذا التأويل غير جائز ويدل عليه القرآن والعقل ، أما القرآن فهو قوله تعالى : ( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ) [آل عمران : 155] فأضاف ما كان منهم إلى فعل الشيطان ، فكيف يضيفه بعد هذا إلى نفسه ؟ وأما المعقول فهو أنه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف ، ولو كان ذلك بفعل الله لم يجز معاتبة القوم عليه ، كما لا يجوز معاتبتهم على طولهم وقصرهم وصحتهم ومرضهم ، ثم عند هذا ذكروا وجوها من التأويل :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال الجبائي : إن الرماة كانوا فريقين ، بعضهم فارقوا المكان أولا لطلب الغنائم ، وبعضهم بقوا هناك ، ثم هؤلاء الذين بقوا أحاط بهم العدو ، فلو استمروا على المكث هناك لقتلهم العدو من غير فائدة أصلا ، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك الموضع إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه وتحصنوا به [ ص: 32 ] ولم يكونوا عصاة بذلك ، فلما كان ذلك الانصراف جائزا أضافه إلى نفسه بمعنى أنه كان بأمره وإذنه ، ثم قال : ( ليبتليكم ) والمراد أنه تعالى لما صرفهم إلى ذلك المكان وتحصنوا به أمرهم هناك بالجهاد والذب عن بقية المسلمين ، ولا شك أن الإقدام على الجهاد بعد الانهزام ، وبعد أن شاهدوا في تلك المعركة قتل أقربائهم وأحبائهم هو من أعظم أنواع الابتلاء .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : فعلى هذا التأويل هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مذنبين ، فلم قال : ( ولقد عفا عنكم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : الآية مشتملة على ذكر من كان معذورا في الانصراف ومن لم يكن ، وهم الذين بدءوا بالهزيمة فمضوا وعصوا فقوله : ( ثم صرفكم عنهم ) راجع إلى المعذورين ؛ لأن الآية لما اشتملت على قسمين وعلى حكمين رجع كل حكم إلى القسم الذي يليق به ، ونظيره قوله تعالى : ( ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه ) [التوبة : 40] والمراد الذي قال له : ( لا تحزن ) وهو أبو بكر ؛ لأنه كان خائفا قبل هذا القول ، فلما سمع هذا سكن ، ثم قال : ( وأيده بجنود لم تروها ) [التوبة : 40] وعنى بذلك الرسول دون أبي بكر ؛ لأنه كان قد جرى ذكرهما جميعا ، فهذا جملة ما ذكره الجبائي في هذا المقام .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، وهو أن المراد من قوله : ( ثم صرفكم عنهم ) أنه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفار من الرعب من المسلمين عقوبة منه على عصيانهم وفشلهم ، ثم قال : ( ليبتليكم ) أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى الله وترجعوا إليه وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره وملتم فيه إلى الغنيمة ، ثم أعلمهم أنه تعالى قد عفا عنهم .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثالث : قال الكعبي : ( ثم صرفكم عنهم ) بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم ( ليبتليكم ) بكثرة الإنعام عليكم والتخفيف عنكم ، فهذا ما قيل في هذا الموضع والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( ولقد عفا عنكم ) فظاهره يقتضي تقدم ذنب منهم . قال القاضي : إن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بأنه عفا عنهم من غير توبة ، وإن كان من باب الكبائر ، فلا بد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو والمغفرة .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الذنب لا شك أنه كان كبيرة ؛ لأنهم خالفوا صريح نص الرسول ، وصارت تلك المخالفة سببا لانهزام المسلمين ، وقتل جمع عظيم من أكابرهم ، ومعلوم أن كل ذلك من باب الكبائر وأيضا : ظاهر قوله تعالى : ( ومن يولهم يومئذ دبره ) [الأنفال : 16] يدل على كونه كبيرة ، وقول من قال : إنه خاص في بدر ضعيف ؛ لأن اللفظ عام ، ولا تفاوت في المقصود ، فكان التخصيص ممتنعا ، ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة ؛ لأن التوبة غير مذكورة ، فصار هذا دليلا على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر ، وأما دليل المعتزلة في المنع عن ذلك ، فقد تقدم الجواب عنه في سورة البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( والله ذو فضل على المؤمنين ) وهو راجع إلى ما تقدم من ذكر نعمه سبحانه وتعالى بالنصر أولا ، ثم بالعفو عن المذنبين ثانيا . وهذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن ، لأنا بينا أن هذا الذنب كان [ ص: 33 ] من الكبائر ، ثم إنه تعالى سماهم المؤمنين ، فهذا يقتضي أن صاحب الكبيرة مؤمن بخلاف ما تقوله المعتزلة ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية