الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ) وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : هؤلاء هم المنافقون عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما ، كان همهم خلاص أنفسهم ، يقال : همني الشيء أي كان من همي وقصدي ، قال أبو مسلم : من عادة العرب أن يقولوا لمن خاف : قد أهمته نفسه ، فهؤلاء المنافقون لشدة خوفهم من القتل طار النوم عنهم ، وقيل : المؤمنون ، كان همهم النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانهم من المؤمنين ، والمنافقون كان همهم أنفسهم ، وتحقيق القول فيه : أن الإنسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه ، صار غافلا عما سواه ، فلما كان أحب الأشياء إلى الإنسان نفسه ، فعند الخوف على النفس يصير ذاهلا عن كل ما سواها ، فهذا هو المراد من قوله : ( أهمتهم أنفسهم ) وذلك لأن أسباب الخوف وهي قصد الأعداء كانت حاصلة والدافع لذلك وهو الوثوق بوعد الله ووعد رسوله ما كان معتبرا عندهم ؛ لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم ، فلا جرم عظم الخوف في قلوبهم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : ( وطائفة ) رفع بالابتداء وخبره ( يظنون ) وقيل خبره ( أهمتهم أنفسهم ) ثم إنه تعالى وصف هذه الطائفة بأنواع من الصفات .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الأولى : من صفاتهم قوله تعالى : ( يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في هذا الظن احتمالان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : وهو الأظهر : هو أن ذلك الظن أنهم كانوا يقولون في أنفسهم : لو كان محمد محقا في دعواه لما سلط الكفار عليه ، وهذا ظن فاسد ، أما على قول أهل السنة والجماعة ، فلأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه ، فإن النبوة خلعة من الله سبحانه يشرف عبده بها ، وليس يجب في العقل أن المولى إذا شرف عبده بخلعة أن يشرفه بخلعة أخرى ، بل له الأمر والنهي كيف شاء بحكم الإلهية ، وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال الله وأحكامه ، فلا يبعد أن يكون لله تعالى في التخلية بين الكافر والمسلم ، بحيث يقهر الكافر المسلم ، حكم خفية وألطاف مرعية ، فإن الدنيا دار الامتحان والابتلاء ، ووجوه المصالح مستورة عن العقول ، فربما كانت المصلحة في التخلية بين الكافر والمؤمن حتى يقهر الكافر المؤمن ، وربما كانت المصلحة في تسليط الفقر والزمانة على المؤمنين . قال القفال : لو كان كون المؤمن محقا يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناس إلى معرفة المحق بالجبر ، وذلك ينافي التكليف واستحقاق الثواب والعقاب ، بل الإنسان إنما يعرف كونه محقا بما معه من الدلائل والبينات ، فأما القهر فقد يكون من المبطل للمحق ، ومن المحق للمبطل ، وهذه جملة كافية في بيان أنه لا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة على أن صاحبها على الحق .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون إله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات ، وينكرون النبوة [ ص: 39 ] والبعث ، فلا جرم ما وثقوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله يقويهم وينصرهم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : ( غير الحق ) في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به [وظن الجاهلية] بدل منه ، والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق أديان كثيرة ، وأقبحها مقالات أهل الجاهلية ، فذكر أولا أنهم يظنون بالله غير الظن الحق ، ثم بين أنهم اختاروا من أقسام الأديان التي غير حقة أركها وأكثرها بطلانا ، وهو ظن أهل الجاهلية ، كما يقال : فلان دينه ليس بحق ، دينه دين الملاحدة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : في قوله : ( ظن الجاهلية ) قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه كقولك : حاتم الجود ، وعمر العدل ، يريد الظن المختص بالملة الجاهلية .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : المراد : ظن أهل الجاهلية .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الثانية : من الصفات التي ذكرها الله تعالى لهؤلاء المنافقين قوله تعالى : ( يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن قوله : ( هل لنا من الأمر من شيء ) حكاية للشبهة التي تمسك أهل النفاق بها ، وهو يحتمل وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن عبد الله بن أبي لما شاوره النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة ، ثم إن الصحابة ألحوا على النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخرج إليهم ، فغضب عبد الله بن أبي من ذلك ، فقال : عصاني وأطاع الولدان ، ثم لما كثر القتل في بني الخزرج ، ورجع عبد الله بن أبي قيل له : قتل بنو الخزرج ، فقال : هل لنا من الأمر من شيء ، يعني أن محمدا لم يقبل قولي حين أمرته بأن يسكن في المدينة ولا يخرج منها ، ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا : ( لو أطاعونا ما قتلوا ) [آل عمران : 168] والمعنى : هل لنا من أمر يطاع ؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني في التأويل : أن من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لعدوه قالوا : عليه الأمر ، فقوله : ( هل لنا من الأمر من شيء ) أي هل لنا من الشيء الذي كان يعدنا به محمد ، وهو النصرة والقوة شيء ؟ وهذا استفهام على سبيل الإنكار ، وكان غرضهم منه الاستدلال بذلك على أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان كاذبا في ادعاء النصرة والعصمة من الله تعالى لأمته ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن يكون التقدير : أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء ، والغرض منه تصبير المسلمين في التشديد في الجهاد والحرب مع الكفار ، ثم إن الله سبحانه أجاب عن هذه الشبهة بقوله : ( قل إن الأمر كله لله ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو ( كله ) برفع اللام ، والباقون بالنصب ، أما وجه الرفع فهو أن قوله : [كله] مبتدأ وقوله : [لله] خبره ، ثم صارت هذه الجملة خبرا ل [إن] ، وأما النصب فلأن لفظة "كل" للتأكيد ، فكانت كلفظة أجمع ، ولو قيل : إن الأمر أجمع ، لم يكن إلا النصب ، فكذا إذا قال "كله" .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الوجه في تقرير هذا الجواب ما بينا : أنا إذا قلنا بمذهب أهل السنة لم يكن على الله اعتراض في شيء من أفعاله في الإماتة والإحياء ، والفقر والإغناء والسراء والضراء ، وإن قلنا بمذهب القائلين برعاية المصالح ، فوجوه المصالح مخفية لا يعلمها إلا الله تعالى ، فربما كانت المصلحة في إيصال السرور واللذة ، وربما كانت في تسليط الأحزان والآلام ، فقد اندفعت شبهة المنافقين من هذا الوجه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع المحدثات بقضاء الله وقدره ، وذلك لأن [ ص: 40 ] المنافقين قالوا : إن محمدا لو قبل منا رأينا ونصحنا ، لما وقع في هذه المحنة ، فأجاب الله عنه بأن الأمر كله لله ، وهذا الجواب إنما ينتظم لو كانت أفعال العباد بقضاء الله وقدره ومشيئته إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعا لشبهة المنافقين ، فثبت أن هذه الآية دالة على ما ذكرنا . وأيضا فظاهر هذه الآية مطابق للبرهان العقلي ، وذلك لأن الموجود ، إما واجب لذاته أو ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه إلا عند الانتهاء إلى الواجب لذاته ، فثبت أن كل ما سوى الله تعالى مستند إلى إيجاده وتكوينه ، وهذه القاعدة لا اختصاص لها بمحدث دون محدث ، أو ممكن دون ممكن ، فتدخل فيه أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم ، وذلك هو المراد بقوله : ( قل إن الأمر كله لله ) وهذا كلام في غاية الظهور لمن وفقه الله للإنصاف .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية