الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اعلم أن الآية دالة على ذم البخل بشيء من الخيرات والمنافع ، وذلك الخير يحتمل أن يكون مالا ، وأن يكون علما .

                                                                                                                                                                                                                                            فالقول الأول : إن هذا الوعيد ورد على البخل بالمال ، والمعنى : لا يتوهمن هؤلاء البخلاء أن بخلهم هو خير لهم ، بل هو شر لهم ، وذلك لأنه يبقى عقاب بخلهم عليهم ، وهو المراد من قوله : ( سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) مع أنه لا تبقى تلك الأموال عليهم وهذا هو المراد بقوله : ( ولله ميراث السماوات والأرض ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أن المراد من هذا البخل : البخل بالعلم ، وذلك لأن اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ، فكان ذلك الكتمان بخلا ، يقال : فلان يبخل بعلمه ، ولا شك أن العلم فضل من الله تعالى ، قال الله تعالى : ( وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) [ النساء : 113 ] ثم إنه تعالى علم اليهود والنصارى ما في التوراة والإنجيل ، فإذا كتموا ما في هذين الكتابين من البشارة بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم كان ذلك بخلا .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن القول الأول أولى ، ويدل عليه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى قال : ( سيطوقون ما بخلوا به ) ولو فسرنا الآية بالعلم احتجنا إلى تحمل المجاز في تفسير هذه الآية ، ولو فسرناها بالمال لم نحتج إلى المجاز فكان هذا أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنا لو حملنا هذه الآية على المال كان ذلك ترغيبا في بذل المال في الجهاد ، فحينئذ يحصل لهذه الآية مع ما قبلها نظم حسن ، ولو حملناها على أن اليهود كتموا ما عرفوه من التوراة انقطع النظم ، إلا على سبيل التكلف ، فكان الأول أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : أكثر العلماء على أن البخل عبارة عن منع الواجب ، وأن منع التطوع لا يكون بخلا ، واحتجوا عليه بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن الآية دالة على الوعيد الشديد في البخل ، والوعيد لا يليق إلا على الواجب .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه تعالى ذم البخل وعابه ، ومنع التطوع لا يجوز أن يذم فاعله ، وأن يعاب به .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : وهو أنه تعالى لا ينفك عن ترك التفضل لأنه لا نهاية لمقدوراته في التفضل ، وكل ما يدخل في الوجود فهو متناه ، فيكون لا محالة تاركا التفضل ، فلو كان ترك التفضل بخلا لزم أن يكون الله تعالى موصوفا بالبخل لا محالة تعالى الله عز وجل عنه علوا كبيرا .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : قال عليه الصلاة والسلام : " وأي داء أدوأ من البخل " ومعلوم أن تارك التطوع لا يليق به هذا الوصف .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أنه لو كان تارك التفضل بخيلا لوجب فيمن يملك المال كله العظيم أن لا يتخلص من البخل إلا بإخراج الكل .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : أنه تعالى قال : ( ومما رزقناهم ينفقون ) [ البقرة : 3 ] وكلمة " من " للتبعيض ، فكان المراد من هذه الآية : الذين ينفقون بعض ما رزقهم الله ، ثم إنه تعالى قال في صفتهم : ( أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) [ البقرة : 5 ] [ ص: 93 ] فوصفهم بالهدى والفلاح ، ولو كان تارك التطوع بخيلا مذموما لما صح ذلك . فثبت بهذه الآية أن البخل عبارة عن ترك الواجب ، إلا أن الإنفاق الواجب أقسام كثيرة ، منها إنفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين يلزمه مؤنتهم ، ومنها ما يتصل بأبواب الزكاة ، ومنها ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدو يقصد قتلهم ومالهم ، فههنا يجب عليهم إنفاق الأموال على من يدفعه عنهم ، لأن ذلك يجري مجرى دفع الضرر عن النفس ، ومنها إذا صار أحد من المسلمين مضطرا فإنه يجب عليه أن يدفع إليه مقدار ما يستبقي به رمقه ، فكل هذه الإنفاقات من الواجبات وتركه من باب البخل ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في تفسير هذا الوعيد وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن يحمل هذا على ظاهره وهو أنه تعالى يطوقهم بطوق يكون سببا لعذابهم . قيل إنه تعالى يصير تلك الأموال في أعناقهم حياة تكون لهم كالأطواق تلتوي في أعناقهم ، ويجوز أيضا أن تلتوي تلك الحيات في سائر أبدانهم ، فأما ما يصير من ذلك في أعناقهم فعلى جهة أنهم كانوا التزموا أداء الزكاة ثم امتنعوا عنها ، وأما ما يلتوي منها في سائر أبدانهم فعلى جهة أنهم كانوا يضمون تلك الأموال إلى أنفسهم ، فعوضوا منها بأن جعلت حيات التوت عليهم كأنهم قد التزموها وضموها إلى أنفسهم . ويمكن أن يكون الطوق طوقا من نار يجعل في أعناقهم ، ونظيره قوله تعالى : ( يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ) [ التوبة : 35 ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما : تجعل تلك الزكاة الممنوعة في عنقهم كهيئة الطوق شجاعا ذا زبيبتين يلدغ بهما خديه ويقول : أنا الزكاة التي بخلت في الدنيا بي .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : في تفسير قوله : ( سيطوقون ) قال مجاهد : سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة ، ونظيره ما روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ " وعلى الذين يطوقونه فدية " قال المفسرون : يكلفونه ولا يطيقونه ، فكذا قوله : ( سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) أي يؤمرون بأداء ما منعوا حين لا يمكنهم الإتيان به ، فيكون ذلك توبيخا على معنى : هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : أن قوله : ( سيطوقون ما بخلوا به ) أي سيلزمون إثمه في الآخرة ، وهذا على طريق التمثيل لا على أن ثم أطواقا ، يقال منه : فلان كالطوق في رقبة فلان ، والعرب يعبرون عن تأكيد إلزام الشيء بتصييره في العنق ، ومنه يقال : قلدتك هذا الأمر ، وجعلت هذا الأمر في عنقك ; قال تعالى : ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) [ الإسراء : 13 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الرابع : إذا فسرنا هذا البخل بالبخل بالعلم كان معنى " سيطوقون " أن الله تعالى يجعل في رقابهم طوقا من نار ، قال عليه الصلاة والسلام : " من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من النار يوم القيامة " والمعنى أنهم عوقبوا في أفواههم وألسنتهم بهذا اللجام لأنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن تفسير هذا البخل بكتمان دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم غير بعيد ، وذلك لأن اليهود والنصارى [ ص: 94 ] موصوفون بالبخل في القرآن مذمومون به ; قال تعالى في صفتهم : ( أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ) [ النساء : 53 ] وقال أيضا فيهم : ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ) [ النساء : 37 ] وأيضا ذكر عقيب هذه الآية قوله : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) [ آل عمران : 181 ] وذلك من أقوال اليهود ، ولا يبعد أيضا أن تكون الآية عامة في البخل بالعلم ، وفي البخل بالمال ، ويكون الوعيد حاصلا عليهما معا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية