الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 148 ] اعلم أنه تعالى لما أمرهم بإيتائهن صدقاتهن عقبه بذكر جواز قبول إبرائها وهبتها له ، لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت نفسها بتركه ، وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : نفسا : نصب على التمييز والمعنى : طابت أنفسهن لكم عن شيء من الصداق بنقل الفعل من الأنفس إليهن ، فخرجت النفس مفسرة كما قالوا : أنت حسن وجها ، والفعل في الأصل للوجه ، فلما حول إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسرا لموقع الفعل ، ومثله : قررت به عينا وضقت به ذرعا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : إنما وحد النفس ؛ لأن المراد به بيان موقع الفعل ، وذلك يحصل بالواحد ومثله عشرون درهما . قال الفراء : لو جمعت كان صوابا كقوله : ( بالأخسرين أعمالا ) [ الكهف : 103 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : " من " في قوله : ( منه ) ليس للتبعيض ، بل للتبيين ، والمعنى عن شيء من هذا الجنس الذي هو مهر كقوله : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) [ الحج : 30 ] وذلك أن المرأة لو طابت نفسها عن جميع المهر حل للزوج أن يأخذه بالكلية .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : منه : أي من الصدقات أو من ذلك ، وهو كقوله تعالى : ( قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ) [ آل عمران : 15 ] بعد ذكر الشهوات . وروي أنه لما قال رؤبة :


                                                                                                                                                                                                                                            فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق



                                                                                                                                                                                                                                            فقيل له : الضمير في قوله " كأنه " إن عاد إلى الخطوط كان يجب أن تقول : كأنها ، وإن عاد إلى السواد والبلق كان يجب أن تقول : كأنهما ، فقال : أردت كأن ذاك ، وفيه وجه آخر وهو أن الصدقات في معنى الصداق لأنك لو قلت : وآتوا النساء صداقهن لكان المقصود حاصلا ، وفيه وجه ثالث : وهو أن الفائدة في تذكير الضمير أن يعود ذلك إلى بعض الصداق ، والغرض منه ترغيبها في أن لا تهب إلا بعض الصداق .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : معنى الآية : فإن وهبن لكم شيئا من الصداق عن طيبة النفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن ، أو سوء معاشرتكم معهن ، فكلوه وأنفقوه ، وفي الآية دليل على ضيق المسلك في هذا الباب ، ووجوب الاحتياط ، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال : ( فإن طبن ) ولم يقل : فإن وهبن أو سمحن ، إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : الهنيء والمريء : صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ ، إذا كان سائغا لا تنغيص فيه ، وقيل : الهنيء ما يستلذه الآكل ، والمريء ما يحمد عاقبته ، وقيل : ما ينساغ في مجراه ، وقيل لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة : المريء لمروء الطعام فيه وهو انسياغه . وحكى الواحدي عن بعضهم أن أصل الهنيء من الهناء وهو معالجة الجرب بالقطران ، فالهنيء شفاء من الجرب ، قال المفسرون : المعنى أنهن إذا وهبن مهورهن من أزواجهن عن طيبة النفس لم يكن على الأزواج في ذلك تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وبالجملة فهو عبارة عن التحليل ، والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السابعة : قوله : ( هنيئا مريئا ) وصف للمصدر ، أي أكلا هنيئا مريئا ، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هنيء مريء ، وقد يوقف على قوله : ( فكلوه ) ثم يبتدأ بقوله : ( هنيئا مريئا ) على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل : هنأ مرأ .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 149 ] المسألة الثامنة : دلت هذه الآية على أمور : منها : أن المهر لها ولا حق للولي فيه ، ومنها جواز هبتها المهر للزوج ، وجواز أن يأخذه الزوج ؛ لأن قوله : ( فكلوه هنيئا مريئا ) يدل على المعنيين ، ومنها جواز هبتها المهر قبل القبض ؛ لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالتين .

                                                                                                                                                                                                                                            وههنا بحث وهو أن قوله : ( فكلوه هنيئا مريئا ) يتناول ما إذا كان المهر عينا ، أما إذا كان دينا فالآية غير متناولة له ، فإنه لا يقال لما في الذمة : كله هنيئا مريئا .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : المراد بقوله : ( فكلوه هنيئا مريئا ) ليس نفس الأكل ، بل المراد منه حل التصرفات ، وإنما خص الأكل بالذكر ؛ لأن معظم المقصود من المال إنما هو الأكل ، ونظيره قوله تعالى : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) [ النساء : 10 ] وقال : ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة التاسعة : قال بعض العلماء : إن وهبت ثم طلبت بعد الهبة علم أنها لم تطب عنه نفسا ، وعن الشعبي : أن امرأة جاءت مع زوجها شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب الرجوع فقال شريح : رد عليها ، فقال الرجل أليس قد قال الله تعالى : ( فإن طبن لكم عن شيء ) فقال : لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه . وروي عنه أيضا : أقيلها فيما وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن ، وحكي أن رجلا من آل أبي معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه ، فلبث شهرا ثم طلقها ، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان ، فقال الرجل : أعطتني طيبة به نفسها ، فقال عبد الملك : فإن الآية التي بعدها ( فلا تأخذوا منه شيئا ) [ النساء : 20 ] اردد عليها . وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى قضاته : إن النساء يعطين رغبة ورهبة ، فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية