الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية عشرة : ذكرنا أن قوله : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) يدل على صحة العمل بالقياس ، فنقول : كما أن هذه الآية دلت على هذا الأصل ، فكذلك دلت على مسائل كثيرة من فروع القول بالقياس ، ونحن نذكر بعضها :

                                                                                                                                                                                                                                            الفرع الأول : قد ذكرنا أن قوله : ( فردوه إلى الله ) معناه فردوه إلى واقعة بين الله حكمها ، ولا بد وأن يكون المراد فردوها إلى واقعة تشبهها ، إذ لو كان المراد بردها ردها إلى واقعة تخالفها في الصورة والصفة ، فحينئذ لم يكن ردها إلى بعض الصور أولى من ردها إلى الباقي ، وحينئذ يتعذر الرد ، فعلمنا أنه لا بد وأن يكون المراد : فردوها إلى واقعة تشبهها في الصورة والصفة . ثم إن هذا المعنى الذي قلناه يؤكد بالخبر والأثر ، أما الخبر فإنهم لما سألوه صلى الله عليه وسلم عن قبلة الصائم فقال عليه الصلاة والسلام : " أرأيت لو تمضمضت " يعني المضمضة مقدمة الأكل ، كما أن القبلة مقدمة الجماع ، فكما أن تلك المضمضة لم تنقض الصوم ، فكذا القبلة . ولما سألته الخثعمية عن الحج فقال عليه الصلاة والسلام : أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته هل يجزي فقالت نعم : قال عليه الصلاة والسلام : فدين الله أحق بالقضاء " وأما الأثر فما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك ، فدل مجموع ما ذكرناه من دلالة هذه الآية ودلالة الخبر ودلالة الأثر على أن قوله : ( فردوه ) أمر برد الشيء إلى شبيهه ، وإذا ثبت هذا فقد جعل الله المشابهة في الصورة والصفة دليلا على أن الحكم في غير محل النص مشابه للحكم في محل النص ، وهذا هو الذي يسميه الشافعي رحمه الله قياس الأشباه ، ويسميه أكثر الفقهاء قياس الطرد ، ودلت هذه الآية على صحته لأنه لما ثبت بالدليل أن المراد من قوله : ( فردوه ) هو أنه : ردوه إلى شبيهه ، علمنا أن الأصل المعول عليه في باب القياس محض المشابهة ، وهذا بحث فيه طول ، ومرادنا بيان كيفية استنباط المسائل من الآيات ، فأما [ ص: 122 ] الاستقصاء فيها فمذكور في سائر الكتب .

                                                                                                                                                                                                                                            الفرع الثاني : دلت الآية على أن شرط الاستدلال بالقياس في المسألة أن لا يكون فيها نص من الكتاب والسنة لأن قوله : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه ) مشعر بهذا الاشتراط .

                                                                                                                                                                                                                                            الفرع الثالث : دلت الآية على أنه إذا لم يوجد في الواقعة نص من الكتاب والسنة والإجماع جاز استعمال القياس فيه كيف كان ، وبطل به قول من قال : لا يجوز استعمال القياس في الكفارات والحدود وغيرهما ؛ لأن قوله : ( فإن تنازعتم في شيء ) عام في كل واقعة لا نص فيها .

                                                                                                                                                                                                                                            الفرع الرابع : دلت الآية على أن من أثبت الحكم في صورة بالقياس فلا بد وأن يقيسه على صورة ثبت الحكم فيها بالنص ، ولا يجوز أن يقيسه على صورة ثبت الحكم فيها بالقياس لأن قوله : ( فردوه إلى الله والرسول ) ظاهره مشعر بأنه يجب رده إلى الحكم الذي ثبت بنص الله ونص رسوله .

                                                                                                                                                                                                                                            الفرع الخامس : دلت الآية على أن القياس على الأصل الذي ثبت حكمه بالقرآن ، والقياس على الأصل الذي ثبت حكمه بالسنة إذا تعارضا كان القياس على القرآن مقدما على القياس على الخبر لأنه تعالى قدم الكتاب على السنة في قوله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) وفي قوله : ( فردوه إلى الله والرسول ) وكذلك في خبر معاذ .

                                                                                                                                                                                                                                            الفرع السادس : دلت الآية على أنه إذا تعارض قياسان أحدهما تأيد بإيماء في كتاب الله والآخر تأيد بإيماء خبر من أخبار رسول الله ، فإن الأول مقدم على الثاني ، يعني كما ذكرناه في الفرع الخامس ، فهذه المسائل الأصولية استنبطناها من هذه الآية في أقل من ساعتين ، ولعل الإنسان إذا استعمل الفكر على الاستقصاء أمكنه استنباط أكثر مسائل أصول الفقه من هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة عشرة : قوله : ( وأولي الأمر ) معناه ذوو الأمر وأولو جمع ، وواحده ذو على غير القياس ، كالنساء والإبل والخيل ، كلها أسماء للجمع ولا واحد له في اللفظ .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة عشرة : قوله : ( فإن تنازعتم ) قال الزجاج : اختلفتم وقال كل فريق : القول قولي واشتقاق المنازعة من النزع الذي هو الجذب ، والمنازعة عبارة عن مجاذبة كل واحد من الخصمين لحجة مصححة لقوله ، أو محاولة جذب قوله ونزعه إياه عما يفسده .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية