الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في انتصاب قوله : ( أجرا ) وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : انتصب بقوله : ( وفضل ) ؛ لأنه في معنى قولهم : آجرهم أجرا ، ثم قوله : ( درجات منه ومغفرة ورحمة ) بدل من قوله : ( أجرا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : انتصب على التمييز و ( درجات ) عطف بيان ( ومغفرة ورحمة ) معطوفان على " درجات " .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : لقائل أن يقول : إنه تعالى ذكر أولا درجة ، وههنا درجات ، وجوابه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : المراد بالدرجة ليس هو الدرجة الواحدة بالعدد ، بل بالجنس ، والواحد بالجنس يدخل تحته الكثير بالنوع ، وذلك هو الأجر العظيم ، والدرجات الرفيعة في الجنة المغفرة والرحمة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن المجاهد أفضل من القاعد الذي يكون من الأضراء بدرجة ، ومن القاعد الذي يكون من الأصحاء بدرجات ، وهذا الجواب إنما يتمشى إذا قلنا بأن قوله : ( غير أولي الضرر ) لا يوجب حصول المساواة بين المجاهدين وبين القاعدين الأضراء .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 9 ] الثالث : فضل الله المجاهدين في الدنيا بدرجة واحدة وهي الغنيمة ، وفي الآخرة بدرجات كثيرة في الجنة بالفضل والرحمة والمغفرة .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : قال في أول الآية : ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) ولا يمكن أن يكون المراد من هذا المجاهد هو المجاهد بالمال والنفس فقط ، وإلا حصل التكرار ، فوجب أن يكون المراد منه : من كان مجاهدا على الإطلاق في كل الأمور ، أعني في عمل الظاهر ، وهو الجهاد بالنفس والمال والقلب وهو أشرف أنواع المجاهدة ، كما قال عليه السلام : " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " . وحاصل هذا الجهاد صرف القلب من الالتفات إلى غير الله ، إلى الاستغراق في طاعة الله ، ولما كان هذا المقام أعلى مما قبله لا جرم جعل فضيلة الأول درجة ، وفضيلة هذا الثاني درجات .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قالت الشيعة : دلت هذه الآية على أن علي بن أبي طالب - عليه السلام - أفضل من أبي بكر ؛ وذلك لأن عليا كان أكثر جهادا ، فالقدر الذي فيه حصول التفاوت كان أبو بكر من القاعدين فيه ، وعلي من القائمين ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون علي أفضل منه لقوله تعالى : ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) . فيقال لهم : إن مباشرة علي -عليه السلام- لقتل الكفار كانت أكثر من مباشرة الرسول لذلك ، فيلزمكم بحكم هذه الآية أن يكون علي أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا لا يقوله عاقل .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قلتم : إن مجاهدة الرسول مع الكفار كانت أعظم من مجاهدة علي معهم ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجاهد الكفار بتقرير الدلائل والبينات وإزالة الشبهات والضلالات ، وهذا الجهاد أكمل من ذلك الجهاد ، فنقول : فاقبلوا منا مثله في حق أبي بكر ، وذلك أن أبا بكر -رضي الله عنه- لما أسلم في أول الأمر سعى في إسلام سائر الناس ، حتى أسلم على يده عثمان بن عفان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعثمان بن مظعون ، وكان يبالغ في ترغيب الناس في الإيمان وفي الذب عن محمد صلى الله عليه وسلم بنفسه وبماله ، وعلي في ذلك الوقت كان صبيا ما كان أحد يسلم بقوله ، وما كان قادرا على الذب عن محمد عليه الصلاة والسلام ، فكان جهاد أبي بكر أفضل من جهاد علي من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن جهاد أبي بكر كان في أول الأمر حين كان الإسلام في غاية الضعف ، وأما جهاد علي فإنما ظهر في المدينة في الغزوات ، وكان الإسلام في ذلك الوقت قويا .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن جهاد أبي بكر كان بالدعوة إلى الدين ، وأكثر أفاضل العشرة إنما أسلموا على يده ، وهذا النوع من الجهاد هو حرفة النبي عليه الصلاة والسلام ، وأما جهاد علي فإنما كان بالقتل ، ولا شك أن الأول أفضل .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : دلت الآية على أن نعيم الجنة لا ينال إلا بالعمل ؛ لأن التفاوت في العمل لما أوجب التفاوت في الثواب والفضيلة دل ذلك على أن علة الثواب هو العمل ، وأيضا لو لم يكن العمل موجبا للثواب لكان الثواب هبة لا أجرا ، لكنه تعالى سماه أجرا ، فبطل القول بذلك ، فيقال لهم : لم لا يجوز أن يقال : العمل علة الثواب لكن لا لذاته ، بل يجعل الشارع ذلك العمل موجبا له .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : قالت الشافعية : دلت الآية على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح ، لأنا بينا أن الجهاد فرض على الكفاية بدليل قوله : ( وكلا وعد الله الحسنى ) ولو كان الجهاد من فروض الأعيان لما كان القاعد عن الجهاد موعودا من عند الله بالحسنى .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فنقول : إذا قامت طائفة بالجهاد سقط الفرض عن الباقين ، فلو أقدموا عليه كان ذلك من النوافل لا محالة ، ثم إن قوله : ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) يتناول جميع المجاهدين [ ص: 10 ] سواء كان جهاده واجبا أو مندوبا ، والمشتغل بالنكاح قاعد عن الجهاد ، فثبت أن الاشتغال بالجهاد المندوب أفضل من الاشتغال بالنكاح ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية