الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 60 ] قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنها متصلة بقوله : ( كونوا قوامين بالقسط ) ؛ وذلك لأن الإنسان لا يكون قائما بالقسط إلا إذا كان راسخ القدم في الإيمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : أنه تعالى لما بين الأحكام الكثيرة في هذه السورة ذكر عقيبها آية الأمر بالإيمان .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اعلم أن ظاهر قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ) مشعر بأنه أمر بتحصيل الحاصل ، ولا شك أنه محال ؛ فلهذا السبب ذكر المفسرون فيه وجوها وهي منحصرة في قولين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المراد بقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا ) المسلمون ، ثم في تفسير الآية تفريعا على هذا القول وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المراد منه يا أيها الذين آمنوا آمنوا دوموا على الإيمان واثبتوا عليه ، وحاصله يرجع إلى هذا المعنى : يا أيها الذين آمنوا في الماضي والحاضر ، آمنوا في المستقبل ، ونظيره قوله : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) [محمد : 19 ] ، مع أنه كان عالما بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : يا أيها الذين آمنوا على سبيل التقليد آمنوا على سبيل الاستدلال .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : يا أيها الذين آمنوا بحسب الاستدلالات الجميلة آمنوا بحسب الدلائل التفصيلية .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : يا أيها الذين آمنوا بالدلائل التفصيلية بالله وملائكته وكتبه ورسله آمنوا بأن كنه عظمة الله لا تنتهي إليه عقولكم ، وكذلك أحوال الملائكة وأسرار الكتب وصفات الرسل لا تنتهي إليها على سبيل التفصيل عقولنا .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : روي أن جماعة من أحبار اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله ، إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل ، فقال صلى الله عليه وسلم : بل آمنوا بالله وبرسله وبمحمد وبكتابه القرآن ، وبكل كتاب كان قبله ، فقالوا : لا نفعل ، فنزلت هذه الآية فكلهم آمنوا .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : أن المخاطبين بقوله : ( آمنوا ) ليس هم المسلمون ، وفي تفسير الآية تفريعا على هذا القول وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الخطاب مع اليهود والنصارى ، والتقدير : يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة ، وعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الخطاب مع المنافقين ، والتقدير : يا أيها الذين آمنوا باللسان آمنوا بالقلب ، ويتأكد هذا بقوله تعالى : ( من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ) [المائدة : 41] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنه خطاب مع الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره ، والتقدير : يا أيها الذين آمنوا وجه النهار آمنوا أيضا آخره .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أنه خطاب للمشركين تقديره : يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى آمنوا بالله ، وأكثر العلماء رجحوا القول الأول ؛ لأن لفظ المؤمن لا يتناول عند الإطلاق إلا المسلمين .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : " والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل " على ما لم يسم فاعله ، والباقون : " نزل وأنزل" بالفتح ، فمن ضم فحجته قوله تعالى : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) [ النحل : 44 ] ، وقال في آية أخرى : ( والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك ) [الأنعام : 114] ، ومن فتح فحجته قوله : ( إنا نحن نزلنا الذكر ) [ الحجر : 9 ] ، وقوله : ( وأنزلنا إليك الذكر ) [ النحل : 44 ] ، وقال بعض العلماء : كلاهما حسن إلا أن الضم أفخم ، كما في قوله : ( وقيل ياأرض ابلعي ماءك ) [هود : 44] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية