الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( وجعل الظلمات والنور ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : لفظ ( جعل ) يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله تعالى : ( وجعل الظلمات والنور ) وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله : ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ) [ الزخرف : 19 ] والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير ، وفي الجعل معنى التضمين والتصيير كإنشاء شيء من شيء ، وتصيير شيء شيئا ، ومنه : قوله تعالى : ( وجعل منها زوجها ) [ الأعراف : 189 ] وقوله : ( وخلقناكم أزواجا ) [ النبأ : 8 ] وقوله : ( أجعل الآلهة إلها واحدا ) [ ص : 5 ] وإنما حسن لفظ الجعل ههنا ؛ لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كأن كل واحد منهما إنما تولد من الآخر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : في لفظ ( الظلمات والنور ) قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المراد منهما الأمران المحسوسان بحس البصر والذي يقوي ذلك أن اللفظ حقيقة فيهما ، وأيضا هذان الأمران إذا جعلا مقرونين بذكر السماوات والأرض ، فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : نقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال : ( وجعل الظلمات والنور ) أي : ظلمة الشرك والنفاق والكفر ، والنور يريد نور الإسلام والإيمان والنبوة واليقين . ونقل عن الحسن أنه قال : يعني الكفر والإيمان ، ولا تفاوت بين هذين القولين ، فكان قول الحسن كالتلخيص لقول ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                            ولقائل أن يقول : حمل اللفظ على الوجه الأول أولى ، لما ذكرنا أن الأصل حمل اللفظ على حقيقته ؛ ولأن الظلمات والنور إذا كان ذكرهما مقرونا بالسماوات والأرض لم يفهم منه إلا ما ذكرناه .

                                                                                                                                                                                                                                            قال الواحدي : والأولى حمل اللفظ عليهما معا ، وأقول هذا مشكل ؛ لأنه حمل للفظ على مجازه ، واللفظ الواحد بالاعتبار الواحد لا يمكن حمله على حقيقته ومجازه معا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : إنما قدم ذكر الظلمات على ذكر النور لأجل أن الظلمة عبارة عن عدم النور عن الجسم الذي من شأنه قبول النور ، وليست عبارة عن كيفية وجودية مضادة للنور ، والدليل عليه أنه إذا جلس إنسان بقرب السراج ، وجلس إنسان آخر بالبعد منه ، فإن البعيد يرى القريب ويرى ذلك الهواء صافيا مضيئا ، وأما القريب فإنه لا يرى البعيد ، ويرى ذلك الهواء مظلما ، فلو كانت الظلمة كيفية وجودية لكانت حاصلة بالنسبة إلى هذين الشخصين المذكورين ، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الظلمة ليست كيفية وجودية .

                                                                                                                                                                                                                                            وإذ ثبت هذا فنقول : عدم المحدثات متقدم على وجودها ، فالظلمة متقدمة في التقدير والتحقق على النور ، فوجب تقديمها في اللفظ ، ومما يقوي ذلك ما يروى في الأخبار الإلهية أنه تعالى خلق الخلق في ظلمة ، ثم رش عليهم من نوره .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : لم ذكر الظلمات بصيغة الجمع ، والنور بصيغة الواحد ؟ فنقول : أما من حمل الظلمات على الكفر والنور على الإيمان ، فكلامه ههنا ظاهر ؛ لأن الحق واحد والباطل كثير ، وأما من حملها على الكيفية المحسوسة ، فالجواب : أن النور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية ، ثم إنها تقبل التناقص قليلا قليلا ، وتلك المراتب كثيرة ، فلهذا السبب عبر عن الظلمات بصيغة الجمع . [ ص: 126 ]

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية