الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            فإن قال قائل : فيلزمكم في التزام هذا الحصر تحليل النجاسات والمستقذرات ، ويلزم عليه أيضا تحليل الخمر ، وأيضا فيلزمكم تحليل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة مع أن الله تعالى حكم بتحريمها .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : هذا لا يلزمنا من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى قال في هذه الآية : ( أو لحم خنزير فإنه رجس ) ومعناه أنه تعالى إنما حرم لحم الخنزير لكونه نجسا ، فهذا يقتضي أن النجاسة علة لتحريم الأكل ، فوجب أن يكون كل نجس يحرم أكله ، وإذا كان هذا مذكورا في الآية كان السؤال ساقطا .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه تعالى قال في آية أخرى : ( ويحرم عليهم الخبائث ) [ الأعراف : 157 ] وذلك يقتضي تحريم كل الخبائث ، والنجاسات خبائث ، فوجب القول بتحريمها .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن الأمة مجمعة على حرمة تناول النجاسات ، فهب أنا التزمنا تخصيص هذه السورة بدلالة النقل المتواتر من دين محمد في باب النجاسات . فوجب أن يبقى ما سواها على وفق الأصل تمسكا بعموم كتاب الله في الآية المكية والآية المدنية ، فهذا أصل مقرر كامل في باب ما يحل وما يحرم من المطعومات ، وأما الخمر فالجواب عنه : أنها نجسة فيكون من الرجس فيدخل تحت قوله : ( رجس ) وتحت قوله : ( ويحرم عليهم الخبائث ) وأيضا ثبت تخصيصه بالنقل المتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم في تحريمه ، وبقوله تعالى : ( فاجتنبوه ) وبقوله : ( وإثمهما أكبر من نفعهما ) [ البقرة : 219 ] والعام المخصوص حجة في غير محل التخصيص ، فتبقى هذه الآية فيما عداها حجة . وأما قوله ويلزم تحليل الموقوذة والمتردية والنطيحة .

                                                                                                                                                                                                                                            فالجواب عنه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : أنها ميتات . فكانت داخلة تحت هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنا نخص عموم هذه الآية بتلك الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن نقول إنها إن كانت ميتة دخلت تحت هذه الآية ، وإن لم تكن ميتة فنخصصها بتلك الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قال قائل : المحرمات من المطعومات أكثر مما ذكر في هذه الآية فما وجهها ؟

                                                                                                                                                                                                                                            أجابوا عنه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن المعنى لا أجد محرما مما كان أهل الجاهلية يحرمه من البحائر والسوائب وغيرها إلا ما ذكر في هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن تحريم غير ما نص [ ص: 181 ] عليه في هذه الآية ثم وجدت محرمات أخرى بعد ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : هب أن اللفظ عام إلا أن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز فنحن نخصص هذا العموم بأخبار الآحاد .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن مقتضى هذه الآية أن نقول إنه لا يجد في القرآن ، ويجوز أن يحرم الله تعالى ما سوى هذه الأربعة على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام . ولقائل أن يقول : هذه الأجوبة ضعيفة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الجواب الأول : فضعيف لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : لا يجوز أن يكون المراد من قوله : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما ) ما كان يحرمه أهل الجاهلية من السوائب والبحائر وغيرها إذ لو كان المراد ذلك لما كانت الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب داخلة تحته ، ولو لم تكن هذه الأشياء داخلة تحت قوله : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما ) لما حسن استثناؤها ، ولما رأينا أن هذه الأشياء مستثناة عن تلك الكلمة ، علمنا أنه ليس المراد من تلك الكلمة ما ذكروه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه تعالى حكم بفساد قولهم في تحريم تلك الأشياء ، ثم إنه تعالى في هذه الآية خصص المحرمات في هذه الأربعة ، وتحليل تلك الأشياء التي حرمها أهل الجاهلية لا يمنع من تحليل غيرها ، فوجب إبقاء هذه الآية على عمومها ، لأن تخصيصها يوجب ترك العمل بعمومها من غير دليل .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنه تعالى قال في سورة البقرة : ( إنما حرم عليكم ) وذكر هذه الأشياء الأربعة ، وكلمة " إنما " تفيد الحصر ، وهذه الآية في سورة البقرة غير مسبوقة بحكاية أقوال أهل الجاهلية في تحريم البحائر والسوائب فسقط هذا العذر .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما جوابهم الثاني : وهو أن المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن محرما إلا هذه الأربعة .

                                                                                                                                                                                                                                            فجوابه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : أن قوله تعالى في سورة البقرة : ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ) آية مدنية نزلت بعد استقرار الشريعة ، وكلمة " إنما " تفيد الحصر فدل هاتان الآيتان على أن الحكم الثابت في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه لما ثبت بمقتضى هاتين الآيتين حصر المحرمات في هذه الأربعة كان هذا اعترافا بحل ما سواها ، فالقول بتحريم شيء خامس يكون نسخا ، ولا شك أن مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ؛ لأنه لو كان احتمال طريان الناسخ معادلا لاحتمال بقاء الحكم على ما كان ، فحينئذ لا يمكن التمسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال : إنه وإن كان ثابتا إلا أنه زال ، ولما اتفق الكل على أن الأصل عدم النسخ ، وأن القائل به والذاهب إليه هو المحتاج إلى الدليل ؛ علمنا فساد هذا السؤال .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما جوابهم الثالث : وهو أنا نخصص عموم القرآن بخبر الواحد . فنقول : ليس هذا من باب التخصيص ، بل هو صريح النسخ ؛ لأن قوله تعالى : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه ) مبالغة في أنه لا يحرم سوى هذه الأربعة ، وقوله في سورة البقرة : ( إنما حرم عليكم الميتة ) وكذا وكذا ، تصريح بحصر المحرمات في هذه الأربعة ؛ لأن كلمة " إنما " تفيد الحصر ، فالقول بأنه ليس الأمر كذلك يكون دفعا لهذا الذي ثبت بمقتضى هاتين الآيتين أنه كان ثابتا في أول الشريعة بمكة ، وفي آخرها بالمدينة ، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 182 ] وأما جوابهم الرابع : فضعيف أيضا ؛ لأن قوله تعالى : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي ) يتناول كل ما كان وحيا ، سواء كان ذلك الوحي قرآنا أو غيره ، وأيضا فقوله في سورة البقرة : ( إنما حرم عليكم الميتة ) يزيل هذا الاحتمال . فثبت بالتقرير الذي ذكرنا قوة هذا الكلام ، وصحة هذا المذهب ، وهو الذي كان يقول به مالك بن أنس رحمه الله ، ومن السؤالات الضعيفة أن كثيرا من الفقهاء خصصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه عليه الصلاة والسلام قال : " ما استخبثه العرب فهو حرام " وقد علم أن الذي يستخبثه العرب فهو غير مضبوط ، فسيد العرب بل سيد العالمين محمد صلوات الله عليه ، لما رآهم يأكلون الضب قال : " يعافه طبعي " ثم إن هذا الاستقذار ما صار سببا لتحريم الضب . وأما سائر العرب فمنهم من لا يستقذر شيئا ، وقد يختلفون في بعض الأشياء ، فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون ، فعلمنا أن أمر الاستقذار غير مضبوط ، بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ، فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم ؟

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية